قصة تغريب الشريعة في مصر ( عرض وتحليل )

محمد جلال القصاص

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -

منذ ظهر الشرك في بني آدم ـ في عهد نوح عليه السلام ـ والحق والباطل يعتركان ، والأيام دول .. جولة للحق وجولة للباطل ، والطيور تطير بأرزاقها ، فَمُجِدٌ رابح ومُجدٌّ خاسر ((كل الناس يغدوا فبائع لنفسه فمعتقها أو موبقها)) . وجاءت رسالة محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلقة في هذا الصراع .

وككل دعوة عاند ( الملأ ) وصموا آذانهم واشتغشوا ثيابهم وأصروا على الضلال وإضلال الناس إصرارا ، وبذلوا في ذلك النفس والنفيس ، فأنفقوا الأموال وجهزوا الجيوش ، كي لا تكون كلمة الله هي العلي . وهيهات هيهات . فالله متم نوره ولو كره الكافرون .

فما هي إلا سنوات قليلة حتى زالت الوثنية من جزيرة العرب . ووقفت جحافل الإسلام على مشارف الفرس والروم ، و نطحة أو نطحتان زالت بهما فارس ، وانطفأت نيران المجوس ، وحل التوحيد محل الوثنية والشرك . وما انتهى القرن الأول الهجري إلا والمسلمون على يؤذنون على أبواب باريس غربا وفي عمق الصين وحول أسوار القسطنطينية شرقا .

ثم فتحت القسطنطينية وانحسر الكفر وكاد يقضى عليه . ففترت الهمم وركن الناس إلى الدنيا ، وتخلوا عن أسباب النصر المادية والمعنوية .

وعلى الجانب الآخر ، استمسك الباطل بباطله ووحد الشيطان جنده ، ورفعت راية الصليب فكانت الحملات الصليبية على أرض الإسلام ، وظلت قرابة قرنين من الزمان . انهزم بعدها الصليب وعاد أدراجه إلى بلاده .

عادوا يتساءلون كيف انهزموا ؟! ... كيف أخرجوا من هذه الديار ؟! وكيف السبيل إلى العودة إليها ؟!

وانتهوا إلى أمرين :

الأول : أنهم حين رفعوا الصليب أشعلوا جذوة الإيمان في قلوب المسلمين بعد أن كادت تخبوا . وقالوا لن يؤتى هؤلاء القومُ من قبل دينهم .. انظروا راية أخرى تقاتلونهم تحتها .

ومضت سنون طويلة ، عادت جيوش الكفر بعدها بذات القلوب

الحاقدة ، وذات الثارات القديمة ولكنها لا تحمل الصليب .

وكانت أول حملة قدمت أرض الإسلام بعد الحملات الصليبية هي حملة نابليون بونابرت ... جاء إلى مصر ، وأصدر منشورا يخاطب فيه شعب مصر كتب في أعلاه لا إله إلا الله محمد رسول الله . وزعم أنه جاء مرسولا من قبل الخليفة العثماني ... خليفة المسلمين آنذاك .وأنه يحب الإسلام ونبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثم ادعى الإسلام وسمى نفسه الشيخ محمد ـ وقد لا تصدقني ولكنها حقيقة في بطون الكتب واقرأ تاريخ مصر للجابرتي تعلم صدق قولي ـ ، وسمح لأهل التصوف بممارسة بدعهم الموسمية فيما يسمى بـ ( الموالد ) . وترأس هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف ... وأخذ الخبيث يهدم في الإسلام ، فاصدر فرمانات ( وهي القوانين بلغة عصرنا الحالي ) تضاد الشريعة الإسلامية، وأجبر الناس على اتباعها . وسمح لنسائه العاريات المائلات المميلات بالمشي في الشوارع ، كي يفتتن أصحاب القلوب المريضة ، وتشيع الفاحشة في اللذين آمنوا ، ونقب عن الفراعنة وضخم في أمرهم ، يريد الخبيث أن يُشعل نعرة القومية ويفتخر الناس بآبائهم وأجدادهم ويضيع الفخر بالإسلام ... وقد كان .

