شذرات الذهب في نصائح من ذهب

اتَّفق علماء الاجتماع والسِّياسة والمؤرِّخون من الأمم المختلفة؛ على أنَّ العرب ما نَهضوا نهضتهم الأخيرة بالمدنيَّة والعمران؛ إلا بتأثير الإسلام في جمع كلمتِهم، وإصلاح شؤونهم النفسيَّة والعمَلية، ولكن اضطرب كثيرٌ من الناس في سبب ضعف المسلمين بعد قوَّتِهم، وذهاب ملكِهم وحضارتهم..

  • التصنيفات: تربية النفس -


إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستهدِيه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفُسِنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].

أمّا بعد:


«فإنَّ أحسن الكلام كلامُ الله تعالى، وخيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محُدثاتُها، وكلَّ محدثَةٍ بِدْعَة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار» (مسلم).

أمَّا بعد:

فقد اتَّفق علماء الاجتماع والسِّياسة والمؤرِّخون من الأمم المختلفة؛ على أنَّ العرب ما نَهضوا نهضتهم الأخيرة بالمدنيَّة والعمران؛ إلا بتأثير الإسلام في جمع كلمتِهم، وإصلاح شؤونهم النفسيَّة والعمَلية، ولكن اضطرب كثيرٌ من الناس في سبب ضعف المسلمين بعد قوَّتِهم، وذهاب ملكِهم وحضارتهم؛ فنسَب بعضُهم كلَّ ذلك إلى دينهم، ومن يتكلَّم في ذلك على بصيرة، يُثبت أنَّ الدِّين الذي كان سببَ الصلاح والإصلاح، لا يمكن أن يكون سببَ الفساد والاختلال؛ لأنَّ العلّة واحدة، لا يصدر عنها معلولاتٌ متناقضة، فإذا كان لدين المسلمين تأثيرٌ في سوء حال خلَفِهم، فلا بدَّ أن يكون ذلك من جهة غير الجهة التي صلحَتْ بها حال سلَفِهم، ما هي إلاَّ البِدَعُ والمُحْدَثات التي فرَّقت جماعتَهم، وزحزحتهم عن الصِّراط المستقيم.

كن متبِعًا ولا تكن مبتدعًا:

1 - البدعةُ لغةً: بدَع الشيءَ يَبْدَعُه بَدْعًا
،
وابْتَدَعَه: أَنشأَه وبدأَه،
وبَدَعَ الرَّكِيَّة: اسْتَنْبَطَها وأَحدَثها،
ورَكِيٌّ بَدِيعٌ: حَدِيثةُ الحَفْر،
والبَدِيعُ والبِدْعُ: الشيء الذي يكون أَوّلاً،
وفي التَّنْزيل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]؛ أيْ: ما كنت أَوّلَ من أُرْسِلَ؛ قد أُرسل قبلي رُسُلٌ كثير (لسان العرب).

وقال الرازيُّ: "ب د ع: أبْدَعَ الشيءَ: اخترعه لا على مثالٍ،

والله بديعُ السَّماوات والأرض؛ أي: مُبْدِعهُما،
والبديعُ: المبتدِع، والمُبْتَدَعُ أيضًا، والبديعُ أيضًا الزِّقُّ،
وفي الحديث: «إن تهامة كبديع العسل؛ حلوٌ أوَّله، حلو آخره»؛ شبَّهها بزِقِّ العسل؛ لأنَّه لا يتغيَّر، بخلاف اللَّبَن،
وأبْدَعَ الشاعرُ: جاء بالبديع،
وشيءٌ بِدْعٌ بالكسر: أيْ: مُبتدَع،
وفلان بِدْعٌ في هذا الأمر: أيْ بديع، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]،
والبِدْعةُ: الحدَثُ في الدِّين بعد الإكمال،
واستَبْدَعَهُ: عدَّه بديعًا،
وبَدَّعَهُ تبْدِيعًا: نسبه إلى البدعة (مختار الصحاح).

قال الأصفهانيُّ: "الإبداع: إنشاءُ صنعة بلا احتذاءٍ واقتداء...." (مفردات غريب القرآن).

