من صفات المنافقين (فرحهم بمصاب المؤمنين)

إبراهيم بن محمد الحقيل

إن المنافقين منذ أربعة عشر قرنا يتمنون زوال الإسلام وأهله، ويعملون على ذلك بجد ونشاط، ومكر وكيد وخديعة، ويخلف اللاحقون منهم السابقين في سبيل تحقيق هذا الهدف الذي كرَّسوا حياتهم كلها له، وشغلوا أوقاتهم به، وسخَّروا كل ممكن لأجله، ولكن الله تعالى يبقي لهم ما يسوءهم، ويخرج ضغائنهم، لتنقية الصف منهم، ويبتلي عباده المؤمنين بهم..

  • التصنيفات: مساوئ الأخلاق -


الحمد الله الخلاق العليم، علام الغيوب، ومطلع على ما في الصدور، وما تكنه القلوب، وقد قال سبحانه لملائكته عليهم السلام: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33]. نحمده فهو أهل الحمد، بل لا أحد أحق بالحمد منه؛ خلقنا ورزقنا ويميتنا ويحيينا، ويوم القيامة يحاسبنا، وبأعمالنا يجزينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يرد أمره، ولا يهزم جنده، ولا يقع شيء إلا بعلمه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ اتبعه المؤمنون وأطاعوه، وعصاه الكفار وحاربوه، وكذب عليه المنافقون وخادعوه، فعاد عليهم خداعهم فضيحة في الدنيا وخزيا وعذابا في الآخرة: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا له دينكم، وأخلصوا له أعمالكم، وطيبوا له قلوبكم، وأسلموا له وجوهكم؛ فإن جزاء ذلك الأمن الدائم، والسعادة التامة في الدنيا والآخرة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].

أيها المسلمون: أمة الإسلام أمة مرحومة معذبة معافاة؛ قد جعل الله تعالى عذابها في الدنيا، وعافاها في الآخرة، وهذا من رحمته سبحانه بها؛ وكل ما يصيبها من ابتلاء فهو تخفيف عنها في الدار الآخرة؛ لأن الابتلاءات كفارات، وقد قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ» (رواه أبو داوود). وكما قد عوفيت هذه الأمة في أولها فإن من جاءوا في آخرها شهدوا المحن والفتن والابتلاء، وهي تتزايد ولا تتناقص؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا» (رواه مسلم). وأكثر ما يصيب هذه الأمة من الفتن والمحن والابتلاءات إنما يكون على أيدي أعدائها من الكفار والمنافقين. والمنافقون أشد خطرًا من الكفار؛ لأن المنافقين يظهرون النصح وهم غششة، ويدعون أنهم مع المؤمنين وهم ضدهم؛ يكيدون بهم، ويمكرون عليهم، ويتمنون السوء لهم؛ يغتمون بخير ينالهم، ويفرحون بمصابهم، ويظاهرون أعداءهم عليهم. فلا عجب وحالهم هذه أن يبدي القرآن فيهم ويعيد، ويظهر خبيئتهم، ويكشف نفاقهم، ويهتك أستارهم، ويفضح أسرارهم، وتتنزل فيهم سورة سميت بهم تذكر أوصافهم، وسورة أخرى فصَّلت أفعالهم، سميت الفاضحة؛ لأنهم أتت عليهم جميعا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "التَّوْبَةُ هِيَ الفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ، وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا لَنْ تُبْقِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا" (رواه الشيخان).

وقد دلت أزمات المسلمين ومصائبهم في القديم والحديث على أن كثيرا من المنافقين كانوا وراءها، أو مشاركين فاعلين فيها، علاوة على فرحهم بها، واستبشارهم بكل غم يصيب المؤمنين، وأملهم في استئصال الإسلام وأهله؛ ولذا قالوا في أُحدٍ شامتين: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168]، وقالوا في الخندق: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، وفي تبوك قال قائلهم للنبي عليه الصلاة والسلام: {ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49]، وكانوا يخذلون المؤمنين في تبوك، ويرهبونهم، ويعدونهم بالسوء، حتى قال قائلهم للصحابة رضي الله عنهم: أتحسبون جلاد بني الأصفر كجلاد العرب بعضهم بعضا، لكأني بكم غدا مقرنين في الحبال. وهذه المقولات النفاقية تتجدد عبر الزمان، وتنتقل من مكان إلى مكان، وكثيرا ما نسمعها في الإعلام المرئي والمسموع، ونقرؤها في الإعلام المكتوب كلما تجددت للمسلمين أزمة، أو حلت بهم مصيبة، أو نزلت بهم نازلة... يَعِدُون المؤمنين بالفناء والاضمحلال على أيدي أعدائهم، ويغرون الأعداء بهم، ويسلطونهم عليهم بأساليب ماكرة، وتهم جاهزة، تحت شعارات زائفة، ودعاوى رخيصة، ولكن الله تعالى في كل مرة يرد مكرهم، ويقلب كيدهم عليهم؛ فلا يزداد الإسلام إلا اتساعا وانتشارا، ولا يزداد المؤمنون إلا قوة وثباتا.

