اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة

ألا ترون أن استهداف المخيمات وتشريد أهلها لا يخدم سوى العدو، ولا ينفع غير إسرائيل، وأن المتضرِّر منها إنما هو الشعب الفلسطيني وقضيته، وأن الذي سيعاني منها هو هذا الجيل ومن سيأتي بعده؟!

  • التصنيفات: الواقع المعاصر - أحداث عالمية وقضايا سياسية -

 

كأنه قدر الشعب الفلسطيني في كل زمانٍ ومكان أن يبقى هو الضحية، وأن تتسلَّط عليه دوماً قوى وأنظمة وأحزاب؛ تفتك به وتنال منه، تحاصره وتُدمِّره، وتقتل رجاله ونساءه وتُمثِّل بهم، وتجوِّع أهله وأطفاله وتُضيِّق عليهم، فلا يجدون ما يأكلونه غير حشائش الأرض، وأوراق الشجر، قبل أن يُحلِّوا لأنفسهم أكل لحم القطط والكلاب وزواحف الأرض وحشراتها.



 

أهذا هو جزاء من يصمد على أرضه، ويثبت في مخيمه، ويتمسك بحقه، ويرفض تذويب الهوية، والتنازل عن الوطن والقضية، أيكون مصيره الموت قتلاً أو قنصاً أو قصفاً أو جوعاً وقهراً؟! وبدلاً من نشيد بصمودهم في مخيماتهم، فإننا نزيد في معاناتهم، أو نتخلى عنهم، أو نجبن عن نصرتهم ومساعدتهم!



 

ألا ترون أن هذا الحال يتكرَّر كل وقتٍ وحين؛ ضد أهلنا وشعبنا، في المخيمات والبلدات والمدن والقرى، فرأيناه مراتٍ كثيرة في فلسطين المحتلة على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي لا تأتي بجديد، ولا تقوم بغريب، ولا تمارس بدعاً من الإنتهاك، ولا جديداً في الممارسة، فهذا فعل قوى الاستعمار، وجحافل العتاة الغاصبين، والمحتلين المستغلين منذ قديم الأزل.



 

ولعلنا نذكر حصاره لمخيم جنين، وتجويعه لأهلنا فيه، وقطع الكهرباء والماء عن سكانه، وتدمير مساكنه، وتهبيط مبانيه، واختراق بيوته ومنازله، غير مبالٍ بموت سكانه جوعاً أو قصفاً أو خنقاً أو تحت الردم وبين الركام، وكذا حصاره للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات داخل المقاطعة في مدينة رام الله، وتدمير كل شيء حوله، وقطع التيار الكهربائي والماء عنه، بُغيَة الاستسلام، والخضوع والخنوع، قبل أن تقتله بفعل السم الذي سكن جسده، وتمكن منه بهدوءٍ وصمتٍ وطول أناة.



 

وفي لبنان دمِّرَت مخيماتٌ كثيرة، وطُرِد منها سكانها، وسُوِّيت من بعدهم بالتراب؛ بأيدي قوى وأحزابٍ ونظامٍ، تآمرت على الشعب الفلسطيني، ونفَّذت في حقه مذابح ومجازر عَزَّ على العدو الصهيوني أن يرتكب مثلها، أو أن يقوى على أقل منها، وهو الذي وقف مدهوشاً بجزَّاره وسفَّاحه الدموي شارون، أمام مجزرة صبرا وشاتيلا، مصدوماً لهولها، غير مُصدِّقٍ لها، وإن كان قد لعب دوراً في تغطية وحماية مرتكبيها، فيسَّر جريمتهم، وسهَّل دخولهم إلى المخيمات، وفرض طوقاً أمنياً ومعلوماتياً شديداً حتى أنهت الكتائب فعلها، ونفَّذت حتى الرمق الأخير جريمتها.



 

وتلاها حصارٌ أليمٌ لمخيماتٍ فلسطينية أخرى في لبنان؛ جُوِّعَ أهلها، وقُتِّل أبناؤها، وضُيِّق على كل من ينتسب إليها، حتى استباح الناس لفرط الجوع، وشدة الحصار، ولؤم القتال، ومرارة العِداء، لحم القطط والكلاب، فأكلوها أمام سمع العالم وبصره، الذي وقف مكتوف اليدين تجاه ما يجري، وكأنه يبارك الجرائم، ويوافق على المذابح، ويقبل بكل ما يجري، ويعجز عن فعلِ أي شيء لنجدتهم أو نصرتهم، أو مساعدتهم ووقف أعمال القتل والحصار ضدهم.