2 - البدعة شرعًا: قال الشاطبِيُّ رحمه الله: "البدعة طريقة في الدِّين مخترَعة، تُضاهي الشرعيَّة، يُقصَد بالسُّلوك عليها ما يُقصَد بالطريقة الشرعيَّة" (الاعتصام - مشهور حسن).

قال الشيخ أحمد الوصابي حفظه الله: "البدعة هي كلُّ اعتقادٍ أو عمل أو لفظ أُحْدِثَ بعد موت النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنيَّة التعبُّد والتقرُّب لله، ولم يدلَّ عليها دليلٌ في الكتاب والسُّنة، ولا من فِعْل السَّلف الصالح" (القول المفيد في أدلة التوحيد).


أقسام البدعة خمسة وكلُّها ضلال وبعضها أصلٌ من بعض:

أ - بدعة اعتقاديَّة: وهي كلُّ اعتقادٍ يُخالف الكتاب والسنَّة، كمن يعتقد أنَّ الأقطابَ (الأسياد)، والأَبْدَال (قوم من الصالحين)، والأغواث (المستغاث بهم) يتصرَّفون في الكون، أو يَعْلمون الغيب.

ب - بدعة عمليَّة: وهي كلُّ عمل يقوم به الشخص تعبُّدًا، وهو مُخالف للكتاب والسُّنة كمن يرقص عند الذِّكر.

ج - بدعة ماليَّة: وهي صَرْف كلِّ مال تعبُّدًا في شيءٍ مُخالف للكتاب، كبناء القباب على القبور، وجَعْل التَّوابيت عليها.

د - بدعة تَرْكيَّة: وهي تَرْكُ الشيء من الدِّين أو المباح؛ تعبُّدًا، كمن ترك النِّكاح أو أكْل اللَّحم تقرُّبًا.

ه - بدعة لفظيَّة: وهي كلُّ لفظ يَتَلفَّظ به الشخص تعبدًا، وهو مخالف للكتاب والسُّنة، كمن يذكر الله بالاسم المُفْرَد: الله، أو بالضَّمير: هو، (مجموع الفتاوى - ابن تيمية).

قال الشيخ حافظ الحكَميُّ رحمه الله: "ثُمَّ البدع بحسب إخلالِها بالدِّين قسمان: مكفِّرة لمنتحِلها، وغير مكفِّرة،

فضابط البِدعة المكفِّرة: مَن أنكر أمرًا مُجمَعًا عليه، متواتِرًا من الشَّرع، معلومًا من الدِّين بالضرورة؛ من جحودِ مفروضٍ من الفرائض، أو فَرْض ما لم يُفرض، أو تحليل مُحرَّم، أو تحريم حلال، أو اعتقاد ثبوت ما تنَزَّه الله ورسولُه وكتابه عنه.

والبدعة غير المُكَفِّرَة: هي ما لم يَلْزم منه تكذيبٌ بالكتاب ولا بشيءٍ مِمَّا أَرسل الله به رسُلَه، مثل بدع المروانيَّة؛ أيْ: بِدَع حكَّام الدولة الأمويَّة مِن بني مروان، التي أنكرها عليهم فُضَلاء الصَّحابة، ولم يُقِرُّوهم عليها، ومع ذلك لم يكفِّروهم بشيءٍ منها، ولم يَنْزِعوا يدًا من بيعتهم لأجلها؛ كتأخيرِهم بعض الصَّلوات عن وقتها، وتقديمهم الخُطبة قبل صلاة العيد" (معارج القبول).

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من البدع:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «من عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (رواه مسلم).

وفي الصَّحيحين عن عائشة أيضًا: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أحدَث في أمرِنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ» (متفق عليه)، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن رغب عن سُنَّتي فليس منِّي» (صحيح الجامع)، وقال أيضًا: «تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا أبدًا: كتاب الله وسُنَّتي» (أخرجه احاكم وصححه الألباني - صحيح الترغيب والترهيب)، وقال: «أوصيكم بتقوى الله، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنَّه من يَعِشْ منكم من بعدي فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بِسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي؛ عَضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومُحْدَثات الأمور؛ فإن كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ» (رواه ابن داوود والترمذي)، وعن أبي هُرَيرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثلُ أجورِ مَن تبِعَه، لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تَبِعَه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» (رواه مسلم).

