الربا
حامد بن عبد الله العلي
- التصنيفات: فقه المعاملات -
اقرأ الحلقة السابقة من سلسلة تيسير أحكام البيوع >>>> الخيار في البيع
وهو مبحث مهم للغاية ، ذلك أن الله تعالى قد لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ) رواه مسلم ، فتناول اللعن كل من له صلة أو علاقة بالربا ، و قال تعالى : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وقال { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } ، فهذا يدل على أن الربا خطره عظيم ، وضرره جسيم .
هذا وينقسم الربا إلى قسمين : ربا الديون وربا البيوع .
ربا الديون :
وهو الذي تمارسه البنوك الربوية ، وهو القرض الذي يجر منفعة ، وتقوم عليه البنوك الكبرى ، والقاعدة العامة في الشريعة " كل قرض جر نفعا فهو ربا " ، والقرض يجب أن لا يكون معه أي نفع بل بذل مجاني ، ومحض إحسان ، حتى لو كان النفع بعقد ثان مقرون بعقد القرض ، فإنه ربا ، ومثاله :
*** نبيعك الأرض بالدين بشرط أن نكون نحن الذين نبنيها لك ، وهذا لا يجوز لأنه جر نفعا .
*** ومن الأمثلة المعاصرة المثيرة للجدل ، بطاقة الائتمان التي فيها سحب على المكشوف بمعنى أنه لا يكون ثمة رصيد عندك ، فهم يدينونك من مال البنك ، إذا سحبت في حال لم يكن رصيدك فيه شيء ـ أو يكون لديك رصيد ولكن السحب لا يكون من رصيدك فورا وإنما من شركة الفيزا بالتعاون مع البنك ـ ثم إذا نزل راتبك ، أو لاحقا ، سحبوا منه ما أقرضوك ، وأخذوا زيادة وقالوا هذه عمولة .
ثم هم فوق ذلك ينتفعون أيضا من جهة أخرى ، حيث تبقى أموالك عندهم يستثمرونها فلو لم تكن أموالك عندهم لم يعطوك هذا الدين ، فهم إذن إنما أعطوك مقابل نفع لهم ، وهناك نوع آخر من النفع ، وهو الاشتراك السنوي لهذه الفيزا ، فلو فرضنا أن مائة ألف شخص ، دفعوا ستين دينارا ، فالمجموع هو ستة ملايين دينارا سنويا !
وهو مبلغ كبير انتفع به البنك وأعطاك بطاقة يمكن أن تستدين بها ، فهل هذا كله ، من باب النفع الذي يأتي به الدين ، وبالتالي تكون بطاقة الائتمان التي تمكن العميل من السحب على المكشوف محرمة أم هي عمولة مقابل تسهيل الوصول إلى المال في هذا العالم المعقد ، هذه مسألة نازلة اختلف فيها العلماء ، وهي بحاجة إلى بحث .
*** وعلى أية حال ، هذا هو ربا الديون ، والبنوك الربوية إنما تقوم على ربا الديون ، يودع الزبائن الأموال في صورة دين ويأخذون عليه فائدة سنوية ، وإذا أرادوا قرضا يعطيهم البنك ويأخذ فوائد فاحشة .
ومن الناس من يقول نحن نضع أموالنا عندهم ، وبعد سنة يعطوننا زيادة على أموالنا خمسة بالمائة مثلا ، فلا يوجد استغلال كما يوجد في الربا ، وإنما هي الفائدة والمصلحة ، فلماذا تحرمون التعامل مع البنك الربوي ؟؟
*** والجواب أن البنك الربوي له وجهان :
1. وجه قبيح شيطاني .
2. وآخر جميل في الصورة الظاهرة فقط
ولكل وجه نافذة يستقبل بها العملاء ، فالوجه الحسن يستقبل به من يضعون أموالهم يبتغون بذلك الفائدة ، وفي النافذة الأخرى الوجه القبيح الذي يدين به المحتاجين إلى القروض .
فمن يريد سيارة فاخرة ـ مثلا ـ أو بيتا واسعا أو يختا ، على سبيل المثال يعطيه البنك قرضا ، ويأخذ منهم فوائد عالية تصل إلى ثمانين بالمائة ! ثم يعيد يزيد الفوائد كلما تأخر السداد ، ثم يعيد الجدولة إن طلب العميل ذلك ، ويضاعف الفوائد أضعافا مضاعفة ، ولو تخلف في الدفع ذهب إلى السجن !
