العلاقات الروسية الصينية وأثرها في الأزمة السورية؟
كما كانت قارعة سبتمبر 2011 نقطة فارقة في المجتمع الدولي، وأدت لتحولات كبرى على كل الأصعدة والنطاقات، فإن الأزمة السورية قد تبوأت نفس المكانة، وأدت لتحولات كبرى في السياسة والدبلوماسية الدولية، ومن أبرز التحولات والمتغيرات التي أدت إليها هذه الثورة ؛ التقارب الروسي الصيني، في واحدة من كبريات التحول الإستراتيجي على الصعيد الدولي.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
لم يكن أحد يدري كمّ التداعيات التي ستفجرها الثورة السورية منذ اندلاعها في مارس 2011، فالأزمة السورية أشبه ما تكون بالقنابل الانشطارية، ما إن انفجرت حتى طارت شظاياها في كل اتجاه، فخرجت من نطاقاتها المحلية والإقليمية ليطول شررها النطاق الدولي من كل اتجاه، حتى أصبحت نقطة اشتباك بين نظم إقليمية ونظم دولية، وامتزج التنافس الدبلوماسي بين أطراف دولية وإقليمية بعراك ميداني فعلي على الساحة السورية، وتبدّى الفارق بين سياسات إدارة النشاط الدبلوماسي اليومي وبين النشاط الدبلوماسي في لحظات التحولات الإستراتيجية.
وكما كانت قارعة سبتمبر 2011 نقطة فارقة في المجتمع الدولي، وأدت لتحولات كبرى على كل الأصعدة والنطاقات، فإن الأزمة السورية قد تبوأت نفس المكانة، وأدت لتحولات كبرى في السياسة والدبلوماسية الدولية، ومن أبرز التحولات والمتغيرات التي أدت إليها هذه الثورة ؛ التقارب الروسي الصيني، في واحدة من كبريات التحول الإستراتيجي على الصعيد الدولي.
فلقد شكّلت مواقف كل من روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية تجاه الأزمة السورية، والتقارب الكبير الذي حدث بين الجارتين اللدودتين مفاجأة للكثير من المراقبين نظرًا للجفاء الشديد بين البلدين، بسبب الخلاف في فهم وتطبيق المنهج الشيوعي، ومركزية عمل الأحزاب الشيوعية في البلدين في حقبة الستينيات، ثم التطور الدبلوماسي الحادث فيهما أيضا من عام 1978 في الصين (ما بعد برنامج التحديثات الأربعة)، ومن عام 1985 في روسيا الاتحادية فترة ميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسين، رغم هذا الإرث التاريخي الممتد لعقود في العلاقات الفاترة بين البلدين إلا أن التقارب الروسي الصيني في السنوات الأخيرة والذي بلغ أوج قوته في وحدة الموقف تجاه الأزمة السورية، قد شهد عدة مظاهر حيوية وهامة منها:
أولا: وجود مصالح اقتصادية مشتركة بين البلدين، حيث تعتبر الصين الشريك التجاري الأول لروسيا، فقد أشار فلاديمير بوتين خلال لقاء له مع مسئول في مجلس الشعب الصيني في سبتمبر2011 أن حجم التبادل التجاري بين البلدين وهو 70 مليار دولار، يُقدَّر له أن يبلغ 100 مليار عام 2015 و200 مليار عام 2020.
ثانيا: اتفاقهما في العديد من الأطر التنظيمية من مؤسسات وهيئات إقليمية ودولية، مما أدى لقوة العلاقات بينهما، فالدولتين تشتركان في اللجنة السداسية الخاصة بالموضوع الكوري الشمالي، وهما عضوان فاعلان بمنظمة شنغهاي، وكذلك في كتلة دول البريكس (BRICS)، ناهيك عن تواجدهما ضمن الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي.
ثالثا: الانسجام في الرؤى الإستراتيجية حيال العلاقات الدولية في الآونة الأخيرة، وذلك في العديد من النقاط من أبرزها:
تكريس مبدأ السيادة وعدم القبول بالتدخل الخارجي في الشأن الداخلي لأية دولة من الدول، وبخاصة تغيير النظم السياسية أو الحكام بالقوة العسكرية وعبر التدخل الخارجي، وضرورة اعتماد التسويات السياسية السلمية لصراعات المناطق الإستراتيجية، وهذا المبدأ حال تفعيله يؤدي لكبح جماح الهيمنة الأمريكية التي تبلغ نفقاتها العسكرية 23 ضعف مثيلتها الروسية، فالصين وروسيا تشعران بالمرارة مما جرى في الأزمة الليبية وتجاوز الأمريكان والناتو حدود التفويض الدولي، مما أدى لقناعة راسخة مفادها أن أمريكا وحلفاءها يعلمون وفق انتقائية مخصوصة مع الأزمات الدولية وموضوع الديمقراطية.
