ظاهرة ضغط الوسط

حدث أو أحداث ذات صفات مميزة تجعلها تختلف عن المعتاد وتشكل تغييراً عن السائد ويكون لها وقع كبير في المحيط الذي تحدث فيه بحيث تلفت الأنظار وتجذب الانتباه.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

نبدأ هذه الدراسة بمجموعة من التعريفات لإيضاح ما نحن بصدده:
1- الظاهرة: 
لغة مشتقة من الظهور والوضوح، وفي دراستنا هذه حدث أو أحداث ذات صفات مميزة تجعلها تختلف عن المعتاد وتشكل تغييراً عن السائد ويكون لها وقع كبير في المحيط الذي تحدث فيه بحيث تلفت الأنظار وتجذب الانتباه.

2- الوسط: 
ما نعنيه بالوسط هو محيط اجتماعي له صفات معينة تميزه عن غيره من الأُطر الاجتماعية، وهي صفات بالغة الوضوح بحيث أن من يتصف بها يُنسب إلى ذلك الوسط صاحب تلك المميزات.

3- ضغط الوسط: 
هو العملية التي يقوم بها الوسط تجاه الداخلين الجدد فيه، والذين يملكون صفات ومميزات تخالف ما هو سائد في ذلك الوسط بهدف دفعهم إلى التخلي عن تلك الصفات واكتساب صفات الوسط.

آلية عمل الوسط:
فيما يلي نبين كيف يعمل الوسط على تغيير الصفات الأصلية للشخص الداخل إليه، وإحلال صفاته التي تخالف تلك الأصلية مكانها وذلك في عدد من الآليات هي:
1- الإبهار: حيث يعمل الوسط على سلب لب الداخل فيه وتعطيله عن التفكير المنطقي، الذي يستطيع أن يقيم هذا الوسط تقييما موضوعيا بالاعتماد على ما يحمله الشخص من قيم وثوابت، وهذا الإبهار يكون بعرض خصائص الوسط على أنها الأفضل، وأن ما سواها نقص ينبغي عليه أن يرتقي إلى ما لدى ذاك الوسط من مميزات، وقد يكون بالتركيز على بعض مميزات الوسط وتضخيمها بصورة مبالغ فيها.

2- التدرج: ويتم هذا التدرج بطرق مختلفة نذكر أهمها:
أولاً: تدرج الفرد في اكتساب وتطبيق خصائص الوسط دون أن يشعر بذلك، ويكون ذلك عندما يدخل فرد منبهر إلى وسط ما وقد أعماه الانبهار عن أن يرى باقي خصائص الوسط فيعمل على اكتساب الصفة التي أبهرته في ذاك الوسط، ومع اكتسابه لتلك الصفة واحتكاكه مع أفراد الوسط يكتسب صفة أخرى من ذلك الوسط دون أن يشعر ثم ثانية وثالثة حتى يكتسب تلك الصفات التي تخالف مبادئه وينقلب إلى مُدافع عنها.

ثانياً: تدرج مدروس مخطط له: 
حيث يعمد أفراد وسط معين إلى محاولة دمج شخص ما في وسطهم، ولأجل هذا يعمدون إلى فعل ذلك بالتدرج حيث يجعلونه يرى ويعايش جانباً من جوانب وسطهم دون بقية الجوانب التي يتعمدون إخفاءها، ومع التركيز على هذا الجانب المميز من الوسط وعرضه بصورة توحي بأن كل الوسط ما هو إلا هذا الجانب المميز مع إخفاء بقية جوانب الوسط، ومع ذلك التركيز فإن الشخص يبدأ يميل إلى الوسط ويدافع عنه ضد منتقديه من خلال ذلك الجانب الوحيد الذي أُوقف عليه، وما إن يصل إلى هذه المرحلة حتى يُنقل إلى جانب وميزة أخرى لذلك الوسط فإن قبلها وتشربها نقل إلى التي تليها وهكذا حتى يتشبع بجميع خصائص ذلك الوسط حتى تلك التي تخالف مبادئه وقناعاته.