بينما يعطي البنك المودعين خمسة بالمائة كل سنة فقط ، فيعتقد هؤلاء أن البنك لا يصنع إلا المعروف .
وواقع الحال أن البنك الربوي إنما يأكل الربا أضعافا مضاعفة ، من جهة ، ويعطي النزر اليسير منه من جهة أخرى .
ثم هو أيضا يضع أموال المودعين ، في بنوك ربوية عالمية ويأخذ عليها ، فوائد بمقدار خمسة عشر بالمائة مثلا ، ثم يعطي المودعين خمسة ويأخذ عشرة ، فالبنك الربي كالشخص الجشع ، الذي يمتص دماء الناس ، ويكون ثروة بالديون بفائدة فقط ، دون أن يسهم في توفير فرص عمل أو مشاريع .
وبتتبع التاريخ علم أن الذين أتوا بفكرة البنك الربوي ، هم اليهود وهم أهل الربا ، قال تعالى : { وأكلهم الربا وقد نهوا عنه } ، وقال : { سماعون للكذب أكالون للسحت } ، فغذاء عقولهم الكذب وغذاء قلوبهم السحت .
ويقال أن الفكرة بدأت في ألمانيا ، حين فكر اليهود هناك ، بأن التجار والمزارعين لديهم أموال يضعونها في البيوت ، فلو جمعناهــــا في مكان واحد عندنا ( المصرف ) وحفظناها لهم ونعطيهم عليها فوائد قليلة آخر السنة ، واستفدنا من بقاءها لدينا بأن ندين المحتاجين بفائدة أعلى ونأخذ الفرق لنا .
ثم أعلنوا للناس أن لدينا أموالا للقروض ، فمن أراد أن يفتح مشروعا ويستدين فليأتنا ونضع عليه فائدة ، ثم جاء الناس يأخذون الديون ، ويرهنون البيوت وكلما تأخروا زادوا عليهم بجشع اليهود ، فإذا جاء آخر العام جاء من وضع أمواله لديهم من التجار ، فقالوا له إن مالك قد زاد زيادة خمسة بالمائة ، فيفرح بذلك ، ويبقى ماله لديهم ، وهم إنما استفادوا من ماله ، بإقراض المحتاجين بفائدة ، وجعلوها لهم ، وهكذا أصبحوا أثرياء بطريق الربا ، ثم انتشرت هذه الفكرة حتى صار الربا جزءا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي العالمي وجعلوه مبنيا على الربا .
وهتلر الطاغوت ، في كتابه كفاحي ذكر هذه الحقيقة ، فقال أن اليهود دمروا ألمانيا بالربا والدعارة ، وهذا من باب شهد شاهد من أهلها ، فملة الكفر واحدة.
وربا الديون قد يمارس بشكل واضح ، وقد يمارس بالحيل .
وثمة حيل عديدة على الربا :
-
فمثلا رجل عنده شيك مؤجل بسبعين ألفا ، فتأتي شركة وتعمل كوسيط ، وتقول نحن نعطيك ستين ألفا وحول علينا الشيك الذي هو مستحق لك على الغير ، ولا تنتظر مدة التأجيل ، وهي حيلة على الربا ، فكأنهم يعطونه ستين ألفا ، ويستردوها سبعين ألفا ، وهذا هو الذي يسمى خصم الأوراق التجارية ، وهو ربا ، ولذلك لا تفعله البنوك الإسلامية .
-
وكذلك المداينة وهي تشبه العينة - والعينة أن يبيع شخص لآخر بأجل ثم يشتري السلعة منه حالا بسعر أقل - ففي المداينة يدخل طرف ثالث ، فيشتري الأول من الثاني مؤجلا ، ثم يبيعه لثالث حالا بثمن أقل .
-
ومن ذلك العينة الثلاثية ، وهي منتشرة بين الناس ، مثل أن يذهب اثنان للبنك فيتظاهرا بأن أحدهما باع الآخر سيارة ، ثم ترد لصاحبها ، ويأخذ قيمة الشيك ممن تظاهر أنه باع السيارة على البنك الإسلامي ، ويبقى على المشتري الأقساط التي هي أكثر من النقد الذي استلمه .