. وحين كُشف أمره ، ووقف على حاله وبانت طويته الخبيثة خلع النقاب عن وجهه ، فدنَّس المقدسات الإسلامية ، إذ أنه دخل الأزهر بالخيول واحرق الكتب .. وبال وغاط ..وأعمل سيفه في عوام الناس .

ومما يذكر أن نابليون وهو على فراش الموت قال : أردت أن أهدم إمبراطورية محمد ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ولكنني لم أستطع ، واعترف أن محمد أعظم شخصية في التاريخ .

وكانت السنون قد تطاولت على هذه الأمة وبعدت عن مصدري عزتها ( الكتاب والسنة ) ، ونسيت حظا مما ذكرت به ، بل نسيت جُلَّ ما ذكرت به . فانبهرت بالفرنسيس وذهبت ورائهم تقلدهم وتقتفي أثرهم ، فكانت البعثات العلمية إلى فرنسا ... ذهبت فئة من هذه الأمة إليهم وشربت من مائهم الكدر اللآسن ، وعادت إلينا تريد سقيانا مما ارتوت به . ومن هنا كانت البداية .

عادت هذه الطليعة تعالج أمةً مريضةً موحلةً في طين الإرجاء ، موغلةً في ظلمات الجهل والبعد عن شرع الله . فبدل أن يأتوها بالنور المبين ، وتنشط الهمم للتنقيب عن آثار السلف الصالحين من الصحابة والتابعين .أخذوا بأيدها من ظلمة الجهل البسيط إلى ظلمات الجهل المركب ، لتنقاد إلى طاغوت العلم الحديث ،بدعوى التقدم والرقي ... والنهوض كمن نهضوا ..

وكلها دعاوى كاذبة فقد مضى مائة وخمسون عاما أو يزيد وما زلنا في زيل القافلة لم ندرك شيئا . ولكن أين من يعقل ؟

وحلّت الأمة في مستنقع الغرب الآسن تحسبه المرتع الذكي ، وبعدت عن نور الإيمان وسارت في ظلمات الحضارة الغربية .

يحدو الركب نصارى الشام والمنهزمين من أبناء الأمة ، وخلف الركب جند ( الاستعمار ) يزجره إن تباطأ أو تململ .

مكمن الداء

ومكمن الداء في الإرجاء . نعم ... في الإرجاء .

عَمَلَت جرثومة الإرجاء عملها في عقيدة الأمة ، فأخرجت العمل من مسمى الإيمان ليكون شرط كمال لا شرط صحة واقتضاء ، فانحسر الإيمان في ذهن العوام إلى نطق بالشهادتين ، وإقرار باللسان ، وانتساب في الجملة إلى الإسلام . واحتضر الولاء واحتضر البراء .وبدأ المخاض تحت ظل شجرة الإستعمار لينذر عن ميلاد فصيل جديد هو فصيل الوطنية .

ولولاه ـ أعني الإرجاء ـ ما انبهر بهم الشعب ولا من ذهبوا مبعوثين عن الشعب .

لولاه ما ذهبت النخبة من أبناء الأمة بل من طلبة العلم الشرعي في الأزهر الشريف ، إلى هذه البلدان الكافرة تتلمذ على يد أبنائهم ، وتثني عليهم ، وتريد منا تقليدهم والسير في ركابهم .

لولا الخلل العقدي الذي أحدثته جرثومة الإرجاء في المفاهيم الإسلامية ، والتصورات العقدية

عند هذه النخبة ، لوقفوا في ديارهم حين رأوا حالهم يقولون لهم : {... اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف : من الآية 59 ] ، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [لأعراف:33] ، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] . ولعادوا إلينا يقولون لنا : إنهم أهل دياسة لا يغار الرجل على عرضه ، وأهل كفر لا يتحاكمون إلى شرع الله ...ولكن شيئا من هذا لم يحدث . بل أُشربت قلوبهم الفسق بضلالهم وبُعدهم عن منهج الله الصحيح ، فعادوا يريدون من الأمة أن تسير في ركاب الضالين ... وأن تقتفي أثر باريس وبرلين ، وأن تحمل على أعناقها الفسقة والمجرمين .