إن المنافقين منذ أربعة عشر قرنا يتمنون زوال الإسلام وأهله، ويعملون على ذلك بجد ونشاط، ومكر وكيد وخديعة، ويخلف اللاحقون منهم السابقين في سبيل تحقيق هذا الهدف الذي كرَّسوا حياتهم كلها له، وشغلوا أوقاتهم به، وسخَّروا كل ممكن لأجله، ولكن الله تعالى يبقي لهم ما يسوءهم، ويخرج ضغائنهم، لتنقية الصف منهم، ويبتلي عباده المؤمنين بهم..{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 29]. وضغينتهم على الإسلام وأهله سببها ما في قلوبهم من مرض النفاق والشك والارتياب، فعاقبهم الله تعالى بزيادة هذا المرض فيهم حتى أكل قلوبهم فأظلمت به، فكانوا أحقد الناس على الإسلام وأهله؛ {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10].

لقد بلغ بهم مرض النفاق مبلغا صاروا بسببه يغتمون إذا انتشر الإسلام، وقوي عوده، وكثر أتباعه، ودخل الناس فيه أفواجا، ويصيبهم الهوس والجنون إن هم رأوا عزًا للإسلام ونصرا للمسلمين، ودحرا للكفر وأهله؛ ولذا يقفون مع كل أهل الملل والنحل والمذاهب الباطلة لإطفاء نور الإسلام، والكيد للمسلمين، ولكن هيهات هيهات؛ فنور الله تعالى باقٍ إلى يوم القيامة. وفي أُحد فرحوا أشد الفرحِ بما أصاب المسلمين من القتل والجراح، فكشف الله تعالى ما في قلوبهم، وأخبر المؤمنين بفرحهم، فقال سبحانه: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120]. قال التابعي العالم بالتفسير قتادة السدوسي رحمه الله تعالى تعليقا على هذه الآية: فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فُرقة واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين، سرَّهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به. فهم كلما خرج منهم قَرْنٌ أكذبَ الله أحدوثته، وأوطأ محلَّته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم، وفيمن بقى إلى يوم القيامة. ا.هـ. والآية تعطينا حكما نهائيا في المنافقين لا يتبدل بتبدل الزمان ولا المكان ولا الأحوال؛ فهذا تصرفهم مع أهل الإيمان: الفرح بمصابهم، والحزن لفرحهم، والكيد لهم، وهم موجودون ما وجد إيمان وكفر، في أي زمان ومكان.

وتأملوا التعبير القرآني الدقيق: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} فعبر عن الحسنة بالمس، وعبر عن المصيبة بالإصابة، والمعنى: أن أدنى حسنة تكون لكم تسؤهم، وأعظم كارثة تنزل بكم يفرحوا بها، ومعلوم أن أعظم الكوارث، وأفدح المصائب، وأشد النوازل إذا نزلت بقوم استوجبت رحمتهم على ما أصابهم، ومن شدتها أن العدو يرحم عدوه إذا نزلت به، إلا المنافقين لا رحمة في قلوبهم للمؤمنين، فيفرحون أشد الفرح إذا نزل بالمؤمنين أعظم خطب، ودهتهم أكبر داهية. وليس بعد هذا البيان القرآني لحقيقة المنافقين وشدة عداوتهم للمؤمنين بيان.. فدلت الآية على إفراطهم في السرور والحزن. فإذا ساءهم أقل خيرنا، فغيره أولى. وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت فهم لا يرجى موالاتهم أصلا.

ومع ادعاء المنافقين أنهم منتظمون في سلك المؤمنين فإنهم عند الملمات يفارقونهم مع شماتتهم بهم، فيتنكرون لدينهم، وينكرون عقيدتهم، ويعلنون تبرأهم منهم، ويظاهر عدوهم عليهم، ويدعون أنهم كانوا أهل فهم وعقل وكياسة لما لم يكونوا مع المؤمنين: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 50]. أي: قد حَذِرْنا وعملنا بما ينجينا من الوقوع في مثل هذه المصيبة، وذلك مثل انسحابهم يوم أحد، {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} فيفرحون بمصيبة المؤمنين، وبعدم مشاركتهم إياهم فيها. بل إن المنافقين يعدون الطاعات التي قد تكون سببا للابتلاء والمصيبة فتنة؛ كما عدوا الخروج للغزو مع النبي عليه الصلاة والسلام فتنة لاحتمال القتل والجرح والأسر، وما علموا أن الفتنة كل الفتنة في معصية الرسول، والتولي يوم الزحف، واطراح الدين، ومظاهرة أعداء المؤمنين؛ ولما قال قائلهم للنبي عليه الصلاة والسلام: {ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} كان جواب الله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49].

وما ترك الله تعالى عباده المؤمنين حتى علمهم بم يقابلون أراجيف المنافقين وتهديدهم ووعيدهم وتخويفهم قولا وعملا؛ ففي الآيتين اللتين تناولتا فرح المنافقين بمصاب المؤمنين وشماتتهم بهم؛ ذَيَّلَهُمَا الله تعالى بعلاجين ينفعان المؤمنين في تلك الأحوال:
علاج قولي: وهو ما خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 51- 52] فمن كان الله تعالى مولاه فمم يخاف؟ ومن كان موعودا بإحدى الحسنيين فماذا يخسر؟ إن المنافقين مهما عملوا معه فلن ينالوا منه شيئا، وإن أية قوة في العالم لا تستطيع أن تسلب منه ربحه الأكبر بإحدى الحسنيين.