ثالثاً: تدرج يتم لإدخال وسط ما إلى مجتمع آخر غير المجتمع الأصلي الذي نشأ فيه ذلك الوسط: 
فيُبدأ بالخصائص التي لا تتعارض مع خصائص المجتمع أو لا تثير استنكاراً كبيراً بين الناس، فيظهر هذا الوسط وأفراده موصوفين بتلك الخصائص  ويستمر الوضع هكذا حتى يستقر في وعي الناس أن ذلك الوسط وأفراده يحملون فكراً وينادون بقضايا لا إشكال فيهما، ثم يُنتقل إلى نقل وإبراز صفة أخرى لهذا الوسط تكون أكثر إثارة للخلاف من سابقتها فإن حاول أفرادٌ في المجتمع أن يقاوموا هذا الوسط وما يحاول نشره من أفكار مخالفة جوبهوا بردة فعل مضادة استنادًا إلى الصفات الإيجابية، أو التي ليس عليها كبير اعتراض، والتي حرص أفراد الوسط على ترسيخها وربط أنفسهم بها، وهكذا تستقر الصفات الجديدة ذات المخالفات الأشد وتنتشر ويتعود عليها الناس لتبدأ العجلة في الدوران من جديد لاستجلاب صفات أخرى أشد مخالفة.

3- التكرار والتكثيف المؤدي إلى الاعتياد: 
وتكون الآلية لهذا التكرار والضغط بأن تُبرز صفة لهذا الوسط وتُكرر بكثافة حتى ترسخ في الوجدان، كأن يُدعى الفرد إلى محفل ما تظهر فيه مظاهر تخالف قيم المجتمع فيُنكر في بادئ الأمر، ما رأى إلا أن بريق الوسط ورغبة الفرد في الانضمام إليه يدفعانه إلى أن يعاود القدوم إلى محفل آخر، ومع توالي المحافل واعتياده على تلك المظاهر يخف إنكاره إلى أن يتحول إلى مدافع عنها وقد تُبرز الصفة للمجتمع حتى يعتاد عليها.. كأن تبرز فتاة متبرجة في مجتمع محافظ  فينكر الكل عليها أول فعلها ذلك، ولكنها تصرّ وتظل تبرز متبرجة ومع تكرار خروجها متبرجة تنخفض أصوات الإنكار حتى  يعتاد الجميع ذلك، ويصبح وجودها متبرجة عاديًا ومألوفًا وعند هذا الحد يتعدى الأمر إلى غيرها فتظهر ثانية وثالثة بذات المظهر الذي أصبح اعتياديًا في المجتمع، وتمارس وسائل الإعلام التكرار فهي تعرض موادًا لا تمت للمجتمع بصلة لكنها تصر عليها وتكررها بكثافة شديدة حتى يعتادها المجتمع، فلا يُنكر على أفراده متى ما حاولوا تقليد ما يرونه.

4- الهجوم والضغط: 
ويكون هذا الهجوم حاداً وشرساً ومتشنجاً كذلك، ولا تسنده أي مبررات منطقية، بل هو هجوم لأجل الهجوم على كل من خالف الوسط في توجهاته، وغالباً ما يكون عبارة عن تجريح شخصي للمخالفين وكيل اتهامات لا برهان لها واستغلال بعض أخطاء أفراد من المخالفين وتعميمها على الجميع.

أمثلة لأوساط:
1- الوسط الفني: 
والذي كان في نشأته الحديثة في البلاد الإسلامية ما هو إلا انعكاس لنظيره الغربي وهكذا اصطبغ هذا الوسط بالتهتك والمجون، والملاحظ أنه عندما حاول أبناء مجتمعات إسلامية محافظة الدخول في هذا الوسط كانت بداياتهم متحفظة نوعاً ما، لكن مع تواصلهم مع الأوساط الفنية في البلدان الأخرى ما لبثوا أن انزلقوا في ذات المستنقع وأخذوا يبشرون بالأفكار والقيم الغربية، مما يجعلهم في تناقض صارخ ما بين ما كانوا عليه وما صاروا إليه، ويجعلهم في صدام مع مجتمعهم.

