حرب لبنان وسقوط آخر أوراق التوت !
ملفات متنوعة
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
الجزائر/ عبد الحق بوقلقول
23/7/1427 هـ - 17/08/2006 م
لسنا بحاجة إلى أن نقرأ الواقع العالمي الحالي بشكل عميق جداً؛ لأن
قراءة سطحية وبسيطة يمكن لأي كان أن يجريها، سوف تكون جديرة بأن توضّح
له أن جرائم الحرب التي تُرتكب يومياً في فلسطين والعراق ولبنان
وغيرها-لأن القائمة مع الأسف طويلة- لا تدل فقط على همجية الاستعمار
الأمريكي-البريطاني، الأنجلوسكسوني بعبارة أكثر وضوحاً، وعدوانية
الكيان الصهيوني الذي هو بلا خلاف، قمة ما بلغته اللصوصية الاستعمارية
الغربية في التاريخ الحديث، وإنما تدفع بنا إلى التفكير في المنحى
الذي يسير فيه العالم اليوم؛ لأن السؤال الذي يتعين علينا طرحه في
الوقت الحالي، هو سؤال حال الحضارة الغربية- إن جاز لنا وصفها
بالحضارة أصلاً- وما آلت إليه من نمطية فكرية متوحشة. يتعين علينا أن
نسأل هؤلاء المتحضرين وكل المتأثرين بهم من التيار الليبرالي، مثلما
بتنا نسمي عملاء أمريكا وسياستها مؤخراً، عما آلت إليه هذه الثقافة من
توجّهات تدميرية؟ يحق لنا أن نسأل كل هؤلاء عن مفاهيم الحداثة
والمدنية، والقيم الديموقراطية و'قدسية' العقل؟ فهلاّ أخبرتمونا عن
موقع الإنسان وسط هذه 'الحضارة'؟ وماذا تبقّى له في منظوركم، من حرية
وكرامة؟
الحقيقة أن الغرب نفسه بات هو أول من ينقلب على معاييره ومنطلقاته
التي حاول قبلاً، أن يفهمنا أنه تأسس عليها وناضل ويناضل في سبيل
تعميمها، وشيّد كل تشريعاته وقوانينه ونظمه، عليها واعتماداً على
أطروحاتها. لقد تجاوز هذا الغرب منطق الدين والأخلاق، فلم يعد
الكثيرون عندهم يقدسون غير العقل، بمعنى أن مفهوم الألوهية لم يعد له
من وجود عندهم، ثم ها هو الغرب نفسه، ينقلب على هذا 'الإله' الجديد
فيقتله مثلما قتلت بنو إسرائيل أنبياءها، بدعوى ما بعد الحداثة
(Post-Modernism) وهذه الأخيرة، على ما يبدو، تكفلت بقتل كل ما تبقّى
لديهم من قيم الإنسانية بمعنى أن هذا الغرب تطور وتقدم وناضل حتى بلغ،
مرحلة المادية المتوحشة التي هي أساساً استنساخ بالغ الدقة لكل قيم
ومعايير عصر ما قبل اكتشاف النار.
من الواضح إذن أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تعير كبير أهمية
لقيم الديمقراطية ومؤسساتها، فضلاً عن حقوق الإنسان، وكل لواحق هذه
الأخيرة، وهذا أمر جليّ، ويمكن النظر في قضية التصنت على الأمريكيين
أنفسهم لأجل أن يفهم كل مَن لم يزل مؤمناً بالحرية ليفقه حقيقة ما
يجري. لم تعد القوة العظمى إذن تكترث كثيراً بكل هذا أكثر من اكتراثها
بضرورة الانتقال من مستوى الدولة-الأمة أو حتى القوة العظمى، إلى
مستوى الإمبراطورية والقوة الوحيدة المهيمنة في العالم، بمعنى أن
سلوكها بات لا يختلف كثيراً عن سلوك كل الإمبراطوريات القديمة في روما
مثلاً التي لم يجن العالم من هيمنتها غير ملايين القتلى والمضطهدين
على مر قرون سيطرتها، مثلما تقول كتب التاريخ الإنساني قبل أن يتسلط
عليها قوم آخرون استخلصوا البطش والوحشية من الجنود الرومان أنفسهم
فأعادوا الصاع، صاعين ومارسوا ذات القيم التي علّمتهم إياها
الإمبراطورية فحرقوا روما، وجعلوا منها أثراً بعد عين.