هكذا خاطبوا الأمة

استحضروا للأمة صورة أوروبا التي ارتقت وتحضرت ـ بزعمهم ـ وركبت البحر والجو ومشت في بطن الأرض وارتقت السماء حين تخلصت من سلطان الدين وجعلته في الكنائس والمعابد بعيداً عن الحياة ... وقالوا للامة إن شئت التقدمَ فلا بد أن نحذوا حذوا القوم ... فننزع غلّ الدين عن أعناقنا كما فعلت أوروبا ... وان نحرر المرأة كما فعلت أوروبا ... وأن نعتنق الديمقراطية كما فعلت أوروبا .. إننا تخلفنا حين حُكِمنا بسلطان الدين ... وكذا كانت أوروبا ... وإننا تخلفنا لأننا نعطل نصف المجتمع ـ يعنون المرأة ـ ... وكذا كانت أوروبا .

وتم الربط ظلما وعدوانا بين تحسين أوضاع الناس ماديا وبين التخلي عن الدين في التعامل والتحاكم ، وقالوا هما قرينان لا يفترقان ، الدين والتخلف .. التحضر والعلمانية . فقد تخلفت أوروبا حين تمسكت بالدين ، وحين تخلصت من سلطان الدين وتركته في المعابد والكنائس حين تحررت المرأة وخرجت للعمل تقدموا ، والحال عندنا هو الحال ــ هذا مقالهم ـ تخلفنا حين حكمنا بالدين ، ولا بد أن ينزوي الدين بعيدا ... هناك في دور العبادة ، ولا بد أن تحرر المرأة وتتساوى بالرجل .. ونسير على ذات الخطوات لنتقدم كما تقدموا .

وقد جاءوا ظلما وزورا .

فالحال غير الحال ، أوروبا كان يحكمها دين منحرف أعاق كل جهد بناء ، فقد قتل العلماء باسم الدين ، وجمع الأموال باسم الدين ، واستعبد الناس باسم الدين .

وأوروبا قبل أن يأتيها دين بولس ـ المسيحية المحرفة اليوم ـ يوم كانت مشركة بربها تعبد الأصنام من دون الله كان عندها شيء من الرقي والتمدن وسعة في الرزق ، ثم حين اجتاح البربر ( القوط والنورمانديون ) أوروبا واعتنقوا دين ( بولس ) إنغطَّت أوروبا في ظلمات الجهل ، والتخلف المدني ، وحين تخلصت من هذا الدين المنحرف الذي لا يقاس عليه تقدمت ، فارتبط في عقل الأوربيين أن الدين والتخلف قرينان لا يفترقان .

وهذا تفسير لا تبرير .

أما عندنا فلم يكن الحال هو الحال .. (( كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأت الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف )) كما وصف جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه وهو يخاطب النجاشي . فجاء الإسلام فذكى النفوس ، وألف بين القلوب وأخرج للناس أمة هي خير أمة ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله . وانتشر العدل والأمان بين الناس ... كان بأيدينا كل شيء ، وكان الطب وكانت الكيمياء والفيزياء والفلك والحساب والجيولوجيا .. بعد أن أرسى المسلمون أصول العلم التجريبي الذي أثمر كل ما نحن فيه اليوم . ثم حين غيرنا غير الله علينا وسُلِّط علينا من لا يحكم شرع الله كما حكمه السلف الصالح رضوان الله عليهم .. فضرب الله علينا لباس الجوع والخوف بذنوبنا " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا كثير " " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم "

فكان الطريق الصحيح أن نعود إلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم لنتقدم ونرتقي ماديا ومعنويا وسياسيا وعسكريا كما تقدموا رضوان الله عليهم . نرضي ربنا فيرضينا ويسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة ، والقرآن بين أيدينا يرشدنا ){وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [ الأعراف : 96 ]

وندعوا أوروبا وقد جربت الدين المنحرف وكيف فعل بها ، أن تنبذه وراء ظهرها ، وتأخذ بالإسلام إن كانت تريد الخير في الدنيا والآخر ، ونقول لهم ما امرنا الله بتبليغه {. . . قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [ النساء : 174 ] ، {. . . ِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [ آل عمران : 64 ] .