فروسيا والصين يجمعهما رفض التفرد الأميركي، وسعيهما الدءوب لعالم متعدد الأقطاب. فالبلدان يصران على ضرورة إدارة العلاقات الدولية عبر تعددية قطبية وبخاصة في الشرق الأوسط، وقد شكّلت الأزمة السورية فرصة للتعبير الفعلي عن هذا التوجه، والذي يتضمن كذلك ضرورة القبول بالتعامل مع الدولتين (روسيا والصين) على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، وبالتالي القبول الأميركي لهما بلعب دور (الشريك لا التابع)، وهو ما ظهر جليا في الأزمة الأخيرة وتهديد أمريكا بضرب سوريا منفردة.
رابعا: الاتفاق إستراتيجيا مع إيران
فإيران ذات الموقع الإستراتيجي بالغ الأهمية والخطورة تمثل حجر زاوية بالنسبة للسياسة الروسية والصينية حيال الوضع في منطقة غرب أسيا وشرق أوروبا وهي المنطقة المعروفة بقلب الأرض -وفق نظرية قلب الأرض للجغرافي الشهير ماكيندر- لذلك فالعلاقات بين روسيا والصين وإيران تعددت مساراتها تجاريا وسياسيا ودبلوماسيا حتى بلغت معدلات حيوية بالغة الأهمية، فتجاريا هناك علاقات تجارية متطورة بين إيران وروسيا، حيث ارتفعت نسبة التبادل بينهما بين عامي 2005-2010، من 1.215 مليار دولار إلى 3.2 مليار دولار، يُضاف لها مبيعات عسكرية تتجاوز 400 مليون دولار خلال الفترة من 2007-2010، ناهيك عن التعاون في مجال الطاقة النووية السلمية.
وتمثل إيران أهمية بالغة لروسيا في عدد من النواحي، منها حماية البوابة الجنوبية لهذه الأخيرة ومساعدتها في المنافسة على المصادر البترولية وطرق نقل الطاقة من منطقة بحر قزوين، والتي تشهد تنافسًا حادًا مع الشركات الغربية والأميركية منها خاصة. وفيما يتعلق بالعلاقات التجارية الصينية- الإيرانية، فإيران تحتل المرتبة الرابعة في الاستثمارات الصينية، فالشركات الصينية تستثمر الانسحاب الاقتصادي الغربي من الأسواق الإيرانية لتملأ الفراغ الذي يتركه، كما تعتبر إيران ثاني أهم مورِّد للنفط للصين من ناحية، ومشاركتهما معًا في إستراتيجية إحياء طريق الحرير من ناحية أخرى، فإن مكانة إيران تتعزز في إستراتيجية الصين الدولية.
إن التحولات في الدبلوماسية الروسية والصينية، والعلاقات المتشابكة بين البلدين واتفاقهما على العديد من النقاط الإستراتيجية، جعلت من مواقف البلدين حيال الأزمة السورية فاتحة عهد جديد في العلاقات الدولية دخلت بها مرحلة الانتقال الأولى من حقبة التفرد القطبي الذي ساد مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة إلى مرحلة التعدد القطبي، وما تبعتها من ظهور فكر العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، ويبدو أن الأزمة السورية شكّلت البادرة الأولى في هذا الاتجاه، وكما وقف جورج بوش الأب في سنة 1991 منتشيا بانتصاره في الكويت على الجيش العراقي قائلا: "إنه عالم جديد يبدأ في الظهور"، وهو يعني عالم القطب الواحد والسيد المتفرد بالإدارة، فإن الأزمة السورية بتداعياتها الأخيرة تؤكد بلغة مغايرة: أن عالما جديدا يتشكل؛ عالما متعدد القطبية، لا ينفرد فيه السيد الأمريكي بالهيمنة. والأمر الوحيد الذي لم يتغير في العالمين أحادي القطبية ومتعدد القطبية أن الدول العربية كانت ومازالت في خانة المفعول به، ولم تنتقل بعد إلى خانة الفاعل، وعلى ما يبدو أنها لن تغادر هذه الخانة أبدا.