النظام السوري إذ يحمي الجبهة الداخلية الصهيونية

إن كان هناك ثمة من يشك في طابع الجهة المستفيدة من بقاء نظام الأسد في سوريا، فما عليه إلا أن يتابع الجدل الصهيوني الداخلي بشأن سلوك هذا النظام، لأنه سرعان ما سيكتشف أن وزراء الحكومة الصهيونية يخرجون عن طورهم وهم يكيلون المديح لهذا النظام، ويعتبرون أن سلوكه يضفي مصداقية على موقفهم الرافض لتغييره..


إن كان هناك ثمة من يشك في طابع الجهة المستفيدة من بقاء نظام الأسد في سوريا، فما عليه إلا أن يتابع الجدل الصهيوني الداخلي بشأن سلوك هذا النظام، لأنه سرعان ما سيكتشف أن وزراء الحكومة الصهيونية يخرجون عن طورهم وهم يكيلون المديح لهذا النظام، ويعتبرون أن سلوكه يضفي مصداقية على موقفهم الرافض لتغييره. إن ما يثير الدهشة حقاً في الموقف الصهيونية حقيقة أن القادة الصهاينة يبدون متفاجئين من حرص النظام السوري على الوفاء بما جاء في اتفاق نزع السلاح الكيماوي، حيث أن بعض دوائر التقدير الإستراتيجي في تل أبيب كانت قد عبرت في السابق عن خشيتها أن يحاول النظام اخفاء بعض السلاح الكيماوي، لكنهم اكتشفوا أن حرص النظام على تطبيق ما جاء في الاتفاق تاماً وشاملاً. لقد تحول سلوك نظام الأسد في نظر الطبقة السياسية الصهيونية إلى (النموذج الأفضل)، الذي يتوجب أن تقتدي به أية دولة من دول المنطقة تحتفظ بسلاح غير تقليدي، باستثناء الكيان الصهيوني نفسه، طبعاً.

تأمين الجبهة الداخلية الصهيونية
لقد أسهم التزام نظام الأسد بتجريد سوريا من السلاح الكيماوي في تحقيق مصلحة إستراتيجية صهيونية من الطراز الأول تتمثل في تأمين الجبهة الداخلية للكيان الصهيوني. فعلى الرغم من إن موازين القوى تميل لصالح إسرائيل بشكل جارف، لامتلاكها ترسانة كبيرة من السلاح النووي، إلا إن تل أبيب ظلت ترى في السلاح الكيماوي السوري مصدر تهديد إستراتيجي لها، بسبب إمكانية استخدامه ضد الجبهة الداخلية الإسرائيلية. فقد خشت إسرائيل من انتقال السلاح الكيماوي إلى أيدي الجماعات الجهادية في حال سقط النظام، والتي لن تتردد في استخدامه ضد العمق الصهيوني، كما تحذر المحافل العسكرية في تل أبيب. ويسود اعتقاد جازم في أوساط دوائر صنع القرار في الكيان الصهيوني بأنه من المستحيل مراكمة الردع في مواجهة مجموعات إسلامية، وذلك بخلاف النظام، الذي تبين أنه يمكن ردعه، لأنه في النهاية يخشى على بقائه. من هنا رأت إسرائيل في استجابة النظام وتنفيذه للاتفاق الروسي الأمريكي فرصة كبيرة وانجاز مهم من الطراز الأول، على اعتبار إن تطبيق الاتفاق بحذافيره سيمنع استخدام الكيماوي ضد إسرائيل سواء سقط نظام الأسد أو ظل يحكم سوريا. ومن نافلة القول إن التخلص من السلاح الكيماوي السوري يمنح الكيان الصهيوني هامش مناورة أوسع في حال قرر القيام بعمل عسكري ضد سوريا مستقبلاً، سواءً في ظل وجود النظام القائم أو بدونه، على اعتبار إن ذلك يمكنه من الإقدام على هذا العمل دون الخوف من ردة فعل تؤثر بشكل جذري على الجبهة الداخلية الصهيونية.