لقد كان أولئك الناس من البرابرة الجرمان -مثلما يسميهم المؤرخون
الغربيون على الرغم من إجرامهم ليس إلا نسخة مكررة من إجرام أسياد
روما- ثم ها هو التاريخ يعيد نفسه، على رأي ابن خلدون، وتعاود الحكاية
فيخرج جورج بوش ليثبت أمام الدنيا أن يوليوس قيصر الذي مضى على رحيله
أكثر من ألفي عام، عاد في شكل جديد مع فارق طفيف في الملامح والكلمات،
وإن كانت الأمانة تقتضي منا الإشارة إلى أن الأول كان شخصاً أكثر ذكاء
بكثير من هذا الحالي وباعتراف اقرب مقربيه بلا خلاف.
ليس من الضروري الإشارة إلى أن مفهوم الإمبراطورية يختلف اختلافاً
عميقاً عن معنى الديمقراطية، ويمكننا هنا أن نلحظ أن أمريكا المحافظين
الجدد باتت تحبذ الاعتماد على إستراتيجية الدمقرطة وتصدير قيم الحرية
بالقوة، ثم التراجع عنها، ورفضها حينما تفرز الصناديق مَن لا ترضى
عنهم مصانع "الحرية" مثلما حدث في فلسطين مؤخراً حينما رفض العالم
الحر التعامل مع حركة حماس، على الرغم من أنها اختيرت من قبل شعبها
بكل حرية وبنزاهة، ربما هي أرقى بكثير من الانتخابات الأمريكية
نفسها.
بالتالي فإن الديموقراطية "الموصوفة" هذه وبهذا المعنى، لا تعترف
بالشعوب فضلاً على أنها تعاديها أصلاً؛ لأن كل ما يهم صُنّاع السياسة
في واشنطن، الذين هم في ذات الوقت كبار ملاك شركات النفط والصناعات
الحربية، هو تأمين مصالح أموالهم وامتداداتهم المصلحية ورعاية حركة
رساميلهم بمعنى أنهم ليسوا في حاجة إلى من يتبنى طرحهم وإنما هم فقط،
بحاجة إلى من يؤمن لهم هذا المطلب والدليل على ذلك، تاريخ أمريكا
الحافل بالانقلابات العسكرية التي نظمتها ورعتها مصالح استخباراتها
عبر العالم حيث فرضت النظم الديكتاتورية بالقوة على رؤوس أكثر من شعب
وأزاحت حكومات ديموقراطية وحرة بسبب أنها لم تؤمن لها مآربها ومصالحها
ولا حاجة لنا هنا إلى أن نستشهد بالأمثلة؛ لأنها كثيرة وعديدة ولا
يجهلها إلا من يصر على إغماض عينيه.
يقودنا هذا أن نستخلص أنه ووفقاً لما تقوله ضوابط علم السياسة وفلسفة
الحكم أن الغرب المتصهين برمته -حتى لا نضطر إلى أن نستقري قائمة
الدول السائرة في الركاب الأمريكي كلها- يريد أنظمة حكم في بلداننا
على شكل هجين بمعنى أنها لن تكون ديمقراطية بشكل خطير على مصالح
الرساميل، ولا استبدادية بطريقة قد تنتج ردات فعل عنيف كظاهرة تنظيم
القاعدة، وكل الفكر القريب منه والأخطر أن أمريكا تتبنى إستراتيجيات
التغيير والإصلاح في صور الأنظمة وخطاباتها (كما هي حالة أنظمة كل من
مصر والمملكة العربية السعودية والجزائر) بما أنها لا ترغب فعلاً في
أن تفتح المجال الديموقراطي للشعوب حتى تتمكن هذه الأخيرة من أن تحكم
مصيرها من خلال اختيار ممثليها أو نموذج المشروع المجتمعي الذي ترغب
في أن يسود فيها؛ لأن ممارسة الديموقراطية سوف تأتي حتماً بمن يعادي
أمريكا ومشاريعها -على اختلاف مسمياتها مؤخراً- إذ إن رفض أمريكا هو
النتيجة الفعلية التي أنتجتها سلوكياتها في العراق وأفغانستان، ثم في
لبنان مؤخراً فضلاً عن دعمها اللامشروط لربيبتها دولة الكيان الغاصب
بطريقة باتت تحرج حتى عملاء واشنطن كثيراً، وصار هؤلاء مؤخراً لا
يستطيعون حتى تقديم تفسيرات معقولة يسوّغون بها عمالتهم وانخراطهم في
المشروع الأمريكي المتصهين.