وعلاج فعلي: ختم الله تعالى به الآية الأخرى، وهو ما خوطب به النبي والمؤمنون: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120]. فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء، وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والكذب والخداع. الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل، ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها؛ اتقاء لشرهم المتوقع، أو كسبا لودهم المدخول... ثم تقوى الله تعالى التي تربط القلوب به سبحانه، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه، ولا تعتصم بحبل إلا حبله.. وحين يتصل القلب بالله تعالى فإنه يحقر كل قوة غير قوته، وستشد هذه الرابطة من عزيمته. وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله تعالى وحدها، وطبقوا شريعته في حياتهم كلها إلا عزوا وانتصروا، ووقاهم الله تعالى كيد أعدائهم، وكانت كلمتهم هي العليا. ولا ركن المسلمون إلى أعدائهم إلا هزموا وهانوا وذلوا؛ فإن كلمة الله تعالى خالدة، وإن سنته سبحانه ماضية، وإن مشيئته عز وجل نافذة. فمن عمي عنها فلن يبصر إلا الذلة والانكسار والهوان.. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
بارك الله لي ولكم....

الخطبة الثانية:
الحمد لله الغني الحميد؛ باسط الخيرات، كاشف الكربات، مجيب الدعوات، يستخرج من عباده عبوديتهم له بمصابهم، ويستدر دعاءهم بكربهم؛ ليجزيهم أعظم الجزاء، ويهبهم منه رحمة وحفظا ونصرا وتأييدا، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على عطائه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ . أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 139- 142].

أيها المسلمون: إن الله تعالى حين ابتلى المؤمنين بشدة عداوة المنافقين لهم، وفرحهم بما يصيبهم، وغمهم من فرحهم إنما هو لخير المؤمنين؛ فإن الملك ملك الله تعالى، والأمر أمره سبحانه، والقدر قدره عز وجل، فلا يقع شيء إلا بعلمه وأمره، وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين، ويكره ما يسوءهم ولو قدره عليهم، فلن يقدر إلا ما هو خير لهم في العاقبة، ولو بدا في أوله غير ذلك؛ ولذا يتردد سبحانه في قبض روح المؤمن لعلمه أن المؤمن يكره الموت، والله تعالى يكره ما يسوء المؤمن. وهذا التدبير الرباني بابتلاء المؤمنين بالمنافقين فيه من الخير ما لا يحصى:

- ففيه كشف المنافقين ومعرفتهم، وتنقية الصف منهم، وكشف القناع عن وجوههم الحقيقية؛ ليرى جمهور الأمة سوادها وظلمتها، وحسدها وحقدها، فلا يغتر بهم أحد بعدها.

- وفيه الابتلاء بشراسة المنافقين وكيدهم قوة للمؤمنين، وشحذ لعزيمتهم، ورياضة لهم على الصبر والتقوى، وقد قيل: الضربة التي لا تميت صاحبها تقويه. وقد كتب الله تعالى البقاء لأمة محمد عليه الصلاة والسلام إلى آخر الزمان، وإن لقي الله تعالى بعض أفرادها في موجات البلاء، فكل ما يصيبها من أوصاب وابتلاءات وتسلط من أعدائها فهو قوة لها ولمن يبقى من أفرادها؛ حتى تكون أمة صبورة شجاعة متقية، تستحق العاقبة بالظفر والنصر.

- ومن ثمرات الابتلاء بعداوة المنافقين: لجوء المؤمنين بأنواع العبودية لله تعالى، وصدق التوجه إليه، والتوكل عليه، والتعلق به، والانطراح على بابه، والإلحاح في دعائه.. ولولا موجات البلاء ما صقلت النفوس، ولا أخرجت بلابل القلوب، ولا توجه المؤمنون إلى الله تعالى توجها كاملا قطعوا معه كل العلائق بغيره عز وجل. وقارن يا عبد الله صلاتك حال كربك وصلاتك في أمنك، ودعاءك في محنتك، ودعاءك في عافيتك؛ لتعلم أن الكروب والمحن تُذَوِّقُك حلاوة العبودية وطعم الدعاء، فالمحن والكروب مقربات إلى الله تعالى، مزهدات في الدنيا، معظمات للآخرة. ولو لم يجنِ المؤمن من شدة الابتلاء والكرب بأعدائه المنافقين إلا ذاك لكان كافيا. فكيف وهو يجني الكثير والكثير من تكفير السيئات، ومحو الخطيئات، وزيادة الحسنات، ورفع الدرجات، والتكيف مع الابتلاءات، والرياضة على الصبر، وازدياد الإيمان، وتمكن التقوى، وتطهير القلب، وهزيمة الأعداء، والتمكين في الأرض، وقد قال نبي الرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» (رواه البخاري).
وصلوا وسلموا على نبيكم...
 

المصدر: مجلة البيان