إنجيل واحد أم أناجيل (1)

يقول البر فسور هاير - أستاذ كرسي "الكتاب المقدس" في جامعة كا?بن اللاهوتية في هولندا -في حوار مع صحيفة "ليدش داخبلاد": "إن الكتاب المقدس (أي الإنجيل) ليس كلاما من الله بل هو من صنع البشر، وأنه لا يحتوي حقائق أبدية بل يشكل ألوانا كثيرة من القصص المتنوعة عن البشر".

  • التصنيفات: اليهودية والنصرانية -


يقول البر فسور هاير - أستاذ كرسي "الكتاب المقدس" في جامعة كا?بن اللاهوتية في هولندا -في حوار مع صحيفة "ليدش داخبلاد": "إن الكتاب المقدس (أي الإنجيل) ليس كلاما من الله بل هو من صنع البشر، وأنه لا يحتوي حقائق أبدية بل يشكل ألوانا كثيرة من القصص المتنوعة عن البشر".
وقد أثارت تلك التصريحات ضجة إعلامية كبيرة، مع أن الأمر ليس بحاجة لتلك الضجة الكبرى، فالدكتور وهو أستاذ لاهوت قد أصاب كبد الحقيقة التي لا يجادل حتى الباحثون النصارى في ثبوتها، ذلك أن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل التي بين يدي النصارى -مرقص ومتى ولوقا ويوحنا- ما هي إلا تواريخ كتبها هؤلاء الرجال عن حياة المسيح عليه السلام وأقواله وأفعاله، وهذا أمر لا يخفى على قارئ تلك الكتب، بل إن لوقا يصرح بذلك في بداية إنجيله، فيقول: "لقد كتب كثيرون في تاريخ الأحداث التي جرت لدينا -المسيحيين الأولين- حسب ما نُقل من هؤلاء الذين كانوا شهوداً لهذه الحوادث، ولما كُنتُ قد قُمتُ ببحث هذه الأحداث بحثا دقيقاً وتتبعتها من نشأتها الأولى لذلك رأيت من الخير أن أدونها ... " (إنجيل لوقا فقرات:1-2 الإصحاح الأول).

أين إنجيل عيسى؟


قبل الخوض في تفاصيل الأناجيل المعتمدة عند المسيحيين اليوم ، لا بد من الإجابة على سؤال جوهري، وهو أين اختفى إنجيل عيسى؟ فالقرآن الكريم يذكر أن الله أنزل على عيسى كتابا هو الإنجيل، قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [المائدة:46]، وكذلك ورد ذكر إنجيل عيسى عليه السلام في إنجيل مرقص (الإصحاح الأول الفقرة:14-15): "وبعدما أُلقي القبض على يوحنا ، انطلق يسوع إلى منطقة الجليل ، يبشر بإنجيل الله قائلاً: قد اكتمل الزمان، واقترب ملكوت الـله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل". وفي إنجيل متى في الإصحاح الرابع منه ما نصه: "وكان يسوع يطوف كل الجليل يُعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت"، أي يدعو إلى الإنجيل ، وما من شك أنه ليس أيٍّ من الأناجيل الأربعة هو الإنجيل الذي أُنزل على عيسى عليه السلام لأنها لم تكتب إلا بعد موته.

فأين ذهب الإنجيل؟ ولماذا بقيت هذه الأناجيل (متى ومرقص ولوقا ويوحنا)؟


وللإجابة على هذا السؤال لابد من معرفة دور المجامع النصرانية في إقرار ما تشاء من عقائد، وإبطال ما تشاء، ومصادرة بل وإبادة ما يعارض تلك العقائد من رسائل وأناجيل، وهذا ما يفسر اختفاء ليس إنجيل عيسى وحده بل اختفاء غيره من الأناجيل الأخرى التي كتبها أتباعه ومريدوه، وذلك أن النصارى -كما سبق في مقالنا: نشأة النصرانية وتطورها- جاءوا بما لديهم من تلك الكتب وقدموها إلى مجمع نيقية -سنة: 325 م- الذي قام بدوره باختيار هذه الأناجيل الأربعة ، وأمر بإبادة وإحراق ما سواها.
ومن الأناجيل التي كانت معروفة آنذاك إضافة إلى إنجيل عيسى عليه السلام: إنجيل التذكرة، وإنجيل يعقوب، وإنجيل توما، وإنجيل بطرس، وإنجيل فيلبس، وإنجيل برنابا، وغيرها من الأناجيل الكثيرة، التي حكمت عليها الكنيسة بالإعدام، فلم يُعلم أين هي؟ ولا ما فُعل بها؟