وعند الإمام مسلمٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب النَّاس على المنبر، ويقول: «أمَّا بعدُ، فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة»؛ وزاد النسائي بسندٍ صحيح: «وكلَّ ضلالةٍ في النَّار».

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرُ النَّاس قرني، ثم الذين يَلُونَهُمْ، ثم الذين يلُونَهُمْ، ثُمَّ يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه» (رواه أحمد وصححه الألباني).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اليهود افترقَتْ على إحدى وسبعين فرقةً، والنَّصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وأنَّ هذه الأُمَّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّها في النَّار إلاَّ واحدة»، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: «الجماعة»، وفي روايةٍ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»، وفي رواية أخرى: «السَّواد الأعظم» (الصحيحة).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله مَن لعن والِدَيه، ولعن الله من ذبَح لغير الله، ولعن الله مَن آوى مُحْدِثًا، ولعن الله من غيَّرَ منار الأرض» (صحيح الجامع).

هذا فيمن آوى مُحدِثًا فكيف فيمن أحدَث؟

وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله حجب التَّوبة عن كلِّ صاحب بدعة حتَّى يدَع بدعته» (رواه الطبراني بإسناد حسنٍ، وصحَّحه الألباني).

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيًّا إلا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أُمَّتَه على خيرِ ما يعلمه لهم، ويُنذِرَهم شَرَّ ما يعلمه لهم» (صحيح الجامع)، والبدعة سَمَّاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «شَرُّ الأُمُور».

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرَطُكم على الحوض، وليَخْتَلِجنَّ رجالٌ دوني، فأقول: يا ربِّ أصحابي!» فيُقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ إنَّهم غيَّروا وبدَّلوا، فيقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «سُحقًا سُحقًا لمن غيَّر وبدَّل» (مختار الصحاح).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكلِّ عمَلٍ شِرَّةٌ، ولكلِّ شرَّةٍ فَتْرَة، فمن كانت فَتْرتُه إلى سُنَّتي فقد اهتدى، ومن كانت فترتُه لغير ذلك هلك» (أخرجه أحمد وصححه الألباني).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن رجل يحفظ علمًا فيكتمه، إلاَّ أُتيَ به يوم القيامة ملجمًا بلجامٍ من النَّار» (حسنه الألباني).


من مواقف الصحابة رضوان الله عليهم في إنكار البدعة:

قصة مفيدة حدثَتْ للصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:

قال الشاطبيُّ رحمه الله تعالى: وكالَّذي حكى ابنُ وضَّاح، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، قال: مرَّ عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه برجلٍ يقصُّ في المسجد على أصحابه، وهو يقول: سبِّحوا عشرًا، وهلِّلوا عشرًا، فقال عبد الله: "إنَّكم لأَهْدى من أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أو أضَلُّ، بل هذه"؛ يعني: أضَلّ.

وفي روايةٍ عنه: أنَّ رجلاً كان يَجْمع الناس فيقول: رحم الله مَن قال كذا وكذا مرَّة سبحان الله، قال: فيقول القوم، ويقول: رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله، قال: فيقول القوم، قال: فمرَّ بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال لهم: "لقد هُديتم لِما لم يُهدَ له نبيُّكم! وإنَّكم لَتُمْسِكون بذَنَب ضلالة"، وذُكر له أنَّ أناسًا بالكوفة يسبِّحون بالحصى في المسجد، فأتاهم وقد كوَّم كلُّ واحد بين يديه كومًا من حصى، قال: فلم يزل يحصُبُهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد، ويقول: "لقد أحدثتم بدعةً وظُلمًا، وقد فضَلْتُم أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِلمًا".