نزع السلاح الكيماوي يطيل أمد الصراع
وهناك سبب آخر يدعو الكيان الصهيوني للاحتفاء بالتزام النظام بتطبيق ما جاء في اتفاق نزع السلاح الكيماوي، حيث ترى دوائر التقدير الإسرائيلي أن الالتزام بما جاء في الاتفاق لن يسهم في تحويل موازين القوى لصالح الثوار، مما يمنح الفرصة لإطالة أمد الصراع الداخلي، ويبعد نقطة الحسم فيه، مما يعني الإجهاز على مزيد من مقدرات القوة العسكرية للدولة السورية. لقد تبين إن أحد الاعتبارات التي دفعت القيادة الإسرائيلية لتشجيع الإدارة الأمريكية على قبول المبادرة الروسية وتجاوز الضربة العسكرية خوفها من إمكانية إن تسهم أية ضربة عسكرية أمريكية مهما كانت محدودة في التأثير على موازين القوى بين النظام والثوار، بشكل يخدم الثوار، مما يعجل بالحسم. ولا خلاف في تل أبيب على إن الاتفاق يمثل بوليصة تأمين لنظام بشار الأسد، وسيسمح له بالبقاء لفترة طويلة. وعلى الرغم من إن الجدل ظل محتدماً داخل دوائر صنع القرار والنخبة الإسرائيلية عموماً حول الموقف من بقاء أو إسقاط نظام الأسد، بحيث سادت آراء متضاربة حول هذه المسألة، إلا إنه يمكن القول إن هناك إجماع صهيوني على إن المصلحة الإستراتيجية تقتضي بقاء نظام الأسد، سيما في حال تم نزع سلاحه الكيماوي؛ وقد عبر عن هذا الموقف صراحة الوزير يعكوف بيري عضو المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن. وحسب المنطق الصهيوني، فإن وجود رئيس ضعيف ومكروه في دمشق يقاتل من أجل بقائه يمكن أن يحقق مصلحة إسرائيلية واضحة وهي منع سقوط مخازن السلاح السوري التقليدي، سيما الصواريخ بعيد المدى التي تغطى كل فلسطين المحتلة في أيدي الجماعات الجهادية. من هنا، فقد كان الخوف من حدوث تغيير على موازين القوى بين النظام والثوار، أحد أهم أسباب تفضيل إسرائيل للتسوية الدبلوماسية على الضربة العسكرية.

فحسب المنطق الإسرائيلي، فإن النظام السوري يرى في بقائه الهدف الأسمى، ويربط كل سلوكه بمدى تحقق هذا الهدف، في حين إن الجماعات الإسلامية يمكنها أن تتحدى إسرائيل دون أدنى اعتبار لردة الفعل الإسرائيلية. ولا خلاف بين دوائر التقدير الإستراتيجي في تل أبيب على إنه في حال سقط نظام الأسد وحلت محله الجماعات الإسلامية، فإن إسرائيل ستكون الطرف المستهدف من قبل هذه الجماعات. وتشير دراسة صادرة عن مركز المعلومات والاستخبارات حول الإرهاب الإسرائيلي ما يقوله زعماء الجماعات الجهادية العاملة في سوريا، والذين يؤكدون أنه بعد اسقاط نظام الأسد ستصبح سوريا قاعدة انطلاق للمجاهدين الذين (سيكون هدفهم إنشاء دولة تحمي أراضي المسلمين، وتحرير الجولان والاستمرار في الجهاد الى أن تُرفع رايات النصر فوق القدس المحتلة)، كما قال أحدهم. وتحذر الدراسة من إن الجماعات الإسلامية في سوريا أكثر تجذراً واتساعاً مما يتم تغطيته في وسائل الإعلام، حيث تدعي الدراسة إن ما حققته طالبان في أفغانستان في عشر سنوات، تمكنت الجماعات الإسلامية في سوريا في تحقيقه في غضون عام. وفي الواقع، فإن الولايات المتحدة أيضاً تشارك إسرائيل المخاوف من تداعيات سقوط نظام الأسد. وفي إسرائيل يأملون إن يؤدي نجاح تطبيق الاتفاق الأمريكي الروسي إلى توفير أرضية مناسبة لعقد مؤتمر (جنيف 2)، الذي من شأنه أن يسهم في انتقال السلطة في سوريا بشكل آمن، ويمنع وقوع البلاد تحت سيطرة التنظيمات الإسلامية. ويرى عاموس يادلين مدير (مركز أبحاث الأمن القومي) الإسرائيلي وأفنير جولوب، الباحث في المركز إنه في حال تقرر في النهاية إزاحة الأسد ضمن تسوية دولية، فإن إسرائيل يجب أن تصر على أن تتم عملية انتقال السلطة في سوريا بشكل منتظم، وبحيث يكون البديل عن الأسد طرف برغماتي معتدل يمنع وقوع سوريا تحت سيطرة كاملة للتنظيمات الإسلامية، كمصلحة إسرائيلية عليا. ومع ذلك، فهناك داخل دوائر صنع القرار في تل أبيب من يرى إنه لا يوجد ضمانة تامة بأن الاتفاق سيقلص فرص الحسم في الصراع المتواصل حالياً، وهذا ما عبر عنه وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون في دعوته إلى ضرورة أخذ كل السيناريوهات بالحسبان، متوقعاً ألا يظل الأسد في كرسي الحكم إلى أمد بعيد.

