في فضل معاوية رضي الله عنه

صالح بن عبد الله العصيمي

معاويةُ صحابيٌّ جليلٌ أسلمَ قبلَ الفتح، قال رضي الله عنه: "كتمتُ إسلامي عن أبي، ولقد دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكةَ في عمرةِ القضاءِ وإني لمصدِّقٌ به، ثم لمَّا دخل عامَ الفتحِ أظهرْتُ إسلامي، فجئتُهُ فرحَّبَ بي، وكتبتُ بينَ يديهِ".

  • التصنيفات: خطب الجمعة - سير الصحابة -

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين.

أما بعدُ:


فيا عِبادَ اللهِ، ما تجرَّأ أحدٌ على أصحابه صلى الله عليه وسلم بسبٍ أو ثلب، إلا ابتلاه اللهُ قبل موته بموت القلب، فهم مبلِّغو الرسالة، وحملةُ الأمانة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هُمُ الصحبُ الميامين، والأخيارُ الطاهرون، وما ولج أحدٌ في أعراضِهم إلا كان ولوجُهُ عن طريق بوابة أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فما تجرَّأ أحدٌ عليه إلا قادتْه تلك الجرأةُ إلى بقيةِ أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ولأنهُ الستر لأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فإذا كشفَ الرجل الستر، اجترأ على ما وراءه، إنه معاوية رضي الله عنه.

نعم؛ ما تجرأ أحدٌ على صحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا كانَ أولُ ولوجِه من بابِ الطعنِ في معاويةَ رضي الله عنه خليفة المسلمين، وخال المؤمنين، ولقد تجرأتْ قنواتُ الرافضةِ سيرًا على نهج كُتُب أئمتِهم وآياتهم على سبِّ صحبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُبتدئين بمعاويةَ صراحةً وعلانيةً، مُستدلِّين بأحاديثَ موضوعةٍ على النبي صلى الله عليه وسلم مكذوبةٍ، يستدلون بقصصٍٍ لا تثبت، كقصةِ التحكيمِ المشهورةِ، وهي قصةٌ باطلةٌ، وأحسَنَ الإمامُ أبو بكر ابن العربي رحمه الله حينما ردَّها إجمالاً؛ لأنها باطلة ٌلمن تفحَّصَ فيها، وقد انخدعَ بها من انخدع من المُرتابين والجُهالِ.


 

إِنَّ الرَّوَافِضَ شَرُّ مَنْ وَطِئَ الحَصَى *** مِنْ كُلِّ إِنْسٍ نَاطِقٍ أَوْ جَانِ
مَدَحُوا النَّبِيَّ وَخَوَّنُوا أَصْحَابَهُ *** وَرَمَوْهُمُ بِالظُّلْمِ وَالعُدْوَانِ
حَبُّوا قَرَابَتَهُ وَسَبُّوا صَحْبَهُ *** جَدَلاَنِ عِنْدَ اللَّهِ مُنْتَقِضَانِ
فَكَأَنَّمَا آلُ النَّبِيِّ وَصَحْبُهُ *** رُوحٌ يَضُمُّ جَمِيعَهَا جَسَدَانِ


عبادَ اللهِ:

لا بُدَّ للأمَّةِ أن تعرفَ لمعاويةَ رضي الله عنه قدرَهُ، فمعاويةُ صحابيٌّ جليلٌ أسلمَ قبلَ الفتح، قال رضي الله عنه: "كتمتُ إسلامي عن أبي، ولقد دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكةَ في عمرةِ القضاءِ وإني لمصدِّقٌ به، ثم لمَّا دخل عامَ الفتحِ أظهرْتُ إسلامي، فجئتُهُ فرحَّبَ بي، وكتبتُ بينَ يديهِ"؛ ذكرَ ذلك ابنُ كثيرٍ في البداية، وشهد رضي الله عنه معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُنينًا، وله رضي الله عنه فضائلُ، منها:

1- أنَّه مع أولئك الرَّعيلِ الذين اشتركوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنينٍ، فقال الله فيهم: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمنينَ} [التوبة من الآية:26]، فكان رضي الله عنه من المؤمنين الذين أنزل الله عليهم سكينته.

2- دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم دعاءً خاصًّا؛ فقال: «اللهم اجعله هاديًا مهديًّا، واهدِ به» (رواه الترمذي، وصحّحه الألباني).

3- وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم علِّم معاويةَ الكتابَ والحساب، وقِهِ العذاب» (أخرجه ابن حِبّان في صحيحه).