-
وثمة حيل أخرى منها أن يبيعك شيئا مع الدين ، فيداينك مبلغا ، ويبيعك مع الدين قلما بمائة دينار والثمن مؤجل ، والقلم لا يساوي دينارا ! ويقول هذا دين وبيع وهو في الحقيقة حيلة على الربا .
-
ومن الحيل الأخرى شركة هبتكو ، وتدعي أنها تعمل بالألبان فتأخذ أموالك وتعمل فيها وتعطيك 8% من رأس مالك الذي أعطيتهم ، إن أردت استرجاع مالك بعد الشهر الأول ، و25% في الثاني و60% في الثالث و100% بعد ثمانية أشهر .
وهذا شيء غير معقول ، ولابد أن في الأمر سرا ما ، والذي أشكل على الناس أنهم يمنحونك نسبة ، فظنوا أن هذا جائز ، وهم إنما يمنحونك نسبة من رأس المال لا من الربح فهو كالدين بفائدة ، بالإضافة أنهم يجعلون أموالهم في بنوك أوروبية تمنحهم أرباحا عالية بعد أشهر ، ومن غرائب شأنهم ، أنهم يشترطون أن لا يكون التحاكم إلا في مصر أو الكويت حيث القانون يصير من بعض الوجوه في صالح من يعلن إفلاسه ، وقد قيل أن لهم نشاطا في غسيل الأموال أيضا ، والحقيقة أنها شركة ربوية ، وأما ادعاؤها أنها تستثمر أموال المشتركين في التجارة ، فهو غطاء فقط.
ربا البيوع :
وينقسم إلى قسمين : ربا الفضل ، وربا النسيئة .
ولابد أن نقدم هذه المقدمة حتى نفهم ربا البيوع بقسميه .
ربا البيوع : هو ربا يجري عند التبايع بين أصناف محددة من الأموال ، تسمى الأموال الربوية ، وليس معنى الأموال الربوية هنا ، أي المحرمة لأنها كسب ربوي ، بل المعنى أن ربا البيوع يجري فيها إن تم التبايع فيما بينها بطريقة غير شرعية ، وحتى نعرف الطرق الشرعية للتبايع بين هذه السلع التي هي الأموال الربوية ، أولا نقسم الأموال إلى قسمين :
أحدهما : الأموال الربوية : وهي التي يجري فيها ربا البيوع .
الثاني : الأموال غير الربوية : وهي التي لا يجري فيها ربا البيوع ، وهي كل ما عدا الأموال الربوية .
وتنقسم الأموال الربوية إلى مجموعتين .
فلنسم المجموعة ال أولى مجموعة ( أ )
أ - وهي تضم ما يلي :
الذهب ، الفضة ، الأوراق النقدية ، والعلة التي جمعت بين هذه الأصناف هي الثمنية أي كونها أثمانا للسلع ، ولهذا فكل عملة هي صنف مستقل ، فهذه المجموعة كبيرة العدد.
والقاعدة التي يجب أن تتبع هنا هي :
**** أنه إذا كان البيع بين نفس الصنف ( ذهب بذهب ، فضة بفضة ) وجب أن يكون الطرفان ، متماثلين بالوزن ، ووجب أيضا التقابض يدا بيد أيضا .
*** فإن عدم شرط التماثل ، سمى البيع ربا الفضل .
*** وأما إذا كان البيع بين صنفين مختلفين لكنهما من داخل المجموعة ( ذهب بفضة ، دينار بجنيه ، ذهب بدينار ، فضة بجنيه ) وجب التقابض يدا بيد ، ولا يشترط التماثل
*** وإن عدم شرط التقابض سمي البيع ربا النسيئة .
ولنسم المجموعة الثانية مجموعة ( ب )
وهي تضم :
الملح ، التمر ، البر ، الشعير ( والعلة هي مجموع الكيل أو الوزن مع الطعم ، فكل ما تنبته الأرض مما يكون فيه هذه العلة فهو داخل في هذه المجموعة )
وتجري هنا القاعدتان السابقتان في التبايع داخل هذه المجموعة أيضا .
**** أما عند التبايع بين أصناف المجموعتين ، أي صنف من المجموعـــــة ( أ) وصنف من المجموعة (ب) فلا يشترط التماثل في الوزن ، ولا يشترط التقابض في المجلس .
***فإن قال قائل : إذا أردت أن تشتري تمرا من نوع " خلاص " مثلا بتمر رديء ، فلابد أن يختلف الوزن أو الكيل في هذه الحالة ، فنقول : بع الأول بالأوراق النقدية ، ثم ابتع الصنف الثاني بالثمن الذي قبضته من بيع الصنف الأول الجيد حتى تخرج من الربا .
