من روائع التشريع المالي الإسلامي

رسم الإسلام خطا واضحا سويا لبني الإنسان أبان جوانب الحياة كلها فلم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكر فيها خبراً، أو شملها حكما، في ثوبٍ واضح جلي من خلال نصوص الوحي. اشتمل على النظم والأحكام في كل جانب من جوانب التكوين والبناء والإصلاح، وفي كل ناحية من نواحي المجتمع والحياة، في مبادئ دقيقة محكمة، وتشريعات ربانية خالدة، وأصولٍ جامعةٍ كاملة، تعطي ولا تأخذ، وتجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تبدِّد، تبني ولا تهدم، وتُسعد ولا تفسد، توصل إلى الغايات الأسمى والمقاصد العليا.

  • التصنيفات: فقه المعاملات -


رسم الإسلام خطا واضحا سويا لبني الإنسان أبان جوانب الحياة كلها فلم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكر فيها خبراً، أو شملها حكما، في ثوبٍ واضح جلي من خلال نصوص الوحي. اشتمل على النظم والأحكام في كل جانب من جوانب التكوين والبناء والإصلاح، وفي كل ناحية من نواحي المجتمع والحياة، في مبادئ دقيقة محكمة، وتشريعات ربانية خالدة، وأصولٍ جامعةٍ كاملة، تعطي ولا تأخذ، وتجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تبدِّد، تبني ولا تهدم، وتُسعد ولا تفسد، توصل إلى الغايات الأسمى والمقاصد العليا.

وإن من الجوانب التي أولتها الشريعة أعظم الاهتمام الجانب المالي والناحية الاقتصادية في هذه الحياة، أقامته على أمتن الأسس، وأنبل المثل، وأكرم المقاصد، وأشرف الغايات، أبان القرآن أصوله، وأوضحت السنة قواعده، والمتأمل لتلك النصوص يجد أن الإسلام حث على حُسن النظر في اكتساب المال، من طرقه المباحة وأساليبه المناسبة التي تتفق مع أوامر الدين، ولا تخالف أخلاق المسلمين. وكثير من الصور والخصائص تبرز لنا عظمة الإسلام وكماله وعظيم سموِّ تشريعه ونظامه يمكن أن نسميها روائع التشريع المالي الإسلامي.

أولها: الصدق والأمانة في التعامل، فهما صفتان من صفات المؤمن بوجه عام، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، {إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ‌كُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: 58]، ولكنهما من الصفات التي تُطلب في التعاملات المالية بوجه خاص في الحديث: « التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهداءِ» (سنن الترمذي وقال حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه برقم: 1209)، والصدق كما أنه مطلوب مع المسلمين فهو مطلوب مع غير المسلمين.

لذا لما صدق المسلمون في بيوعهم وسائر تعاملاتهم كان لذلك الأثر البالغ في دخول كثير من المجتمعات في الإسلام أفواجاً، حتى انقلبت بالكامل مجتمعات إسلامية كما حصل ذلك في بعض أصقاع العالم. ومن تلك الأصول التسامح والتساهل في البيع والشراء وسائر التعاملات، وفي الحديث: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى» (لعله يقصد: «رحمَ اللهُ رجلًا، سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشترى، وإذا اقْتضى» رواه البخاري برقم:2076). ويتمثل هذا التسامح في صور كثيرة، منها إنظار المدين المعسر، وكلِّ ما فيه أجل من التعاملات بإمداد الأجل، ما دام بالإمكان الانتظار ومن صور التسامح إقالة البيع، أي: الاستجابة إلى فسخه إذا رغب المشتري ذلك لظهور عدم احتياجه إلى المعقود عليه، وفي الحديث: «من أقال مسلماً أقال الله عثرته» (صحيح رواه السخاوي، المقاصد الحسنة، برقم: 465).

كما أن الإسلام حرم كل معاملة تقتضي الظلم على أحد المتعاقدين، ومن صور ذلك تحريم المطل بالدين ومن تلك الصور تحريم الغش والخداع بأنواعه المختلفة وأشكاله المتعددة: «من غشنا فليس منا» (رواه الهيثمي في مجمع الزوائد برقم:4-28 وقال رجاله رجال الصحيح). ومن المبادئ المهمة في شريعتنا الخالدة مبدأ منع كل تعامل ينافي مبدأ التآخي والمودة بين المؤمنين، ويؤدي إلى بث روح التباغض بين المسلمين، ومن هنا نهى نبينا عن البيع على البيع، والشراء على الشراء، والسوم على السوم، ونهى عن بيع النجش. ومن الأصول التي تبين عظمة الإسلام عدم استغلال حاجة المحتاج، أما استغلال حاجة المحتاج إلى الشيء بالتحكم به في الشيء أو في الشروط ونحو ذلك فليس من خلق الإسلام ولا أهله، لذا نهى الإسلام عن الاحتكار، في الحديث: «لا يحتكر إلا خاطئ» (رواه الألباني، في غاية المرام، صحيح برقم: 325).

ومن الجوانب المهمة تربية الإسلام أتباعه على مبدأ الرحمة بالمستهلكين، فقد حرص الإسلام على تقليل تكاليف الإنتاج حتى تصل السلع إلى الكل بأرخص الأسعار، ووجه في تعاليمه الإنسانية إلى الاستغناء عما يمكن الاستغناء عنه من النفقات الإنتاجية. ومن صور ذلك تفضيله أن يتم بين المُنتِج أي البائع والمستهلك أي: المشتري مباشرةً دون واسطة، لأن أجرة السمسار سيتحملها المستهلك في النهاية، فيغلو السعر عليه، في الحديث: «لا يبع حاضر لبادٍ» (رواه البخاري، صحيح برقم: 2158) أي: لا يكون له سمساراً ومن صور ذلك أيضاً قول نبينا: «ولا تلقوا السلع حتى يُهبط بها الأسواق» (رواه أبو داوود، سنن أبو داوود، برقم: 3436، وقد سكت عنه وقال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح) أي: لا تخرجوا إلى مداخل المدن لتشتروا السلع من جلابها، ثم تأتون بها إلى السوق لتبيعوها فيه؛ لأن ذلك يرفع الأسعار على المستهلكين.

كما حرص الإسلام على تأصيل مبدأ الوفاء لحقوق العاملين، فالعامل في الإسلام عليه واجبات، سواءٌ كان هذا العامل مع سائر أفراد المجتمع أو مع قطاعات الدولة، وله حقوق كاملة يجب على رب العمل الوفاءُ بها، والالتزام بمقتضاها، ومن أهمها: عدم إرهاقه بالعمل، أو تكليفه بما لا يطيق والوفاء الكامل بأجرة الأجير حينما يستوفي صاحب العمل عمله، «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (رواه البيهقي، السنن الكبرى للبيهقي، برقم: 120/6، مرفوع وهو ضعيف بالمرة).

إن الالتزام بتلك المبادئ العظيمة، والتوجيهات الكريمة، سبب لتسود المودة في المجتمع، ويعمّ الخير فيه فنظام الإسلام نعمة عظمى لبني الإنسان، تتضمن السلامة والسعادة، وتضمن الخير والاطمئنان، فالواجب التمسك به في كل جانب، وتحكيمه في كل شأن ففي ذلك الصلاح والفلاح، والفوز والنجاح: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].


عثمان بن ظهير