انظر يا أخي المسلم رحمك الله كيف أنكر عليهم الصحابِيُّ الجليل رغم أنَّ الذِّكر الوارد فيها مشروعٌ، لكن هَدْيَها كان مخالِفًا لِهَدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حيث تخصيصُ العدد والزَّمن والمكان دون أيِّ دليل، فماذا لو اطَّلَع هذا الصحابيُّ على مساجد المسلمين اليوم، ورأى ما يحدث فيها من قراءة جماعيَّة للقرآن، وتسبيحٍ بالمسبحة، وحِلَقٍ قبل الجُمُعات؟

قال الشاطبيّ رحمه الله: "وخرَّجَ أيضًا أي: ابن وضِّاح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنَّه قال: اتَّبعوا آثارنا، ولا تبتَدِعوا؛ فقد كُفيتم"، وخرَّج عنه ابن وهب أيضًا قال: "عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقَبْضُه بذهاب أهله، عليكم بالعلم؛ فإنَّ أحدكم لا يدري متى يَفتقر أو يُفتقَر إلى ما عنده، وستجدون أقوامًا يزعمون أنَّهم يَدْعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدُّع والتنطُّع (التَّعَمُّقُ فيه) والتعمُّق (المُبالغ في الأَمر)، وعليكم بالعتيق" (رواه عن ابن مسعود أبو إدريس الخولانيُّ عند البيهقيِّ وإسناده صحيح).

وقد أنكر الصَّحابةُ رضوان الله عليهم؛على مَن يزيد في الذِّكر المأثور عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِما له سبَبٌ، فقد روى التِّرمذيُّ في سننه (رقم 2738) أنَّ رجلاً عطس عند ابن عمر رضي الله عنهما فقال: الحمد لله والسَّلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابنُ عمر رضي الله عنهما: "ليس هكذا علَّمَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولكن علَّمَنا أن نقول: الحمد لله على كل حال".

وهذا من حِرْص السَّلَف رحمهم الله على لزوم السنَّة، واقتفاء هَدْي وأثر خير هذه الأمة، ألحقَنا الله بهِم، ووفَّقنا لاتِّباعهم.


أخرج البيهقي في السنن الكبرى وغيرُه؛ أثَرًا عن ابن مسعود، قوَّى طرُقَه الحافظُ في الفتح، عنه رضي الله عنه، قال: "ليس عامٌ إلاَّ الذي بعده شر، لا أقول: عام أمطر من عام، ولا: عامٌ أخصبُ من عام، ولا: أميرٌ خير من أمير، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثُمَّ يَحدُثُ قومٌ يقيسون الأمور بآرائهم، فيُهدم الإسلام ويُثلم".

أخرج الآجريُّ في الشريعة؛ أنَّ عمر بن عبدالعزيز بلغه أن غيلان القدريَّ يقول في القدَر، فبعث إليه، فحجبه أيامًا، ثم أدخلَه عليه، فقال: "يا غيلان، ما هذا الذي بلغَني عنك؟ " فقال: نعَم، يا أمير المؤمنين، إنَّ الله عز وجل يقول: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا . إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا . إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:1 - 3].

فقال عمر: واقرأ آخر السورة: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا . يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30 - 31]، ثُمَّ قال: "ما تقول يا غَيْلان؟"، قال: أقُولُ: أعمى فبصَّرتني، وأصَمَّ فأسمعتني، وضالاًّ فهديتني، فقال عمر: "اللّهم إن كان عبدك غيلان صادقًا، وإلاَّ فاصلبه"، قال: فأمسك عن الكلام في القدَر، فولاَّه عمر دار الضرب بدمشق، فلمَّا مات عمرُ بن عبدالعزيز، وأفضت الخلافة إلى هشام، تَكَلم في القدر، فبعث إليه هشامٌ فقطع يده، فمرَّ به رجُلٌ والذُّباب على يده، فقال: يا غيْلان هذا قضاءٌ وقَدَر، فقال: كَذبت لَعَمرُ الله ما هذا قضاءٌٌ ولا قدر، فبعث إليه هشامٌ فصلبَه".