وبعد هذه المقدمة المهمة، التي حاولنا فيها الإجابة على سؤال حول سبب اختفاء إنجيل عيسى عليه السلام وغيره من الأناجيل، نعرض الآن تعريفا موجزا بالأناجيل المعتمدة عند النصارى فنترجم لأصحابها، ونذكر أهم ما وُجِّه إلى تلك الأناجيل من نقد، ولا سيما فيما يتعلق بجانب الرواية، أما مضمون تلك الأناجيل فنرجئ الحديث عنه إلى مقال لاحق:

1- إنجيل متى


هذا الإنجيل كتبه -فيما زعموا- أحد حواريي عيسى عليه السلام، واسمه "متى اللاواني" وقِيل أن اسمه "لاوي" انظر (مرقص:2/14، ولوقا:5/27) وقد كان يعمل عشَّارا -جامعا للضرائب- وهي مهنة محتقرة عند اليهود، وقد تفرغ للدعوة إلى المسيحية بعد رفع المسيح عليه السلام، وألف إنجيله سنة:60 م وقُتل سنة: 62 م في الحبشة بعد أن أمضى 23 سنة داعيا فيها إلى النصرانية.

ومما يطعن به الباحثون في هذا الإنجيل ضياع نسخته الأصلية وعدم معرفة النسخة الأولى المترجمة عنه، فقد كتب متى إنجيله بالآرامية، ولكن النسخة الآرامية لا وجود لها، ولا يعرف بالضبط تاريخ تأليفها، فضلا على أن النسخة المنقولة عنها غير معروفة، وغير معروف أصلا إن كانت الترجمة الأولى إلى اليونانية أم إلى غيرها، فضلا عن جهل النصارى بمترجمها ومدى دينه وأمانته ليحافظ على النص الأول بعيدا عن التحريف والتغيير، إضافة إلى عدم معرفتهم بمدى تمكنه من اللغتين المترجم عنها والمترجم إليها، حتى لا يقع في أخطاء يجهلها، كل هذه الطعون تشكل عقبة كأداء في التصديق والتسليم التام بهذا الإنجيل، ولعمر الله إن كتابا يكتنفه هذا الغموض كيف يجدر بأهل دين أن يجعلوه عمدة في دينهم إليه يَرِدُون، وعنه يصدِرون؟!!

2- إنجيل مرقص


وكاتبه مرقص الهاروني، وهو يهودي الأصل آمن بعيسى عليه السلام، ولم يلقه، ولكنه صحب حواريه بطرس، لذلك يرى الباحث "وليم باركلي" أستاذ العهد الجديد بجامعة جلاسجو: "أن إنجيل مرقص ما هو إلا خلاصة مشاهدات بطرس، وخلاصة مواعظه، فقد كان مرقص قريبا من بطرس حتى كان هذا يصفه بابنه"، وقد قُتل مرقص في مصر سنة:67 م.
وذهب بعض المؤرخين النصارى إلى أن بطرس هو من كتب هذا الإنجيل ونسبه إلى تلميذه مرقص، وفي ذلك يقول المؤرخ النصراني ابن البطريق: "وفي عهد نارون قيصر كتب بطرس رئيس الحواريين إنجيل مرقص في مدينة رومية ونسبه إلى مرقص".

أما زمن كتابته فقد جاء في مقدمة إنجيل مرقص في الطبعة الكاثوليكية للعهد الجديد (منشورات دار المشرق - بيروت- ص:153): "إن الكتاب أُلف في رومة بعد اضطهاد نيرون السنة:64 م" أهـ، وفي الموضع نفسه قولهم: "فما من شيء يحول دون القول أن الإنجيل الثاني ألف بين السنة:65-70" أهـ.

ولعل أول ما يُلاحظه القارئ على هذا الإنجيل -كسابقه- بُعْدُ الفترة الزمنية بين رفع المسيح عليه السلام وكتابة الإنجيل، وهو أمر له تأثير كبير على ضبط المنقول عن عيسى عليه السلام، سواء من الوقائع والأحداث أو من أقوال عيسى عليه السلام وأفعاله، وهذا ما يفسر الاختلاف الشديد بين الأناجيل في نقل بعض الوقائع والأقوال، وبالتالي فالنتيجة المنطقية لذلك أن تلك الكتب ليس لها عصمة من الوقوع في أخطاء البشر لأنها ليست كتبا سماوية، وإن إدعى النصارى أن روح القدس أوحى بها إلى كتبتها إلا أن دعواهم تلك عارية عن الدليل، إذ لو كانت مُوحى بها لِما وُجِد فيها تلك الاختلافات، وهذا المعنى سنزيده إيضاحا بعد الانتهاء من الكلام على إنجيلي لوقا ويوحنا.