*** وقد يقول قائل عندي ذهب قديم وأريد جديدا ، فنقول لا يصح التبايع بين الذهب والذهب إلا بالتساوي ، أو تبيع القديم بنقد ثم تشتري بالنقد الجديد ، ولو شرط البائع أن لا تشتري إلا من عنده لم يصح أيضا .
*** وهنا مسألة مشهورة : وهي هل يجوز شراء الذهب بالفيزا إذا كانت القيمة تخصم فورا من حساب المشتري ، فنقول : نعم إذا كان يخصم فورا ، فكأنه تقابض .
وكذلك ترد مسألة الحوالات للعملات بين الدول ، فمن يريد تحويل الدينار إلى جنيه في مصر ، وتصل إلى مصر بعد يومين أو أكثر ، فهل يصح ذلك مع أننا نعلم أنه يشترط التقابض في المجلس ؟ لأنهما مشتركان في علة الربا فكلاهما من نفس المجموعة التي علتها الثمنية ؟
قال بعض العلماء أن الحوالة لا تصح ، ولكن الحاجة ملحة ، وهي حاجة عامة ، فتنزل منزلة الضرورة .
ولا ريب أن هذا صحيح ، ذلك أن بعض الدول يقوم اقتصادها على تحويل العملة من الخارج .
وقال بعض العلماء أن هذه العملية وهي الحوالة ، تتضمن صرفا أي تبايعا بين عملتين ، وتوكيلا من أحد الطرفين للطرف الآخر ، أو استئجارا له ، بالقيام بإرسال العملة التي اشتراها ، إلى بلد أخر مقابل عمولة ، فهي عملية جائزة لا إشكال فيها ، من يأخذ منك الدينار ثم يحوله إلى جنيه فكأنك قبضت الجنيه ، ثم وكلته عنك في توصيل هذا المال إلى بلدك ، وهذا تخريج صحيح ويرفع الحرج خاصة في هذا الزمان ، إن شاء الله تعالى .
*** ومثال آخر : لديك بطاقة ائتمان ( فيزا ) وسافرت وانقطع بك السبيل ، فيمكنك أن تسحب على بطاقتك على المكشوف من عملة ثانية ، فيعطونك بالدولار ثم يأخذون من رصيدك بالدينار مع فارق العملة ويعتبرونه بيعا ، فهل حصل التقابض هنا ، ومن أهل العلم من قال إن هذه العملية ، مركبة من أن المصرف يداينك الدنانير ثم يقوم بالصرف مع البنك الذي سحبت منه بالفيزا ، ويتوكل عنك في هذا البيع ، وتستلم أنت العملة الأخرى ، ثم يأتي فيما بعد ، ويقبض دينه ، ويأخذ أجر وكالته ، فأجازوه من هذا الباب .
*** كما أثيرت هنا مسألة شراء الذهب بالشيك ، ولكن الشيك لا يفي بشرط التقابض ، فإنه لو كان بغير رصيد لا يستفيد منه ، وإنما يحب التقابض بالمال والشيك ليس مالا بل ورقة تأخذ بموجبها المال ، ولذا فشراء الذهب بالشيكات لا يجوز .
*** لكن بعض الناس يقول : يمكن لصاحب محل الذهب أن يتصل بالبنك ، ويتأكد من وجود ر صيد للشيك ، ويحجز المبلغ من رصيد العميل لصالحه ، بالاتفاق مع البنك على طريقة يتم بها ذلك ، ففي هذه الحالة نقول يجوز ، ويكون بمثابة التقابض.
**** وأما التبايع بين الأموال الربوية وغير الربوية فلا يشترط أيضا التماثل في الوزن ولا الكيل ولا التقابض في المجلس ، مثلا تشتري سيارات بأوراق نقدية ، أو تشتري ثياب بذهب ، وأكثر التبايع إنما يكون في هذه الدائرة التي لايجري فيها ربا البيوع .
**** وكذلك داخل الأموال غير الربوية : وهي كل الأموال غير الأموال الربوية ، كالخام والطابوق والسيارات والفاكهة وغيرها ، كلها لا يشترط بينها ، التماثل ولا التقابض .