التقيُّد بالسُّنة واجب:

حديث البَرَاء بن عازب رضي الله عنه قال: قال لي رسولُ الله: «إذا أتيتَ مضجعك، فتوضَّأ وُضوءك للصلاة، ثمَّ اضطَجِع على شقِّك الأيمن، ثُم قل: اللّهم إنِّي أسلمت نفسي إليك، ووجَّهتُ وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك؛ رغبةً ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلاَّ إليك، آمنتُ بكتابك الذي نزَّلت، وبنبيِّك الذي أرسلت، فإن مِتَّ من ليلتك متَّ وأنت على الفطرة، واجعَلْهن من آخر كلامك»، قال: فرددْتُهن لأستذكرهنَّ، فقلتُ: آمنت برسولك الذي أرسلت، قال: «لا، بنبيِّكَ الذي أرسلتَ» (رواه البخاري ومسلم).

قال الشيخ عبدالرزَّاق البدر في فقه الأذكار والأدعية: "وفي قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب لمَّا ردَّد الدعاء أمامه من أَجْل استذكاره: «وبنبيِّك الذي أرسلت»، دليلٌ على أهمية التقيُّد بهذه الأذكار حسب ألفاظها الواردة؛ لكمالها في مَبْناها ومعناها".

عن أنسٍ رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلمَّا أُخبِروا بها كأنَّهم تقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟

فقال أحدهم: أمَّا أنا فأقوم الَّليل ولا أنام، وقال الآخر: أمّا أنا فأصوم ولا أُفطِر، وقال الآخر: أمّا أنا فأعتزل النِّساء، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنِّي أخشاكم لله، وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأُصلِّي وأرقُد، وأتزوَّجُ النِّساء، فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي» (رواه البخاري ومسلم).


فلْيَحذر الذين يُخالفون عن أمره:

عن سعيد بن المسيب، أنه رأى رجلاً يصلِّي بعد طلوع الفجر أكثرَ من ركعتَيْن، يُكْثِر فيها الرُّكوع، فنهاه عن ذلك، فقال الرَّجلُ: "يا أبا محمَّد، يعذِّبُني الله على صلاة؟ قال: لا، ولكن يعذِّبُك على خلاف السُّنَّة" (رواه البيهقي - السنن الكبرى).

وفي رواية عن عثمان بن عمر قال: سمعتُ مالك بن أنس أتاه رجل، فقال: يا أبا عبدالله، مِن أين أُحرم؟ قال: مِن ذي الحُلَيفة؛ من حيثُ أحرم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: إنِّي أريد أن أُحرم من عند القبر يعني مسجدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مالكٌ: لا تفعل؛ فإنِّي أخشى عليك الفتنة، قال: وأي فتنةٍ في هذه؟ إنَّما هي أميال أَزِيدها، قال: وأيُّ فتنة أعظَمُ من أن ترى أنَّك سبَقْتَ إلى فضيلةٍ قَصر عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟! إنِّي سمعت الله عز وجل يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].


جزاء من استهزأ بالسُّنة:

ذكَرَ الحافظ ابن حجر في فتح الملهم شرح صحيح مسلم: "أن بعض المُحدِّثين رحل إلى دمشق؛ لأخذ الحديث عن شيخٍ مشهور بها، فقرأ عليه جملةً، لكنَّه كان يجعل بينه وبينه حِجابًا، ولم يرَ وجهه، فلمَّا طالت مُلازمتُه له، ورأى حِرْصَه على الحديث كشف له السِّتر، فرأى وجهه وجه حمار! فقال له: احذر يا بُنَيَّ أن تسبق الإمام؛ فإنَّه لَمَّا مَرَّ الحديث استبعدتُّ وقوعه، فسبقتُ الإمامَ فصار وجهي كما ترى".

