الإعلام العربي وفقدان الصدقية

يشعر المدقق في حال وسائل الإعلام العربي بخطر محدق على هذه الوسائل، وهو خطر ينعكس على المتلقي ذاته، الذي يتلقى المعلومة من وسائل الإعلام المختلفة، باعتبار أن هذه الوسائل ينبغي أن تكون مرآة تعكس بأمانة ما يدور في محيط المتلقي..

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


يشعر المدقق في حال وسائل الإعلام العربي بخطر محدق على هذه الوسائل، وهو خطر ينعكس على المتلقي ذاته، الذي يتلقى المعلومة من وسائل الإعلام المختلفة، باعتبار أن هذه الوسائل ينبغي أن تكون مرآة تعكس بأمانة ما يدور في محيط المتلقي، ويفترض فيها أن تكون صادقة في نقل ما يدور بمحيط المتلقين، سواء أكانوا مستمعين أم مشاهدين، غير أن الملاحظ أن ما يحدث هو خلاف ذلك في أكثر الأحيان، بعد أن كان يؤمل المتلقون في العالم العربي أن تكون بديلًا إيجابيًا عن الإعلام الأجنبي، أو حتى الإعلام الموجه الناطق بلغة عربية، وكذلك الإعلام الناطق باللغات الأجنبية.

فقد ثبت بالتجربة أن الإعلام لمالكيه بالفعل، وأن هذه المقولة ليست ضربًا من الخيال، وأن مُلَّاك أجهزة ووسائل الإعلام بمقدورهم السيطرة على مفاتيح العقول بحيل وطرق مختلفة.

ومع مرور الوقت وبتدافع الأحداث ظهر للمتلقين العرب أن هذه الوسائل وتلك الأجهزة ما هي إلا شكل من أشكال الإعلام الموجه يضاف إلى الآخر الذي يحمل نفس المعنى، وأن هذا الإعلام لم يعد يعرف سوى دس السم في العسل كما يقال، وأن أهدافه الخاصة هي كل ما يعنيه، دون النظر إلى حقوق المتلقين، ويتصدرها حقهم في نقل المعلومة الصادقة إليهم.

ولذلك وجدنا أجهزة إعلام تطلق العنان لمذيعيها ومقدمي برامجها لبث الافتراءات والأكاذيب لتصدرها إلى متلقيها على مختلف شرائحهم وأنماط وظائفهم، استخفافًا بالعقول، ودون النظر إلى أي معايير مهنية أو مواثيق شرف، أو أي شكل من أشكال الضمير.

إلا أن (ذكاء) هؤلاء المضللِين خانهم فلم يتنبهوا إلى أنه مع اتساع الفضاء الإلكتروني وتنوع مصادر المعلومات فإن ممارساتها في الحجب والمنع والتدليس والكذب مصيرها الفناء، وأنه مع هذا الفضاء المتنوع يمكن المتلقي أن يحصل على المعلومة بيسر، وأنه مع انتشار العديد من الوسائط فإنه من السهولة بمكان الحصول على المعلومة من مصادرها، الأمر الذي يعني أن عمر الوسائل التي تقوم بالتدليس على متلقيها، وترويج الأباطيل عليهم، وتزييف ما هو حقيقي، واختلاق كل ما يمكن أن يؤزم دون أن يكون له صدى إيجابي، هو عمر قصير يكشفه المتلقي سريعًا، الأمر الذي يؤكد أن الإعلام المدلس هو الذي يدفع بنفسه إلى نفق مجهول، سرعان ما ينصرف عنه المتلقي، ليكون المكسب هنا للمتلقي الذي يكتشف زيف إعلامه وفي الوقت نفسه يخسر هذا الإعلام متلقيه ومعلنيه، وقبل ذلك ومعه وبعده يفقد مصداقيته وشرف مهنيته وضمائر العاملين عليه.

النمط الأخير تبدو عليه العديد من القنوات الفضائية العربية التي لم تعد تعرف في جلها للحقيقة طريقًا، أو للمعلومة الصادقة سبيلًا، لتصبح هذه الوضعية أشبه بالمنظومة التي صارت تتجاوز الظاهرة، لتصبح واقعًا، بعد تعدد أشكالها، خاصة وأن هناك العديد من القنوات التي تشهدها بلدان عربية، قد يكون من المبالغة أن مواطني هذه البلدان لا يعرفوا من هذه القنوات سوى اسمها، وقد يكون غيرهم لا يعرفون جنسية لمثل هذه النوعية من المحطات الفضائية.

وعلى الرغم من انتشار العديد من الروافد الإعلامية التابعة للجامعة العربية منذ مطلع التسعينيات في القرن الماضي، فإن كل هذه الروافد لم تقم بواجبها بعد، بل وتناقض نفسها، ففي الوقت الذي تنادي فيه بتفعيل التعاون الإعلامي المشترك، والالتزام بميثاق الشرف الإعلامي، والدعوة إلى إنتاج برامجي يوحد ولا يفرق الدول العربية، إذا بها تغض الطرف عن أي مساءلة لأي وسيلة إعلامية تخون الأمانة، علاوة على عدم تفعيل هذه الروافد للتوصيات التي تدعو إليها ومن أهم هذه المؤسسات يأتي مجلس وزراء الإعلام العرب واتحاد الإذاعات العربية واللجنة الدائمة للإعلام العربي، وغيرها من الفعاليات التي ترعاها الجامعة العربية من أجل شعار دائم ترفعه وهو دعم التعاون الإعلام العربي المشترك، والنهوض به، والتزام الفضائيات بميثاق الشرف الإعلامي.

ربما يذهب البعض إلى القول بأن عدم تفعيل مثل هذه المؤسسات يرجع إلى وفاة الجامعة العربية ذاتها، غير أن هناك آراء أخرى ترجع عدم تفعيل دور مثل هذه المؤسسات إلى عدم توفر إرادة تدعم هذا التعاون، وأنه حين تتوفر مثل هذه الإرادة تتحول القرارات إلى واقع عملي على الأرض، على نحو ما تتحرك ذات الفعاليات الإعلامية إذا ما حاولت الفضائيات العربية المساس بشأن سياسي، أو اصطدمت بما هو مستقر من أنظمة وحكومات، على نحو ما سبق أن جرى في العديد من الفعاليات الإعلامية التي سبقت الثورات العربية!!

غير أن اللافت أن كل هذه المحاولات لتضميد جراح الإعلام العربي وتطويعه لصالح الحكومات فشلت، بدليل قيام الثورات ذاتها، إلا أن المحاولات بدأت تعود مجددًا بغية إجهاض الثورات نفسها، والارتداد إلى ما كان عليه الحال العربي قبل ثورة تونس في العام 2010، الأمر الذي ينذر بخطر على الإعلام ذاته. والمؤكد في هذا السياق أن المتلقين العرب أصبحوا من الذكاء بما يمكنهم من فرز الغث من السمين، والصالح من الطالح، وأن الشعوب التي عرفت طريق الحقيقة والحريات، لا يمكنها بحال أن ترضى بالتدليس والتضليل.


علا محمود سامي