* ويرد سؤال : هل هناك أموال نضيفها على الأموال الربوية أم هي مقصورة على هذه الأصناف الستة ؟
هناك أقوال عدة لأهل العلم :
1- مذهب الظاهرية أنها الأصناف الستة فقط ( الذهب ، الفضة ، البر ، الشعير ، التمر ، الملح ) .
2- قال بعض العلماء كل ما يجري فيه الكيل يضاف إلى الأصناف الأربعة البر الشعير والتمر والملح ، وقال بعضهم ما يجري فيه الوزن ، وقال غيرهم كل مطعوم .
3- وبعضهم كالأحناف زاد فقال كل خارج من الأرض .
4- ومنهم من قال مجموع الكيل أو الوزن مع كونها مطعومة ، فيدخل هنا في المجموعة ب : الأرز والفول والعدس والذرة والسكر والعسل والحليب ، فهي مكيلة أو موزونة مطعومة .
أما علة جريان الربا في المجموعة ( أ ) فهي الثمنية ، فكون الذهب والفضة أثمانا للأشياء أجرى فيها الربا ، ولذا قيل إن الأوراق النقدية أيضا أثمان فيجري فيها الربا ، وهذا هو الصحيح ، وقد اتفق عامة فقهاء العصر على أن الأوراق النقدية ، تقاس على الذهب والفضة ، وتجري عليها أحكامها في الزكاة والربا ، وهذا هو الصحيح الذي لا يستقيم سواه .
و أحكام ربا البيوع ، مأخوذة من حديث أبي سعيد الخدري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء فمن زاد أو استزاد فقد أربى ) وفي رواية ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ) ، رواه البخاري هذا مع اشتراكهم في علة الربا في نفس المجموعة والله أعلم .
*****
وهنا قاعدة مهمة جدا في باب الربا وهي : أن الجهل بالتماثل بمنزلة العلم بالتفاضل .
وهذا يعني أن قوله صلى الله عليه وسلم : ( ... مثلا بمثل سواء بسواء ) في البيع بين أفراد الصنف الواحد ، أن جهلنا بكونهما متساويين ، هو كعلمنا بتفاضلهما .
ونذكر بعض الأمثلة :
المثال الأول : بيع الحب المشتد في سنبله بجنسه لا يجوز .
المثال الثاني : بيع الرطب باليابس من جنسه ( المزابنة ) لا يجوز .
ومثاله بيع التمر بالرطب ، والزبيب بالعنب ، فلا يجوز حتى عند التماثل ، لأنهما في الحقيقة تماثل في الظاهر ، ولكنه م ا غير متماثلين ، فأحدهما معه من غير جنسه عندما يكون رطبا ، فإن معه الماء .
المثال الثالث : بيع اللحم باللحم بعظمه لا يجوز ، وقد ورد النهي عن بيع الحيوان باللحم لهذا السبب.
ذلك أن وجود العظم يؤدي إلى عدم العلم بالتماثل ، وكذا الرطب باليابس ، فلا يعلم تساويها ، فهو كعلمنا بتفاضلهما ، وحتى لو قلنا نزيد العنب قليلا فلا سبيل لمعرفة التماثل بالضبط .
ولكن هنا استثناء مهم ، وهو استثناء بيع التمر بالرطب فقط ، حيث كان التمر هو القوت الأساسي في زمن النبوة ، كما قالت عائشــــــــة رضي الله عنها : ( والله يا ابن أختي ! إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ؛ ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقد في أبيات رسول الله نار .قلت :يا خالة ! فما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء ، إلا أنه كان لرسول الله جيران من الأنصار ، وكانت لهم منايح ، فكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقيناه ) [ متفق عليه ] ، وتأملوا يا أخواني أولئك الرجال الذين كان أكثر طعامهم التمر والماء ، كما ورد في الأثر : ( كنت جالساً مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق ، فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب فنزلوا ، قال حميد : فقال أبو هريرة : اذهب إلى أمي وقل لها : إن ابنك يقرئك السلام ويقول: أطعمينا شيئاً، قال: فوضعت ثلاثة أقراص من شعير وشيئاً من زيت وملح في صحفة، فوضعتها على رأسي، فحملتها إليهم، فلما وضعته بين أيديهم، كبر أبو هريرة وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودان؛ التمر والماء، فلم يصب القوم من الطعام شيئاً ! فلما انصرفوا قال: يا ابن أخي! أحسن إلى غنمك ، وامسح الرغام عنها، واطلب مراحها، وصل في ناحيتها؟ فإنها من دواب الجنة، والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان ، تكون الثلة من الغنم، أحب إلى صاحبها من دار مروان ) [ رواه البخاري في الأدب المفرد ] ، كيف أن أولئك الرجال الذين كان هذا طعامهم فتحوا الدنيا ومل ؤ ها نورا وعلما وهدى .