قال الحافظ بن كثير: "وحكى ابن خَلِّكان فيما نقل من خطِّ الشيخ قطب الدين اليونينيِّ قال: بلغَنا أن رجلاً بدير أبي سلامة مِن ناحية بُصرى، كان فيه مُجون واستهتار، فذُكِر عنده السِّواك وما فيه من الفضيلة، فقال: والله، لا أستاكُ إلاَّ المَخْرَج، يعني دُبُرَهُ، فأخذ سواكًا فوضعه في مخرجه ثُم أخرجه، فمكث بعده بضعة أشهر، فوضع ولدًا على صِفة الجُرذان، له أربعة قوائم، ورأسه كرَأس السمكة، وله دُبُرٌ كدُبُر الأرنب، ولمّا وضعه صاح ثلاث صيحات، فقامت ابنة ذلك الرجل، فرضخت رأسه، فمات، وعاش ذلك الرجل بعد وضعه له بيومين، ومات في الثالث، وكان يقول: هذا الحيوان قتلني وقطَّع أمعائي، وقد شاهد جماعةٌ من أهل تلك الناحية وخُطَباء ذلك المكان، ومنهم مَن رَأى ذلك الحيوان حيًّا قبل أن يموت، ومنهم مَن رآه بعد موته" (البداية والنهاية).


مُجمَل أقوال السلف في البدعة:

قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "عليك بتقوى الله والاستقامة؛ اتَّبِعْ، ولا تَبتدع".

قال ابنُ مسعود رضي الله عنه: "اتَّبِعوا، ولا تبتَدِعوا؛ فقد كُفيتم، وكلُّ بدعة ضلالة".

قال ابن عمر رضي الله عنهما: "كُلُّ بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة".

قال حذيفة رضي الله عنه: "كلُّ عبادةٍ لا يتعبَّدها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تَعَبَّدوها؛ فإنَّ الأوَّل لم يدَعْ للآخِرِ مَقالاً".

قال أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه: "إنَّما أنا مِثْلُكم، وإنِّي لا أدري لعلَّكم ستُكَلِّفُونِي ما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطيقه، إنَّ الله اصطفى محمدًا على العالَمين، وعصَمه من الآفات، وإنَّما أنا متَّبِعٌ، ولست مبتدعًا، فإن استقمت فاتبعوني وإن زِغتُ فقوموني".

قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إنَّ الله نظر إلى قلوب العباد؛ فوجد قلبَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لِنَفسه، فابتعَثه برسالته، ثُمَّ نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ فوجد قلوبَ أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وُزَراء نبيِّه، يقاتلون عن دينه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيِّئًا فهو عند الله سيِّئ" (حسنه الألباني).

وقال أيضًا: "من كان مُستنًّا فَليَستَنَّ بمن قد مات؛ فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمَّةِ، وأَبرَّها قلوبًا، وأعمقَها عِلمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لِصُحبة نبِيِّه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتَّبعوهم في آثارهم، وتمَسَّكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم؛ فإنَّهم كانوا على الهَدْيِ المستقيم" (أخرجه بِنَحوه ابنُ عبدالبَرِّ - جامع البيان).

قال سعيد بن جُبير رضي الله عنه: "لأنْ يصحَب ابني فاسقًا شاطرًا سُنِّيًّا أحبُّ إليَّ من أن يَصْحَب عابدًا مبتدِعًا" (ابن بطة - الإنابة الصغرى).

ونقل أبو نُعَيم عن سفيان الثوريِّ رحمه الله قوله: "وذلك لأنَّ البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية؛ فإنَّ المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها" (الحلية).

قال وهب بن مُنَبِّه رحمه الله: "كنتُ عند مالكٍ، فذكرت السُّنَّة"، فقال مالك رحمه الله: "السُّنَّة سفينةُ نوحٍ؛ مَن رَكِبَها نجا، ومن تخلَّف عنها غَرِق".

يُنقل عن ابن الماجشون رحمه الله أنه قال: سمعت مالكًا رحمه الله يقول: "مَن ابتدع في الإسلام بدعةً حسنة، فقد زعم أن محمَّدًا صلى الله عليه وسلم خان الرِّسالة؛ لأنَّ الله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذٍ دينًا فلا يكون اليوم دينًا".

