معركة الفراض (رمضان 12هـ/ 633م)
ملفات متنوعة
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
ارتبط شهر رمضان المكرم في الوجدان المسلم بالنصر، وربما صحَّ
التدليل على ذلك بما عُرف عن الشهر الفضيل من أنه شهر الصبر، والوحي
الكريم دائمًا ما يعلق النصر على الصبر، ولطالما وردت مشتقات الصبر
مرتبطة بالرباط في سبيل الله، والثبات في ملاقاة العدو، وكلها سياقات
جهادية كما نرى.
السنة المطهرة أيضًا أكدت ذلك حينما ربطت بين النصر والصبر، ومن أجل
ذلك استقر في العقل المسلم صحة النظر إلى رمضان على أنه شهر
الانتصارات، آزر ذلك وأعلى من شأنه امتلاء التاريخ الإسلامي قديمًا
وحديثًا بما يعزز ذلك النظر إلى الشهر الكريم.
ومن هنا كان دخول رمضان فاتحة تُعلي في نفوس المسلمين اليقين في الله
سبحانه، وفاتحة تُعلي في القلوبِ المؤمنة إمكان عودة أمجاد الأمة
الإسلامية الخاتمة، لا سيما أن شهر رمضان يخف بالأجسام، لتُحلِّق
الروح في جوٍّ من الإيمانيات، من هنا تعلق الناس جميعًا باستعادة
ذاكرة الانتصارات الرمضانية لإذكاء هذا اليقين ولإعلاء هذه
الروح.
ومن المعارك التي كان لها أثرها الكبير في تاريخ الفتوحات عند
المسلمين معركة الفراض، والفراض هي تخوم الشام والعراق والجزيرة أي:
الحدود الجامعة لهذه المواضع الثلاثة الكبرى التي كانت تُمثل حجابًا
يحجز بين حضارتي العالم القديم.. الفرس والروم!
وفي هذه الموقعة تمَّ تحالف ثلاثي بغيض بين العرب والعملاء والروم
النصارى والفرس المجوس ضد المسلمين بقيادة خالد بن الوليد- رضي الله
عنه-.
يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان(فراض) 4/244 "دار صادر بيروت عام
1995م": (واجتمعت عليه الروم والعرب والفرس، فأوقع بهم وقعة عظيمة...
قتل فيها مائة ألف)!
وتاريخ العداوة واحد في فعله في الأنفس البشرية، فالمجوس الفرس
والنصارى الروم استطاعوا أن يتناسوا زمن العداوة التي بينهم لحرب
المسلمين ومحاولة كسر شوكتهم.
والتاريخ كذلك واحد في أولئك الذين غلبوا مصالح الاقتصاد، والذين
ركنوا إلى الهزيمة النفسية.. يتضح ذلك في موقف العرب الذين ركنوا إلى
صف الروم والفرس في هذه المعركة انهزامًا نفسيًّا وركونًا إلى أنهما
يمثلان القوتين العظيمتين، هذا الرضوخ أو الركون أنساهم قرابتهم
للمسلمين وهو ما يذكرنا بمواقف الكثيرين من المعاصرين الذين يعيشون
بيننا، ويتكلمون بلساننا لكنهم ارتضوا أن يبيعوا أنفسهم للقوى العظمى
المعاصرة!
يقول ابن كثير في البداية والنهاية: "هجري: 9/534" ثم صار خالد بمن
معه من المسلمين إلى الفراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة فأقام
هنالك شهر رمضان".
ومن الأمور البارزة في هذه المعركة التي يجب الالتفات إليها ما
يلي:
أن نظر عقلاء الأعداء إلى مقاتلة المسلمين غيرهم نابع من الدفاع عن
الحق، وأن هذا الحق هو سر ما يحققونه من النصر على عدوهم، وهو ما نلح
عليه اليوم من وجوب ربط الناس بدينهم؛ لأنه لا نصرَ بمعزلٍ عن هذا
الدين.
يقول الطبري في تاريخه "دار المعارف 3/383" فيما رواه عن الفرس
والروم: "قالت الروم والفرس بعضهم لبعض احتسبوا ملككم هذا رجل يقاتل
على دين وله عقل وعلم"!
لقد فطن هؤلاء إلى السر الذي يحقق للمسلمين انتصاراتهم ولخصوه في
ثلاثة من أهم المبادئ وهي:
الدين والعقيدة التي تحرك المؤمنين بها، ويهون عليهم حياتهم في سبيل
إعلاء كلمتها، ثم العقل والعلم وهما ما يمكن ترجمتهما بالمعارف
والتخطيط، وخالد المشار إليه رمز للمسلمين جميعًا.
أمر آخر ينبغي أن يسترعي انتباهنا وهو: أن الجهاد لم يكن يتوقف
لاعتبارات مما يتوقف من أجلها اليوم أعمال الناس، فهذه المعركة امتدت
من رمضان حتى أوائل ذو القعدة من العام نفسه، فالأعياد مواسم طاعة قبل
أن تكون مواسم ترفيه، فضلاً عن أن تكون مواسم معصية أو كسل.
لقد كان المجاهد المسلم قديمًا يتعبد لله بجهاده وعمله، ويرى سعادته
وهو يخطر بسيفه على أرض يفتحها الله سبحانه، ويرى نشوته ويعزف بسيفه
ورمحه في الهواء، ويرى تحقق علوه وعلو الحق الذي يؤمن به وهو فوق
جواده الذي يرقص طربًا.
وهذه المعركة تفرض علينا اليوم مراجعة أمر الحدود، وربط القائمين فيها
بالوطن الأم ثقافيًّا وفكريًّا، والعمل على إشراكهم في هموم الوطن
رفعًا للانتماء في نفوسهم، ودفعًا لليقظة البالغة لما يمكن أن يكون من
ممارسات لمَن يلونهم من الأعداء حتى لا تستقطب بعض الأفعال من قبل
العدو بعضًا مما ضعف روابط الانتماء في نفوسهم، وابتعدت عن عقولهم
نقاط الارتباط بثقافة الوطن.
إن موالاة بعض العرب قديمًا من سكان الحدود المتاخمة للفرس والروم
ولأعداء المسلمين أمرٌ يثير ضرورة التصدي لمحاولات الاختراق المعاصرة
من قبل الكيانات المجاورة وتأثيرهم على سكان الحدود.. إن أجهزة
التربية والثقافة والعسكرية عليها أن تعي ضرورة ربط هؤلاء بآمال
أوطانهم.
أمر آخر تفجره هذه المعركة وأخوات لها في تاريخنا الجهادي والعسكري
وهو: أن مؤامرات الأعداء وتكتلهم وتحزبهم، ونسيان الفوراق التي بينهم
كل ذلك أمر قديم ولا يتوقع زواله أو نسيانه.
إن تجمع الروم على ما بينهم من صراعات، وأطماع وخلافات عقدية لم
يمنعهم من الاجتماع لحرب المسلمين، إلى الغرب أحيانًا على أنهم
مختلفون ربما يكون خوارًا وخللاً في الرؤية وركونًا إلى ما نحب مما
يخالف حقيقة الأشياء!
موقعة الفراض كانت قريبة عهد بزمان النبوة.. خان فيها البعض مواثيق
اللسان والقرابة والدم، تكاتف فيها مزقاء الأمس (الفرس والروم) وليس
بخافٍ ولا منكور أن يتجدد الموقف الآن، فهل يعي المعاصرون المخاطر
التي تحيق بعالم المسلمين؟!