دمعة على حب النبي صلى الله عليه وسلم- نظرات متأملة للواقع في حب النبي صلى الله عليه وسلم(1-2)

إننا بحاجة إلى أن نحب ولكن لا نغلو، ونهوى ولكن لا نفرط، ونعشق ولكن بتعفف.

  • التصنيفات: محبة النبي صلى الله عليه وسلم -
 

قلِّب عينيك في الملكوت ترَ الجمال بديعاً، وافتح قلبك لأسرار هذا الجمال ترَ الحياة ربيعاً، وخض في معترك الحياة تكن لك الحياة جميعاً، واجمعْ لي قلبك أجمعْ لك عقلي، وامنحني يدك فإني لأرجو أن أمنح لك حياةً هادئة سعيدة بإذن الله، وافتح صدرك أملأه دفئاً ومحبةً  وصدقاً.


كن معي لأكون  لك وكما تحب، وأعطني دمعةً تحيي بها قلبك، وتسلّي بها نفسك، فدموعنا مداد للفكر، وعبراتنا ثباتٌ على المبدأ، وبكاؤنا دوامٌ على النهج والمنهج.


قلوبنا أهديناها بالحب إلى غير محب ففقدنا أعزَّ ما نملك، وإذا بنا نتحسس أماكنها وقد تَوَهَّمنا وجودها.



إننا بحاجة إلى أن نحب ولكن لا نغلو، ونهوى ولكن لا نفرط، ونعشق ولكن بتعفف.



إن القلب هو الكنز الذي لا يقرؤه إلا من يملكه، وإن راحة الضمير أنوارٌ تتلألأ في الغَلَس، وينابيع متفجرة في الصحاري، وكنوز داخل البيوت المهجورة، كم من الوقت ضاع لأجل الحب وفي دوّامته، وكم من العقول ذهبت لأجل الحب وفي دائرته، ونغرق يومنا في أبجديات الحب!! فمحب يعيش بين الذكرى والنسيان، ومحب يتيه بين الوصل والحرمان، حبٌّ يُسعد في الاسم، ويُشقي في الرسم، جمالٌ في الصورة، وغموضٌ في الحقيقة.



الحب تاجٌ لكنه من حديد، وكنزٌ لكنه من تراب، ومعدنٌ لكنه من سراب، وأي حبٍ يُدَّعى فإنه ناقصٌ؛ إذ العلاقات بين الآدميين بنيت على المصالح في الغالب وإن تنوعت صور الجمال أو تجمَّلت الصور، وإنّ لكل فؤادٍ نزعةَ حبٍّ عذريةً تفيضُ بعذبِ الهوى ونميره، ولو اطَّلع الناس على قلوب القساة لوجدوا فيها أنهاراً متدفقة من الحب والرحمة ولكنها تصب في أرض قيعان.



وإني أحمل راية بيضاء لبيض القلوب أن تتوجه بالحب إلى أصدق الحب وأبقاه، وأبقى البر وأوفاه إلى:




أشواقنا نحو الحجاز تطلّعت *** كحنين مغترب إلى الأوطانِ


إن الطيور وإن قصصتَ جناحها *** تسمو بهمَّتها إلى الطيرانِ



لن أقول: "كانت الحياة قبل البعثة ظلاماً"؛ إذ لا يجهل ذلك أحد، ولن أقول: "كان الظلم، ولم يكن غيره"؛ إذ لا أحد يشكُّ في ذلك، ولن أقول: "كان الحق للقوة"، و "كانت الحياة للرجل لا للمرأة"؛ إذ الناس أجمعوا على ذلك، ولكني أقول: مع البعثة وُلدت الحياة، وارتوى الناس بعد الظمأ، لمّا أطلَّ محمدٌ زكت الرُّبى، واخضرَّ في البستان كل هشيم، وكان من المبشرات بميلاد الحياة ما صادف المولد النبوي من إهلاك أصحاب الفيل؛ فإنه بشرى بإهلاك الطاغوت والطغاة، وولادةٌ لفجر العدالة والحياة، كما أن في إهلاكهم اجتماعاً لكلمة قريش وتوحدها.



ولذا أنزل الله تعالى بعد سورة الفيل سورة قريش؛ بياناً لسبب من أسباب إهلاك أصحاب الفيل وهو أنه لتأتلف قريش، ومن بعد ذلك كلِّه ذكَّر قريشاً بنعمتين عظيمتين:



أُولاهما: أن أطعمهم من جوع، وتمثَّل ذلك في رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وثانيهما: أن آمنهم من خوف، وهنا كلمة خوف جاءت نكرة دالة على العموم، فيدخل في ذلك كلُّ خوفٍ ألمَّ بهم فأمنوا منه، كما في قصة أصحاب الفيل وأبرهة الأشرم، أو خوفٍ يحدث لهم بعد ذلك ظاهراً كبعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما هو رحمةٌ وأمنٌ وأمان لهم ظاهراً وباطناً، حينما يظهره الله تعالى كما أهلك الله أصحاب الفيل لكي تتعلق القلوب بربِّ البيت الذي أهلك البغاة، وكيف يكون شكرهم له.