يُنقلُ عن الحسن البصريُّ رحمه الله قَوله: "لا تُجالِس صاحبَ هوًى، فيَقْذِف في قلبك ما تتبعه عليه، فتهلك، أو تُخالف، فيمرض قلبك".

ويُنقلُ عن أبي حنيفة رحمه الله قوله: "عليك بالأثَر وطريق السَّلَف، وإيَّاك وكلَّ مُحدثة؛ فإنَّها بدعة".

يُنقلُ عن اللَّيثِ بن سعد رحمه الله قوله: "لو رأيتُ صاحب بدعة يمشي على الماء ما قَبِلتُه".

ويُؤثَر عن الشافعيِّ رحمه الله قوله لَمّا سمع مقالة اللَّيث: "أمَا إنَّه ما قصَّر، لو رأيتُه يمشي على الهواء ما قبَِلتُه".

عن أبي قلابة رحمه الله قال: "ما ابتَدَع رجُلٌ بدعةً إلاَّ استحلَّ السيف" (الاعتصام للشاطبي).

يُنقلُ عن أيُّوب السَّخْتياني رحمه الله قوله: "ما ازداد صاحبُ بدعة اجتهادًا إلاَّ ازداد من الله بُعدًا".

ويُنقلُ أيضًا عن يحيى بن كثير رحمه الله قوله: "إذا لقيتَ صاحبَ بدعةٍ في طريق فخُذ في طريق آخر".

يُنقلُ عن الإمام أحمد رحمه الله أنَّه قال: "أصول السُّنَّة عندنا؛ التمسُّكُ بما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء، وتَرْك البدع، وكلُّ بِدعة ضلالة".

ويُنقل عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قوله: "أوصيكم بتقوى الله عز وجل والاقتصادِ في أمره، واتِّباعِ سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَرْك ما أحدث المُحْدِثون بعده".

ويُنقلُ عن أحد التابعين الفُضَلاء؛ حسَّان بن عطيَّة رحمه الله أنَّه قال: "ما ابتدع قومٌ بدعةً في دينهم إلاَّ نزع الله عز وجل مِن سُنَّتهم مثلها، ثُمَّ لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة".

قال الشوكانِيُّ رحمه الله: "فإذا كان الله أكمل دينَه قبل أن يَقبض نبِيَّه صلى الله عليه وسلم؛ فما هذا الرَّأيُ الذي أحدثَه أهلُه؟! أيْ: هذا الرأي بعد أن أكمل الله دينَه؟ " (الوصابي - القول المفيد في أدلة التوحيد).

يُنقل أيضًا عن الشاطبِيِّ رحمه الله قولُه: "فإذا كان كذلك فالمبتدِع إنَّما محصولُ قولِه بلسان حاله أو مقاله: إنَّ الشريعة لم تَتِم، وإنَّه بقيَ منها أشياء يجب استدراكُها؛ لأنَّه لو كان معتَقِدًا لكمالها وتمامها من كُلِّ وجه؛ لَم يبتَدِع وما استَدرك عليها، وقائل هذا ضالٌّ عن الصِّراط المستقيم".

أخي المسلم: بعدما قرأتَ هذه الكلمات التي كتبها سلَفُنا الصالح في قلوبِهم بِماء الذَّهَب، والتي يؤمن بها المسلم على أنَّها قواعد واضحة كالشمس في رابعة النهار، لا يزيغ عنها إلاَّ هالك؛ فأنصح نفسي وإيَّاك أن تلتزم بها إذا أردتَ أن تنجوَ من غثائيَّة الباطل، وتركب سفينة الصالحين؛ لتصل إلى برِّ النجاة، وتحفظ دينك من كل الفِتَن والشهوات، وتثبت عند مفَرِّق الجماعات، وهادم اللَّذَّات، ويشفع لك خاتم الرِّسالات؛ لتشرب من الحوض، وتدخل الجنَّات، وتفوز برضوان فاطر السَّماوات.

انتهى بفضل الله تعالى ومنِّه.



بلال بوساحة