4- ومن فضائله ويعدُّها بعضهم مطعنًا عليه، وهي من أعظم فضائله: ما أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنه قال: كنتُ ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «اذهبْ وادعُ لي معاويةَ»، قال: فجئتُ فقلتُ: هو يأكل، قال: ثم قال لي: «اذهب فادع لي معاوية»، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: «لا أشبَعَ اللهُ بطنَه»، قال ابن عساكر عن حديث «لا أشبع الله بطنه»: أصح ما روي في فضل معاوية.


قال الذهبي: هذه منقبةٌ لمعاوية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهمَّ! إنمَّا أنَا بشرٌ، فأيُّما رجلٍ من المسلمين سببتُه، أو لعنتُه، أو جلدتُه؛ فاجعلْها له زكاةً ورحمةً» (رواه مسلم)، وقال الألباني: "قد يستغل بعض الفِرَق هذا الحديثَ، ليتَّخذوا منه مطعنًا في معاوية رضي الله عنه وليس فيه ما يساعدهم على ذلك، كيف وفيه أنه كان كاتِبَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقيل في «لا أشبع الله بطنه»: إنها كلمةٌ جرتْ على عادة العرب، نحو: قاتله الله ما أكْرَمَه! ويل أمه وأبيه ما أجوده! مما لا يراد معناه".

5- ومن فضائله أيضًا: أنه أول من غزا مجاهدًا في سبيل الله على البحر أميرًا، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فقال: «أول جيشٍ من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا» (رواه البخاري)، قال المهلب: "وفي هذا الحديث منقبةٌ لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر، وكان ذلك في وقت إمَارَتِه على الشام في خلافة عثمان رضي الله عنه".

6- ومن فضائله أيضًا: أنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث روى مسلمٌ في صحيحه: "أن أبا سفيان رضي الله عنه طلَبَ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمره حتى يقاتِلَ الكفارَ كما كان يقاتل المسلمين، وأن يجعل معاوية كاتبًا بين يديه، فاستجاب له النبي صلى الله عليه وسلم فكان معاوية رضي الله عنه يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه المزية لا تكون إلا لتقيٍّ"، وكان يكتب أيضًا رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زعماء القبائل، كما ذكر ابن حجر في (الإصابة) وغيره.

7- ولقد نال معاويةُ ثقةَ أمير المؤمنين عمرَ رضي الله عنه الذي لا يحابي في الإمارة قريبًا ولا صديقًا؛ ولذا فقد اختار معاويةَ لفتح قيسارية، فأرسل إليه رسالةً قال فيها: "أما بعد، فقد وليتُكَ قيسارية، فسِرْ إليها واستنصر الله عليهم، وأكثِرْ من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ومولانا، فنِعْم المولى ونعم النصيرُ"، فسار إلى قيسارية بجنوده، وكانت تلك المدينة محصَّنةً، وبأسُ أهلها شديدًا، فحاصرها معاوية طويلاً، واجتهد في القتال، حتى فتح الله على يديه، وكان فتحها كبيرًا، وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وكانت قيسارية آخر مدن الشام فتحًا على يد معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك بعد القدس.

8- ولقد أثنى عليه سلفُ هذه الأمَّة من الصحابة والتابعين، ومن ذلك:


أ- أن عمر رضي الله عنهقال: "تَذكُرون كسرى وقيصر ودهاءهما، وعندكم معاوية؟!" (رواه الترمذي بسندٍ صحيح).

ب- وقال علي رضي الله عنه: "لا تَكرهُوا إمارة معاوية، فوالله لئن فقدتموه لترون رؤوسًا تندر عن كواهلها كأنها الحنظل"، وهذا أمرٌ من علي رضي الله عنه لأصحابه بعدم كراهيتهم لإمارة معاوية، وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال عن معاوية: "إنه فقيه".

ج- وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ما رأيت أحدًا أشبهَ بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة معاوية"؛ بل ها هو الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ما ضرب إنسانًا قط، إلا إنسانًا شتم معاوية رضي الله عنه.

د- وقال ابن تيمية: "اتَّفق العلماء على أن معاوية رضي الله عنه أفضل ملوك هذه الأمَّة، وكان مُلكه ملكًا ورحمةً".

هـ- ولما ذُكر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عند الأعمش رحمه الله فقال: "كيف لو أدركتم معاويةَ؟!" قالوا: في حِلمه؟ قال: "لا والله، في عدله".

و- قال سعيدُ بنُ المسيب: "من مات محبًّا لأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهم، وشهد للعشرة بالجنة، وترحَّم على معاوية رضي الله عنه، كان حقيقًا على الله ألاَّ يناقشه الحساب".

ز- قال ابن خلدون: "كان ينبغي أن تُلحقَ دولةُ معاوية بدُولِ الخلفاء؛ فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة".