وقاية الله أغنت عن مضاعفةٍ *** من الدروع وعن عال من الأُطم



(1)

(2)

(3)

(5)
(6)

(7)

(8)


لقبتموه أمين القوم في صغر *** وما الأمين على قولٍ بمتَّهم



(9)
(11)

وإن مما دعاني إلى كتابة هذه الأحرف ما أراه من تخلي القريب الأدنى عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنته، وتحليهم بما يؤسف له من رموز الفكر والأدب في جميع أحاديثهم، وإن هذا نكس ونقص في الفطرة والتعليم، وإلا فقد قال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة من الآية:61].


(12)

وحسبي إن أنا خضت في هذا الموضوع أن أنال محبة القوم، وحسبي من القلادة ما أحاط بالعنق، ومن السوار ما أحاط بالمعصم:




أسيرُ خلف ركاب النُجْبِ ذا عرج *** مؤملاً كشف ما لاقيت من عوج


فإن لحقتُ بهم من بعد ما سبقوا *** فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج


وإن بقيت بظهر الأرض منقطعاً *** فما على عرج في ذاك من حرج



واسمح لي أن انتقل وإياك إلى جيل تعيش معهم الأمن والسكينة بعد أن ذقت من الدنيا خوفاً وهلعاً، ودعني أستل من قلبك خيطاً أبيض نلتمس به الصلة بيننا وبينهم، وأعرني دمعة تخفف بها الهوة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره.


(13)
(15)
(16)

وكان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع:




نزف البكاء دموع عينك فاستعر *** عيناً لغيرك دمعها مدرارُ



(18)
(20)

وإني سائل بعد تلك الصور المتحدثة:



أين نحن من سيرتهم؟ وأين حالنا من حالهم؟ وما أثر الحب عندنا؟ وما أثره عندهم؟ بل وما صدق ما ندَّعي؟ وما صدق ما لم يدَّعوه؟ وأين حقيقة ما ندَّعي؟ وما دلائل المحبة عندهم؟ لقد قام في قلوبهم ما قصرت هممنا عن أن تقوم بأقله، وأحيوا في شعورهم ما ماتت مشاعرنا دونه، وتعلقت أبصارهم فيما وراء الطرف، في حين لم تتجاوز أبصارنا أطرافنا، ألا رجل لم تقعد به همته ولم يتأخر به عمله؟! ألا صادق يترجم المحبة قولاً وعملاً وغيرة؟ ! ألا فارس لا يرجع إلا بإحدى الحسنيين؟!


أيها المُحبُّون: لقد تباعد بنا الزمن، واستنسرت الفتن، واشتغل الأكثرون بالحطام من المهن، غاب عنا الحب وإن ادعيناه، ونسينا الواجبات فكانت من أحاديث الذكريات، نتحدث عن السنة النبوية والهدي النبوي لكن لا ترى جاداً في الإتباع، ولا صادقاً في الكلام إلا قليلاً:




وكل يدْعي وصلاً بليلى *** وليلى لا تقر لهم بذاكاً



ولمزيد من التوضيح فلنعرض أنفسنا على السنة المطهرة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولنعرض بعض المظاهر التي أحسبُ أنها كافية في إيضاح الجفاء الذي اتصف به بعضنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، لعل الله أن يزيد المهتدي هدى، وأن يبدل الجافي إلفاً، والبعيد قرباً، والغالي قصداً.


ويأتي في أول تلك المظاهر البعد عن السنة باطناً؛ وذلك بتحول العبادات إلى عادات ونسيان احتساب الأجر من الله، أو ترك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، والمحبة القلبية الخالصة له، ونسيان السنن وعدم تعلمها، أو البحث عنها، وعدم توقير السنة، والاستخفاف بها باطناً.



(21)
(22)

(23)
(24)

(27)


دعوا كل قولٍ عند قول محمدٍ *** فما آمِنٌ في دينه كمخاطر



وفي عصر الإعلام يتجلى الجفاء في العدول عن سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته وواقعه وأعماله إلى رموز آخرين من عظماء الشرق والغرب كما يسمون سواء كانوا في القيادة والسياسة، أو في الفكر والفلسفة، أو في الأدب والأخلاق؛ والأدهى من ذلك مقارنة أقوال هؤلاء ومقاربتها لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، وعرضها للعموم والعامة؛ وتلك مصيبة تهوِّن على العوام التجني على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنته، وتثير الشكوك في أقواله وأعماله التشريعية صلى الله عليه وسلم والتي هي محض وحي: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]. لكن بعض الأذهان لا تتعلق إلا بالواقع المشاهد، واللحظة المعاصرة، فينبهرون بأولئك، وينسون العظمة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم للأحياء وللأموات، للحاضر وللمستقبل، بل للحياة وللموت.


أتطلبون من المختار معجزة؟ يكفيه شعبٌ من الأجداث أحياهُ، وقد سمى الله الكفر قبل الإيمان موتاً، والإيمان حياة، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122].




أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له *** وأنت أحييت أجيالاً من العدم



وأعماله صلى الله عليه وسلم ما زالت وستظل قائمة بأعيانها متحدثة بعنوانها عن عظيم وعظمة وحياة، ولا تحتاج إلى دليل وبيان:




وليس يصح في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل



ويلحق في ذلك تقديم أقوالهم على أقواله صلى الله عليه وسلم، وأحوالهم على أحواله، وأعمالهم على أعماله، ويا للأسف! من يقوم بمثل تلك الأعمال؟ إنهم رجال العفن وفئة من أهل الصحافة وبعض ساسة الإعلام والتعليم ممن تسوّدوا بغير سيادة، وقادوا بغير قيادة!


وفي مجالسنا ومنتدياتنا يلاحظ المتأمل منا جفاءً روحانياً يتضح في نزع هيبة الكلام حين الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكأنها حديث عابر، أو سيرة شاعر، أو قصة سائر، فلا أدب في الكلام، ولا توقير للحديث، ولا استشعار لهيبة الجلال النبوي، ولا ذوق للأدب النوراني القدسي، فلا مبالاة، ولا اهتمام، ولا توقير، ولا احترام، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2].



هذا أيها الناس هو الأدب الرباني؛ فأين الأدب الإنساني قبل الأدب الإسلامي؟ كما نهى الله قوماً كانوا ينادونه باسمه: يا محمد كما ذكره كثير من المفسرين، فيسلب المنادي الشرف الذي تميز به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النبوة والرسالة، وهذا ليس على إطلاقه لكنه أدب فتأمله.


(29)

(32)

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب



وتصور حالة الغربة والغرباء تجد قلتهم في هذا الزمن وغيره، وقد سبقنا إلى تصويرها ابن القيم حين قال:



وأي اغتراب فوق غربتنا التي *** لها أضحت الأعداء فينا تَحَكَّم


ولكننا سبي العدو فهل تُرى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم



(33)

وعيرني الواشون أني أحبها *** وتلك شكاةٌ ظاهر عنك عارها



(34)

أما من لم يدرك السنة والعمل بها فلا همّ له إلا الكلام والملام،



أقلِّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا



وفي الحقيقة أن من تكلم فيهم فلا يضر إلا نفسه:



كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها *** فلم يضرها، وأوهى قرنه الوعل



ولعل هذا أيضاً مما ينشر السنن بين الناس:



وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت؛ أتاح لها لسان حسود



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(1) البخاري: ح/ 3777.


(2) السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري: (1/112).


(3) أخرجه أحمد برقم 1655، وصححه أحمد شاكر، كما أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني فيه برقم 441 / 567، وفي السلسلة الصحيحة برقم 1900.


(4) السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري، (1/112)، وانظر تعليق أحمد شاكر على الحديث كما في المسند (3/120) مكتبة ابن تيمية.


(5) فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/426): "ولا بد للعبد من أوقات ينفرد فيها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذا يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته، كما قال طاووس: (نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه)، وإما في غير بيته".


(6) البخاري: ح/ 3، ومسلم، ح/ 160.


(7) البخاري: ح/ 3، ومسلم، ح/ 160.


(8) مسلم: ح/ 2277.


(9) البخاري: ح/ 6167، مسلم، ح/ 2639.


(10) الفتاوى (10/610).


(11) الفتاوى (10/608).


(12) مجموعة العبقريات، لعباس العقاد، ص: 10.


(13) سير أعلام النبلاء: (6/24).


(14) المصدر السابق: (6/17).


(15) حلية الأولياء: (3/147)، وسير أعلام النبلاء، (5/354- 355).


(16) البخاري: ح/3584.


(17) سير أعلام النبلاء: (4/570)، وجامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ص 572، مكتبة ابن تيمية.


(18) الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، للقاضي عياض: 598 بتصرف وإحالة.


(19) المصدر السابق: (2/599).


(20) المصدر السابق: (2/610).


(21) البخاري: ح/ 5063، ومسلم، ح/ 1401.


(22) أبو نعيم في الحلية: 1/253، و ابن الجوزي في تلبيس إبليس، ص: 16.


(23) الترمذي: ح/ 2800، و أبو داود، ح/ 4605، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، ح/3849.


(24) أبو داود: ح/ 4604، صححه الألباني في صحيح أبي داود، ح/3848.


(25) سير أعلام النبلاء: (10/34)، وحلية الأولياء، (9/106).


(26) سير أعلام النبلاء: (8/99)، وشرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي، ص 5.


(27) شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، ص 7.


(28) مدارج السالكين: (2/406).


(29) سير أعلام النبلاء: (9/201).


(30) سير أعلام النبلاء: (7/460).


(31) تذكرة الحفاظ للذهبي: (1/196)، والشفاء لعياض: (2/601).


(32) البخاري: ح/470.


(33) البخاري: ح/3641، ومسلم، ح/ 1037.


(34) أبو نعيم في الحلية: (10/257)، وابن الجوزي في تلبيس إبليس، ص 19.


عبدالله بن صالح الخضيري
 

 

المصدر: مجلة البيان ـ العدد [157] صــ 6 رمضان 1421 - ديسمبر 2000