ولكن برز فريق من الذين أعمى الله بصرهم وبصيرتهم ، فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم فانزل الله رجسا على هذه الأمة . فلو أن العقلاء هم من تكلموا لقالوا نعود إلى ما كان عليه سلفنا وندعوا أوروبا . ولكن هذا ما حدث . وبدأ ركب الأمة يتحرك في طريق الغواية والضلال .

وبقصدٍِ واضح بدأ خطاب التغريب من المؤسسة الدينية ( الأزهر آنذاك ) ، إذْ أن الخطاب الديني هو الخطاب المقبول لدى الشعب ، وتم ( تلميع ) مجموعة من علماء الأزهر ممن يتفق هواهم مع هوى الغرب ، وخُلعت عليهم الألقاب ، وأسندت إليهم المناصب ،ومُكِنُوا من المنابر ، وكُمِمَتْ أفواه المخالفين ، وأبرزوا للأمة على أنهم علماء جهابذة ، حملة مشعل الحضارة والرقي فكان رفاعة الطهطاوي وكان جمال الدين الأسد أبادي (الإيراني ) والمشهور بالأفغاني ، وكان محمد عبده ... وكلها أسماء براقة ... وكلهم كانوا معاول هدم في كيان الأمة الإسلامية ... جسرا عبر عليه الغرب إلى ثوابتنا الإسلامية فكان ما كان .

وبين يدي كثير من النصوص من قول محبيهم التي تثبت ما أصفهم به وتبين ضررهم على الأمة ، ولكن ليس هذا مقصودي .

تكلم هؤلاء( الشيوخ ) بأشياء لم تسمعها الأمة من قبل .

رفاعة الطهطاوي في كتابيه ( المرشد الأمين للبنات والبنين ) و ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز) . امتدح المجتمع الغربي .. أسلوب حياته وثقافته ، وحاول أن يحصر الأمر فقط في اختلاف المسميات . فهو يجزم بأن ((جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها وجعلوها أساساً لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم قل أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات . فما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يسمى عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية وهو عبارة عن قواعد عقلية تحسيناً وتقبيحاً يؤسسون عليها أحكام المدينة ، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية ؛ وما يتمسك به أهل الإسلام من محبة الدين والتولع بحمايته مما يفضلون به على سائر الأمم في القوة والمنعة يسمونه محبة الوطن)) .[ من كتاب المرشد الأمين ]

ثم راح يثني على هذه الحقوق الطبيعية والنواميس الفطرية ، ويحاول صراحةً أن يجعلها هي والإسلام سواء فيقول : (( وأغلب هذه النواميس الطبيعية لا يخرج عنها حكم الأحكام الشرعية فهي فطرية خلقها الله مع الإنسان وجعلها ملازمة له في الوجود فكأنها قالب له نسجت على منواله وطبعت على مثاله وكأنما هي سطرت في لوح فؤاده بإلهام إلهي بدون واسطة جاءت بعدها شرائع الأنبياء بالواسطة وبالكتب التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فهي سابقة على تشريع الشرائع عند الملل وعليها في أزمان الفطرة تأسست قوانين الحكماء الأول وقدماء الدول وحصل منها الإرشاد إلى طريق المعاش في الأزمنة الخالية كما ظهر منها التوصل إلى نوع من انتظام الجمعيات التأنيسية عند قدماء مصر والعراق وفارس واليونان ، وكان ذالك من لطف الله تعالى بالنوع البشري حيث هداهم لمعاشهم بظهور حكماء فيهم يقننون القوانين المدنية لاسيما الضرورية لحفظ المال والنفس والنسل ¬ ) . وفي مؤلف آخر راح يثني على الدستور الفرنسي الشرطة ويرى أنها عدلاً وإنصافا ًأدى إلى تعمير الممالك وراحة العباد وارتياح القوب حتى أنه ما عاد يسمع عندهم من يشكو ظلماً أبدا