والشاهد أن معاوية رضي الله عنه صحابيٌّ جليلٌ، مَن تجرأ عليه، فهذا نذيرٌ على سوء طويته، ويُخشى على من سلك هذا المسلكَ من سوء الخاتمة، أفلا يَسَعُ العقلاءَ ما وسع سلفَ هذه الأمةِ مِن حبِّه، والترضِّي عليه؟!


أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية في فضل معاوية


عباد الله:

إن معاوية رضي الله عنه من خيرة صحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإني لأعجب من قنوات الرافضة، وآياتهم وملاليهم، وأذنابهم وأتباعهم، كيف لا يحكِّمون عقولهم إن كانت لهم عقول؟!

فهم يرَوْن أن الحسن بن علي رضي الله عنه إمامٌ من أئمتهم، معصومٌ من الخطأ والسهو باتفاق مصادرهم؛ بل ويرون أن من لم يؤمن بعصمته لا يدخل الجنةَ أبدًا، وقد اتَّفقت مصادرهم مع مصادر أهل السُّنة: أن الحسن رضي الله عنه تنازَلَ عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه فإن كان معصومًا عندهم كما يزعمون من الخطأ والسهو والنسيان، أفلا ترشدهم عقولهم إلى أن يعدُّوا تنازُلَه تنازلاً صحيحًا ممن لا يخطئ عندهم؟!

فكيف يقدحون في معاوية وقد تنازَلَ له بالخلافة معصومٌ عندهم؟!

وهل يمكن للحسن رضي الله عنه أن يتنازل عن الخلافة لمن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟!

بل ويتنازل عن الخلافة لمن هو عندهم أكفر من اليهود والنصارى، أليس في هذا قدحٌ في الحسن؟!

عباد الله:


إن ما حدث بين الصحابة دافعُه حبُّ الخير، فلا يجوز للمسلم أن يقع في عرض واحدٍ منهم، فلقد حمى الله يدَك من دمائهم، أفلا تحمي لسانك من أعراضهم؟



 

قُلْ خَيْرَ قَوْلٍ فِي صَحَابَةِ أَحْمَدٍ *** وَامْدَحْ جَمِيعَ الآلِ وَالنِّسْوَانِ
دَعْ مَا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي الوَغَى *** بِسُيُوفِهِمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ


فَقَتِيلُهُمْ مِنْهُمْ وَقَاتِلُهُمْ لَهُمْ *** وَكِلاَهُمَا فِي الحَشْرِ مَرْحُومَانِ
وَاللَّهُ يَوْمَ الحَشْرِ يَنْزِعُ كُلَّ مَا *** تَحْوِي صُدُورُهُمُ مِنَ الأَضْغَانِ
فِئَتَانِ عَقْدُهُمَا شَرِيعَةُ أَحْمَدٍ ***  بِأَبِي وَأُمِّي ذَانِكَ الفِئَتَانِ



أَوَلا يسع العقلاءَ ثناءُ النبي على الحسن رضي الله عنه فقال: «إن ابني هذا سيدٌ، ولعل اللهَ أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (رواه البخاري)؟! فلقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هاتين الطائفتين بأنهما من أهل الإسلام.

عباد الله:

الحذرَ الحذرَ أن يقع في قلب أحدٍ منكم شيءٌ عن علي رضي الله عنه وأرضاه أو ريحانتي محمدٍ صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما كما لا يقع في قلوبكم شيءٌ في حقِّ خال المؤمنين، وكاتب الوحي للرسول الأمين، معاوية رضي الله عنه فليكن شعارُكم كشعار شيخ الإسلام ابن تيمية عندما قال في لاميته:

 


يَا سَائِلِي عَنْ مَذْهَبِي وَعَقِيدَتِي *** رُزِقَ الهُدَى مَنْ لِلهِدَايَةِ يَسْأَلُ
اسْمَعْ كَلاَمَ مُحَقِّقٍ فِي قَوْلِهِ *** لاَ يَنْثَنِي عَنْهُ وَلاَ يَتَبَدَّلُ


حُبُّ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ لِي مَذْهَبٌ *** وَمَوَدَّةُ القُرْبِ بِهَا أَتَوَسَّلُ
وَلِكُلِّهِمْ قَدْرٌ وَفَضْلٌ سَاطِعٌ *** لَكِنَّمَا الصِّدِّيقُ مِنْهُمْ أَفْضَلُ


فقلوبُ العقلاء مُلئتْ بحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم وصحبه، أما القلوب المريضة، فأمرُها إلى الله.

اللهم اجعلنا ممن خافك واتَّقاك.