 

وغير بعيدٍ من اليوم يُدمَّر مخيمٌ بأسره، ويحاصر أهله، وتُدمَّر بيوته ومساكنه، ويُقصَف بما فيه ومن فيه من السكان من البر والجو والبحر، لأيامٍ طويلة، في الليل والنهار، من أجل مجموعةٍ يُشتَبه فيمن صنعها، ويُتهَم من زرعها، إذ لم تكن فلسطينية الانتماء ولا الهوية، ولم يكن وجودها لفلسطين ولا للقضية، بل كانت نبتاً غريباً زرعوه، وجسماً مشبوهاً وضعوه لأغراضهم، تنفيذاً لسياساتٍ وأهدافٍ وضعها من يُخطِّط ويُدبِّر، ويَعرِف مآلات الأمور ومسارات الأحداث، وعناوين الأشخاص وهويات حملة البنادق، وولاءات المقاتلين واتجاهات المتحاربين. وفي نهاية المطاف، دُمِّر المخيم الذي كان حاضرة البحر، وسوق الفلسطينيين، ومتجر اللاجئين واللبنانيين، وما زال إلى اليوم ركاماً لا بناء فيه، وعراءً لا مساكن فيه، وإن كانت فهي معلباتٌ صغيرة، ومساكن حقيرة، لا تصلح للحيوانات فضلاً عن أن تكون لآدميين وبشر.



 

ما الذي يجري؟



 

وما هو المخطط؟



 

أصبحنا لا ندري ولا نفهم، مخيماتٌ تشطب، فلا يبقى منها اسمٌ ولا أثر، وشعبٌ يُظلَم ويُقهَر، ويُحاصَر ويُجوَّع ويُضطَهد، ثم يُقتَل بعضه ويهرب الباقون منهم هجرةً ولجوءاً، وبحثاً عن أملٍ ومستقبلٍ ومكان، وعيشٍ كريم ورزقٍ وطيب حياة.  



 

ألا يحق لنا أن نتسائل لماذا شُطِبَ مخيم تل الزعتر، ومن الذي شطبه وتآمر عليه؟



 

ومن الذي خرَّبه ودمَّره؟ ومن الذي هجَّر أهله وسوَّى مساكنهم بالتراب؟



 

ومن الذي جعله أثراً بعد عين، منهياً وجودهم، وملغياً حقوقهم؟



 

ومن الذي استفاد من الشطب والإلغاء؟



 

وما هو الهدف الذي تحقق لمن كان يحكم يومها وينهى، ويأمر ويُطاع؟!



 

ومن قبل أدَّى الفلسطينيون في الأردن ضريبةً قاسية، ودفعوا أثماناً لمسلكياتٍ وتصرُّفاتٍ غير مسؤولة، فقادتهم إلى شتاتٍ جديدٍ، وضياعٍ آخر، وفرقة فلسطينية، وتجاذبٍ عربي غير شريف، وتكرَّرت أزمة الفلسطينيين بمرارةٍ إبَّان مِحنة الكويت، عندما اجتاحتها القوات العراقية، فدفع الفلسطيني في الكويت ثمن الاجتياح، وفاتورة السلوك العراقي.



 

وفي العراق الجديد كان الفلسطيني هدفاً وعنواناً، اتَّحدت عليه الجهود والطاقات، واتفقت ضده القوى والأحزاب، فإما أن يُقتَل ويُنهَب، أو يُسبى ويُهجَّر ويُرحَّل، وهكذا بات العراق بلا فلسطينيين، وخلت التجمعات الفلسطينية في بغداد والبصرة وعموم العراق منهم.



 

ألا ترون أن الأحداث تتكرَّر! على نفس النسق والمنوال؛ في الأرض نفسها أو في مكانٍ آخر، وأن مادتها واحدة، وأن المستهدف منها واحد، وقد يكون مرتكبها ومنفذها دوماً واحد، رغم أن المستفيد منها في الغالب واحد، ومع ذلك تعمى بصائرنا، ويُطمَس على عيوننا، ويُختَم على قلوبنا، فلا نعود نعي أو نفهم، ولا نعقل ولا نتدبَّر، ونقبل أن نكون أدواتٍ تُنفِّذ وتلتزم، وتُطبِّق برامج الآخرين، وتُحقِّق لهم أهدافهم، وتصل بنا إلى الغايات التي يريدون ويتطلعون للوصول إليها.



 

فما الفرق اليوم بين اليرموك وجنين؟


 

وبين ضبية وجسر الباشا؟


 

وبين نهر البارد واليرموك؟


 

وبين تل الزعتر ودرعا؟


 

وبين الرمل وصبرا؟


 

وبين شاتيلا وبلاطة؟



 

كلها مخيماتٌ فلسطينية؛ يسكنها اللاجئون الفلسطينيون، الذين يتطلعون إلى العودة إلى وطنهم، والعيش في بلادهم، فيهددون بحقهم في العودة إلى الوطن عدوهم ومن يقف وراءه مسانداً ومناصراً.



 

ألا ترون أن استهداف المخيمات وتشريد أهلها لا يخدم سوى العدو، ولا ينفع غير إسرائيل، وأن المتضرِّر منها إنما هو الشعب الفلسطيني وقضيته، وأن الذي سيعاني منها هو هذا الجيل ومن سيأتي بعده؟!

 

 

 

مصطفى اللداوي