والمقصود أن الرطب أحسن من التمر ، ومن الناس من لديه التمر ويريد الرطب وليس لديه نقود ، فهنا حاجة ماسة للحصول على الرطب وهي حاجة عامة .
فرخصت الشريعة ببيع التمر بالرطب في ما يطلق عليه (العرايا ) ، وهي أن يشترى التمر بالرطب على النخل ، يخرص فيجعل مقابل وزنه تمرا ، بشرطين :
الأول : الحاجة فلا تباع لغني ولكن لم يحتاج إلى أكلها رطبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص بها لأهل الحاجة ، الثاني : أن يكون أقل من خمسة أوسق ، ولا يجوز التفرق قبل القبض أيضا .
وفي ذلك ورد حديث سهل بن أبي حثمة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ع ن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن يشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبا ) [ متفق عليه ] .
وعن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق ) [ متفق عليه ]
وهنا مسألة مشهورة عند الفقهاء ، وهي مسألة ( مد عجوة ودرهم ) ويطلق عليها الفقهاء ( بيع ربوي بجنسه ، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما ).
ومثاله : يبع مد تمر مثلا " والمد مقدار من كيل " ودرهم ، مقابل درهمين
يقول العلماء : لم يتميز ما يقابل الدرهم من جميع الدرهمين ، ولا ما يقابل المد ، وإنما الجملة مقابل الجملة ، فلاتحصل المماثلة بين الجنسين ، بما يقابل كل جنس من جنسه .
وكذلك يجري هذا الإشكال في : بيع مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم ؟ أو كيلو من التمر ودينار ذهب بمثلهما ؟
قال أهل العلم يحرم هذا لأنه يدخل في قاعدة الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل ، وحسما لمادة الربا ، فهو يفتح باب التحايل .
وقد ورد في ذلك حديث فضالة ( أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب ، وخرز اشتراها رجل بتسعة دنانير ، أو سبعة ، فقال صلى الله عليه وسلــم : لا ، حتى تميز بينهما ، قال : فرده حتى ميز بينهما ) [ رواه أبو داود ] ، ولمسلــــم ( أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع حده ، ثم قال : الذهب بالذهب وزنا بوزن ) .
ولكن يوجد رواية عن الإمام احمد ـ وقد اختارها شيخ الإسلام ـ أن المفرد إذا كان أكثر من الذي معه غيره ، فإن ذلك جائز ، وكذلك إذا كان مع كل واحد منهما من غير جنسه وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقد سئل شيخ الإسلام عن بيع الاكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية ، مع العلم بأن التفاوت بينهما يسير لا يقوم بمؤنة الضرب ، بل فضة هذه الدراهم أكثر ، هل يجوز المقابضة بينهما ؟ أم لا ؟
فأجاب : هذه المقابضة تجوز في أظهر قولي العلماء ، والجواز فيه له مأخذان : بل ثلاثة :
أحدهما : إن هذه الفضة معها نحاس ، وتلك فضة خالصة ، والفضة المقرونة بالنحاس أقل ، فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلا من الدراهم الخالصة فالفضة التي في المائة أقل من سبعين ، فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مس أ لة ( مد عجوة ) كما مذهب أبي حنيفة ، وأحمد في إحدى الروايتين .
ثم ذكر حديث القلادة الآنف الذكر و قال :
وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي ، بل يخرص خرصا ، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين ، وفيها خرز معلق بذهب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لاتباع حتى تفصل ) فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل ، لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون ، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله ، وزيادة خرز ، وهذا لا يجوز .
وإذا علم المأخذ ، فإذا كان المقصود ببيع دراهم بدراهم مثلها ، وكان المفرد أكثر من المخلوط ، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة ، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط ، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء ، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها ، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك فيجوز التفاوت " [ مجموع الفتاوى 29/454 ]
تابع الحلقة التالية من سلسلة تيسير أحكام البيوع >>>> الشركات