2- الوسط الإعلامي: 
حيث يمتلك هذا الوسط صفات بارزة يعمل على فرضها على كل من يدخل فيه، فمثلاً صحيفة ذات توجه علماني وإن سمحت بمقال أو مقالين للاتجاه الإسلامي فإن الاتجاه الكلي لها يظل علمانياً، وإن انتمى لها كاتب أو صحفي جديد فإنها تعمل على صبغه بصبغتها العلمانية، وعلى هذا المنوال صحيفة واثنتان وثلاثة حتى يكون الجو العام للصحف علمانياً، فإن أراد كاتب أن ينضم إلى الأوساط الصحفية فعليه أن يملأ كتاباته بالأفكار التحررية والتنويرية وإلا لن يجد له مكاناً في الساحة الصحفية، أما في الوسط الإعلامي المرئي فمن أمثلة الضغط فيه مذيعٌ تربى على قيم محافظة يجد نفسه زميلاً وشريكاً لمذيعة متبرجة تناقض في زيها ودلها كل ما تربى عليه من أخلاق وقيم، فإن رفض العمل معها أُقصِي من المؤسسة وإن قبل على مضض فلن يلبث أن يعتاد الأمر وأيضا هو لن يقدر على أن يحمل ابنته على الحجاب وهو يخرج مع مذيعة متبرجة ضاحكاً مازحاً، وإن طلبت ابنته أن تعمل ممثلة فلن يقدر على منعها.

3- الوسط الأكاديمي: 
فكثيراً ماتجد بين الأكادميين أفكاراً منحرفة يتبناها أحدهم لمجرد كونه أكادمياً، ولأنه دكتور جامعي فلا بد أن يقول كذا وعيب لو قال كذا، فتجد الدكتور الجامعي يؤيد الاختلاط والمساواة العمياء بين الرجل والمرأة لأنه دكتور جامعي ويجب أن يكون مع الحداثة والتطور، وعيب عليه إن اتخذ مواقف رجعية.

طرق للاستفادة من ضغط الوسط:
1- نشر الأفكار بشكل مكثف: 
ونعني بها تلك التي تعتمد على الإسلام أساساً لها، وتتخذ من قيمه وتعاليمه هدفاً تسعى إليه، وهذا التكثيف يكون للفكرة نفسها وللشخصيات التي تمثلها وللوسائل التي تحققها بحيث يكون لدى جميع أطياف المجتمع معرفة بهذه الفكرة والداعين إليها والعوامل المساعدة التي تنشرها وهذا التكثيف يكون عبر كل الوسائل الممكنة إعلامية وغيرها.

2- إظهار وإبراز سمات معينة: 
إن المطلوب أن تُبرز صفات مرتبطة بالدين والتدين بصفة إيجابية ويكون هذا الإبراز بصورة مباشرة أو غير مباشرة بحيث مثلاً تكون لدى المتلقي صورة أن الطبيب المسلم هو شخص صادق وأمين وإنسان خير، وكذلك إبراز صفات الإنسان المتدين وجعلها مألوفة بين الناس ومحببة إليهم وذلك بشتى الطرق والوسائل الممكنة.

3- العمل المتدرج: 
وذلك لكي ينشأ وسط له صفات بارزة وبنيان كثيف، فيُبدأ بنشر صفة مميزة لذلك الوسط المراد إنشائه بصورة مكثفة بحيث يترسخ في الأذهان أن هذا الوسط من صفته كذا وكذا حتى يعتاد الناس على وجود هذا الوسط بينهم، ومن بعد أن يعتاد الناس ذاك الوسط وتلك الصفة يُنتقل إلى إبراز الصفة التالية حتى يعتادها المجتمع وهكذا إلى أن ينشأ الوسط.

4- الهجوم: 
والمقصود استعماله بصورة مضادة للأوساط التي تحمل قيماً مخالفة لتعاليم الإسلام، والمطلوب فيه أن يكون محكماً وموضوعياً يُبين سلبيات تلك الأوساط ومخالفتها للإسلام، لا أن يتحول ذلك الهجوم إلى بذاءة وإسفاف وتجريح، أو أن يكون هجوماً مبنياً على معلومات خاطئة. 

 

محمد آدم صباح الخير

 

المصدر: مجلة البيان