المحنة في طريق الدعاة

للصراع بين الحقّ والباطل تبعات كثيرة، وعلى أهل الحقّ أن يُعدّوا أنفسهم لتحمّل هذه التّبعات، والصّبر على الشدائد والمحن التي تنزل بهم لأجل إيمانهم بالحقّ، ودفاعهم عنه.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

 

مقدّمة:

الصّراع بين الحقّ والباطل، وبين الخير والشّر، قديم قِدَمَ الإنسانيّة. فقد وقع أول نزاع بين ابني آدم: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ}، وقد نفّذ تهديده {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة من الآية:30].

ولم يتوقّف الصِّراع بعد هذا، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وما دام الأمر كذلك، فلابدّ للحق من أقوام يدفعون عنه شر الأشرار، ويحمونه من البغي والعدوان. ولهذا كان الجهاد ماضياً إلى يوم القيامة، شاء من شاء، وأبى من أبى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج من الآية:40].

وقد قال ربّنا سبحانه عن موقف الكافرين منّا: {وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا} [البقرة من الآية:217].

وللصراع بين الحقّ والباطل تبعات كثيرة، وعلى أهل الحقّ أن يُعدّوا أنفسهم لتحمّل هذه التّبعات، والصّبر على الشدائد والمحن التي تنزل بهم لأجل إيمانهم بالحقّ، ودفاعهم عنه.

وهيهات هيهات أن تقوم لدعوة الحقّ قائمة، وأن تبقى مبادئ الخير في خير، دون أن يكون هناك من يتحمّل المحنة في سبيلها، وينصرها، ويدفع ثمن ذلك، إذ أن سَدَنَةَ الشر، وأهل الباطل لن يتركوا أنصار الحقّ والخير، وسيبذلون غاية ما يستطيعونه لصرف هؤلاء عن حقهم، أو لإلحاق الأذى بهم، وإذاً لابدّ من وجود أناس قد روّضوا أنفسهم، واستعدوا لحمل الأمانة، والصبر على الشدائد والمحن، والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل إيمانهم وعقيدتهم.

ومن هنا جاءت الآيات الكريمة تهيئ نفوس المؤمنين للصبر على البلاء، وتبيّن أن التعرّض للفتنة مُقترنٌ بالانتماء إلى هذا الدين، وأن الله تعالى لن يدع المؤمنين حتى يمحّصهم بالجهاد والابتلاء.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].

والذين يحسبون إذاً أنهم يمكن أن يعملوا للإسلام، ويشترطوا السلامة من كل شدّة وامتحان مخطئون!

الابتلاء سُنَّةٌ ثابتة في الدعوات منذ القِدَم:

وكما كان الصِّراع بين الحقّ والباطل منذ فجر البشرية، كان الابتلاء مقترناً بهذا الصِّراع. وقد وضّحت الآيات الكريمة هذه الحقيقة بأجلى بيان. قال عزّ من قائل: {الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3]، فالابتلاء سنّة ثابتة منذ القِدَم.

ومن المعلوم أن الهمزة في كلمة {أحَسِبَ} للاستفهام الإنكاري، فهو إنكار على الناس أن يحسَبوا أن الله تعالى يتركهم من غير امتحان واختبار بعد أن يقولوا: {آمَنَّا}، بل عليهم أن يعلموا أن هذا الحسبان باطل.

ولم يألُ رسول الله صلى الله عليه وسلم جهداً في تأكيد هذا المعنى في أكثر من مناسبة. ولعلّ أشهرها جوابه لخباب رضي الله عنه:

روى البخاري عن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بُردةً في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعلُ فيها، ثم يُؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه. والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف ألا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».

ففي هذا الجواب توطين للنفوس على الصَّبر، وتأكيد أن المحنة سُنَّةٌ جارية، وأن الأمم السابقة امتُحِنت بأشد أنواع المِحَن فصبرت، ولا ينبغي أن يكون أبناء هذه الأمة أقل صبراً، وأن الفرج آتٍ، والنّصر قادم بإذن الله.

وإن الشدائد والبلايا ليست خاصة بالمؤمن؛ بل تُصيب البرّ والفاجر، لكنّ مسوغات وقوعها على المؤمن أكثر، تنقية للصف، واختباراً لقوة الإيمان، ورفعاً للدرجات. تدبّر قول الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النّساء من الآية:104]، وهي في مجال الصبر على جهاد الكفار.

وسُئِل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدّ بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل» (رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجة والدّارمي).

النّاس أصناف في مواجهة الشدائد:

* فمنهم من يضعُف، وربّما تنكّب طريق الحقّ، حرصاً على الحياة والرزق، وخوفاً من عذاب النّاس. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الصنف في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت من الآية:10]، وموقفهم هذا ناشئ عن الجهل، أو ضعف الإيمان، أو الهزيمة النّفسيّة التي يعيشونها.

ولقد قرّر القرآن الكريم بوضوح أن الحياة والرزق بيد الله وحده، وأن العباد لا يملكون منهما شيئاً: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۖ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَٰلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم من الآية:40].

وربما زاد بعضهم على هذا الخوف نقيصةً أخرى، فراح يهاجم العاملين للإسلام، متهماً إياهم بالجهل، ومفتشاً عن أخطائهم، لعل ذلك -في تقديره- يطمس الحقيقة، ويستر خوفه وجبنه وضعف إيمانه، فيظهر أمام الناس حكيماً كيّساً، لا جباناً منهزماً.

نعم قد يكون الابتلاء نتيجة مخالفة وأخطاء، كما حدث في غزوة أحد عندما خالف الرّماة الأوامر، وقد ينزل من دون تلك المقدمات والأخطاء، كما حدث للذين آمنوا بالله عز وجل، فأمر الملك الظالم بحفر الأخدود، وإضرام النار فيه، ثم أُلقِيَ المؤمنون في النار: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].

* ومنهم صنف يُقابل ذلك الصنف الضعيف، لا تهزُّه العواصف، ولا تُزحزحه المِحن؛ يشق طريقه غير عابئ بما يُلاقيه في سبيل الله عز وجل، يستعذب العذاب، ويستسهل الصعب. ولقد كان هذا الصنف هو الغالب في جيل الصحابة، وكانت مواقفه وتضحياته سبباً في انتصار الحقّ وبقائه.

وقد تمثَّلت حقيقة هذا الصنف في مواقف كثيرة كموقف أنس بن النّضر رضي الله عنه في أُحُد، عندما أُشِيعَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، فقال أنس: "فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه..."، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتِل.

وموقف زيد بن الدَّثِنَّة رضي الله عنه حين قدّمه المشركون للقتل فسأله أحدهم: أَنْشُدُك الله يا زيد، أتحبَ أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنت في أهلك؟ قال: "والله ما أُحبُّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تُصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي!".

وموقف خبيب بن عديّ رضي الله عنه حين قدَّموه ليَصلبوه فقال شعراً، منه:

ولستُ أُبالي حين أُقتَلُ مُسلماً *** على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
ولستُ بمبدٍ للعدوّ تخشُّعاً *** ولا جزعاً، إنّي إلى الله مرجعي

وقد نوّه القرآن الكريم بهذا الصنف، وذلك في قول الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].

وفي قوله سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].

* وثمة صنف ثالث يشتدُّ تارةً ويقوى، ويضعف تارةً أخرى. وهذا الصّنف وإن كان فيه بقية خير، فإنه لا يُعوّل عليه، فقد يَخذل الدعوة في أصعب الظروف.

فمن أيّ هذه الأصناف تريد أن تكون؟!

 

 

محمد عادل فارس