إشادة بالدور الأمريكي
وهناك في إسرائيل من يرى أن الولايات المتحدة لعبت دوراً مهماً في تأمين مصالح تل أبيب في سوريا، من خلال الحرص على إبرام اتفاق نزع السلاح الكيماوي. وترى محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب إنه بخلاف الانطباع السائد في إسرائيل فإن الإذعان السوري وموافقة النظام على نزع سلاحه الكيماوي لم يتسنى إلا بعد إن أدرك النظام وعرابه الروسي إن أوباما جاد في شن عمل عسكري مصداق، حيث تبين إن نجاح سياسة أوباما فاقت كل التوقعات. ولا خلاف في إسرائيل بأنه لولا سلوك الرئيس أوباما لما أذعنت إيران ووافقت على الاتفاق الأخير، الذي يفترض أن يفتح الطريق أمام القضاء على البرنامج النووي لطهران. وترى الكثير من دوائر التقدير الإستراتيجي في تل أبيب إن الرسالة الأمريكية وصلت بقوة إلى طهران، وإنها السبب الرئيس وراء ما يسمونه هجمة الاعتدال الإيرانية، مشيرين إلى إن إيران ستكون حريصة على وفاء الأسد بالتزاماته في الاتفاق، على اعتبار إن فشل الاتفاق سيعزز فرص توجه واشنطن لشن ضربة عسكرية على طهران، مع التأكيد على إن ما ساعد على استيعاب القيادة الإيرانية الجديدة للرسالة الأمريكية حقيقة إن نظام العقوبات الصارم التي يفرضها أوباما نجح في تهاوي الاقتصاد الإيراني.

التفكك إلى دويلات
وهناك في الكيان الصهيوني من يرى وجوب السعي لتأمين المصالح الإسرائيلية في سوريا من خلال الدفع عن تفكك القطر السوري، سيما في حال لم يكن بالإمكان ضمان بقاء نظام الأسد. وترى دوائر إسرائيلية أن تفكك الدولة السورية إلى دويلات سيحمل في طياته إيجابيات كبيرة، سيما في حال كان البديل عن نظام الأسد هو الجماعات الإسلامية. وفي الواقع، فإن دوائر التقدير الإستراتيجي في الكيان الصهيوني توصي بأن تبادر إسرائيل إلى تشجيع تفكك الدول العربية التي شهدت ثورات، سيما ليبيا واليمن، وليس فقط سوريا. ويوصي (مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي) في دراسة نشرها في العدد الأخير من دوريته (مباط عال) بأن يتم توظيف حالة الاستقطاب العرقي والمذهبي والقبلي السائدة في الدول العربية من أجل زيادة فرص تفككها إلى دويلات.

وترى الدراسة أن تفكك الدول العربية إلى دويلات من شأنه أن تكرس موازين القوى الإستراتيجية لصالح إسرائيل لأمد بعيد، منوهة إلى أن هذه التحولات ستكون مقترنة بتفكك الجيوش العربية الكبيرة، سيما الجيش السوري. وأشارت الدراسة إلى أن تشكل الدويلات سيوفر الفرصة لبناء تحالفات بين إسرائيل والأقليات في العالم العربي، على اعتبار أن هذه الأقليات التي ستكون بحاجة إلى التحالف مع طرف خارجي في مواجهة خصومها الداخليين. وتوقعت الورقة أن يسفر تفكك الدول العربية المنتظر إلى تحولات كبيرة في سوق الطاقة العالمي، مشيرة إلى أن الدويلة الكردية التي من المتوقع أن تتشكل في شمال شرق سوريا ستسيطر على معظم احتياطات النفط السورية، في حين يضم إقليم برقة، المرشح للانفصال عن ليبيا على معظم احتياطات النفط الليبية. وفي سياق متصل، دعا مركز أبحاث مرتبط بدوائر صنع القرار في تل أبيب إلى تشجيع إقامة اتحاد فيدرالي كحل للصراع القائم حالياً في سوريا. وقد اعتبرت ورقة صادرة عن عن (مركز يروشليم لدراسات المجتمع والدولة)، الذي يرأسه دوري غولد المستشار السياسي السابق للرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن إقامة كيانات سياسية مستقلة في إطار فيدرالي كحل للصراع القائم في سوريا يمثل أفضل وصفة تخدم المصالح الإسرائيلية. وأكدت الورقة إن على صناع القرار في تل أبيب أن يستغلوا علاقاتهم الدولية وثقل إسرائيل الدبلوماسي ويدفعوا نحو حل يسمح لكل طائفة داخل سوريا بدويلة تعيش ضمن إطار فيدرالي. وحذرت الورقة من خطورة أن تسهم التحركات الدولية في حل المشكلة السورية عبر تشكيل حكومة سورية تحت رئاسة شخصية، تصر على استعادة الجزء المحتل من هضبة الجولان، مقابل تحقيق السلام مع إسرائيل. وشددت الورقة على ضرورة أن تعلن حكومة إسرائيل بشكل لا يقبل التأويل لكل من الأوروبيين والأمريكيين أنها لن تسمح بحال من الأحوال بالانسحاب من شبر واحد من الجولان مقابل التسوية السياسية للصراع مع سوريا.

من الواضح أن هناك عملية عصف ذهني متواصلة داخل دوائر صنع القرار في تل أبيب حول أفضل السبل لتقليص الأضرار الناجمة عن التطورات في سوريا، لكن تعدد السيناريوهات التي يتم وضعها من قبل النخبة الصهيونية تدلل على أنه لا توجد هناك ثقة تامة بإمكانية تحقيق المصالح الصهيونية في النهاية.


صالح النعامي