لا يحق لنا أن نتسرع كثيراً ونعلق كل مساوئنا على أمريكا ولواحقها؛
لأن التاريخ يثبت لنا أننا لم نستطع طيلة هذه القرون الأخيرة أن نعي
الوجه الفعلي لهذا الغرب وطرائق تفكيره وبالتالي، كيفية التعامل أو
التفاعل معه، فتحدّث أكثرنا انبهاراً بما يُسمّى الحضارة الغربية عن
ضرورة الاستفادة من جوانب الثورة التنويرية إلى درجة أنه تشكل لدينا
تيار كامل يحمل هذا الاسم من دون أن يكون له أي نصيب من ذلك النور
الذي تأسس التيار لأجله. لم يتوقف تأثرنا بهذا الغرب عند هذا الحد،
لقد اكتفينا من هذا الاصطدام العنيف معه بالتركيز على المعايير
الثقافية والاستهلاكية بمعنى أن كل الذين حاولوا -أكثرهم- الإفادة
منهم، ركزوا على القيم النظرية كالحرية والعدالة والمساواة دونما درس
دقيق وفرز علمي مضبوط، فاعتقد أغلبنا أن هذه هي السمات الوحيدة التي
تميز وجه هذا الشق من العالم، بمعنى أن ما ترسّخ لدينا كان قيماً
مثالية لا وجود لها على أرض الواقع؛ لأن الغرب ذاته، يملك وجهاً
قبيحاً ها هو يجليه ويظهره في الأعوام الأخيرة بهذه الكيفية التي كنا
نعتقد أنها لا محل لها في قواميس حقوق الإنسان ومفاهيم المواطنة
والعدالة. لقد اكتشفنا أن تلك القيم لم تكن في الواقع غير يافطات يجري
شهرها وتكييفها حسب متطلبات الأهداف الإستراتيجية، وأضحت ظاهرة
المعايير المزدوجة وسياسة الكيل بمكيالين، ثابتاً لا يجادل فيه غير
متملق حريص على مواصلة السير في قاطرة الاستعمار في طبعته الجديدة
ولذلك فلا فرق عند أمريكا مثلاً بين إرهاب الدولة وقتل المدنيين من
الأطفال والنساء بدعوى محاربة "الإرهاب"، ثم لا تتحرك أي شعرة في قلب
صُنّاع السياسة هناك، وبين الادعاء بالحرص على تعزيز القيم الإنسانية
والحرية.
أليس من الغريب مثلاً أن يعلن رئيس الوزراء الصهيوني أسفه عن مقتل
المدنيين في لبنان، ثم يلحقه الرئيس بوش بعد ذلك مسوغاً الأمر بأن
"لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها"؟ ثم أليس من الغريب أيضاً أن يعلن قادة
الكيان أنفسهم أنهم أخفقوا في مواجهة المقاومة اللبنانية على الرغم من
كل ما فعلوه، ولا يهدأ بال الكاوبوي بعد ذلك حتى يتبجح أمام الصحفيين،
ويقول إن حزب الله "انهزم أمام إسرائيل"؟ من القطعي أن الرجل لم يكن
يهذي، ولكنه كان مازحاً ربما، بمعنى أنه أراد أن يقول العكس، واستعار
بعض أساليب أهل الشعر والأدب، فأشقاؤنا المصريون مثلا يلقبون الأعمى
باسم "أبو بصير" والأصلع: "شعراوي" وما إلى ذلك من ألقاب تُستعمل على
سبيل الدعابة التي يتميز بها أخواننا في مصر.
الثابت الوحيد من كل هذا ملخصه أن الغرب لم يعد اليوم مضطراً إلى أن
يتملق أو يتصنع الحرص على سلامتنا، ولقد أظهرت هذه الحرب الأخيرة، أن
جل ما يحرص عليه هؤلاء هو مصالحهم، ومواثيقهم مع الدولة العبرية، فلا
يتورّعون في سبيل الإيفاء بذلك حتى من أن يتنازلوا عن عملائهم،
ويفضحوا بيادقهم في المنطقة، وهذا ما ظهر مؤخراً من خلال تلك التقارير
الصحفية التي تحدثت وبإسهاب عجيب، عن أدق تفاصيل بعض المكالمات
الهاتفية لرموز منطقتنا، أو حتى عن ذلك التقرير الذي خرج في باريس قبل
يومين، ليفيد بأن أحد الوزراء اللبنانيين، يشغل منصب عميل مأجور لحساب
الموساد في بيروت، وأعطى للجانب الصهيوني معلومات عن مكان تواجد حسن
نصر الله رئيس الحزب لتسرع الطائرات مباشرة بعد ذلك بقصف المكان،
ويظهر بعد ذلك أن ذلك الوزير "الهمام" لا يصلح حتى أن يؤدي دور
المخبر.