- و( الشيخ ) رفاعة الطهطاوي كان المشرف على مدرسة الألسن التي أنشأها محمد علي للتعليم اللاديني على غرار مدارس أوروبا ويتحدث المستشرق (جب ) عن هذه المدارس فيقول : وكانت المصادر الأولى التي أخذ الفكر الأوروبي يشع منها هي المدارس المهنية التي أنشأها محمد علي والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوروبا ويذكر أن منها مدرسة الألسن التي كان يشرف عليها العلم الفذ رفاعة الطهطاوي ( 1801- 1873 )وهو تلميذ جومار البار. ]

ثم جمال الدين الأسد أبادي المشهور بالأفغاني والذي نفي إلى مصر لفكره الاعتزالي وأرائه الغريبة ،كان منبهراً هو الآخر بالغرب وقوانينهم فنادى بان الأمة هي مصدر الحكم ، ووحدة الأديان ، والسلام العالمي ،وأن الاشتراكية من الإسلام . ورحل إلى أمريكا مستنصرا . ومن أراد أن يستيقن أو يستزيد فليقرأ خاطرات جمال الدين الأفغاني اختيار عبد العزيز سيد الأهل ص : 14 والاتجاهات الفكرية والسياسية والإجتماعية علي الحوافظة :102، 181،182

ثم جاء محمد عبده .وتحت مسمى الإصلاح أباح فيها التشبه بالخواجات في الفتوى الترنسفالية ، وأباح الربا في شكل صناديق التوفير ، ونادى بتحريم تعدد الزوجات ، وكان ظهيراً لقاسم أمين في كتابه " تحرير المرأة " ، وصاحب المندوب السامي البريطاني .

ماذا فعل هؤلاء ؟

تكلموا بحاجات الغرب على أنها مطالب شرعية .

نعم نقلوا الأمة هذه النقلة النوعية . ثم دارت عليهم عجلة التاريخ وغدوا إلى ربهم بما قدمت أيديهم ولا يظلم ربك أحدا . (( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ))

كانت هذه الفترة هي مرحلة تسليم الراية من الغرب لبعض أبناء الأمة .. وهو ما كان . فقد بدأت مطالب الغرب كلها تظهر على لسان بعض أبناء الأمة , وهم يستندون في دعواهم هذه إلى الشرع , ويرفعون شعارات براقة خداعة فـ " إصلاح " و " تجديد " و " تقدم " , ورقي " حرية .. إلخ .

ونزل الميدان فريق آخر هم الوطنيون فقد علم الاحتلال أنه يوما ما سيخرج من هذه البلاد , ولابد أن ستكون مقاومة فعمل على إنشاء مقاومة أخرى تحمل شعارات غير إسلامية ، فأسس الأحزاب , وبدأت المقاومة للمحتل تأخذ منحى آخر ليس فيه الجهاد , وبدأت الشعارات الوطنية " مصر للمصريين " مثلا تحرج .

وهذا التيار أيضا كان معول هدم في الشريعة الإسلامية , ودرب من دروب التيه الذي دخلته الأمة .

فإن كان الأُول (المشايخ ) عَمُّوا على الأمة وجه الاحتلال الصليبي وزينوا لهم حاله , وقالوا للناس إن شريعة المحتل هي شريعة الله , أو تكاد فهؤلاء أكملوا المشوار , إذ أنهم تعاملوا مع المحتل من وجة سياسية فقط , ومن منطلق وطني.

بهذا أعملوا فأسهم في جدار الولاء والبراء حتى كادوا يهدموه .

فقد غاب عن الساحة الجهاد , وظهر " النضال " و " المقاومة " و " المظاهرات " وقاد الركب ثلة من ( الوطنيين ) لا المجاهدين , وانتظم وراءهم صف من أبناء الوطن باختلاف انتماءاتهم الدينية , والعجيب أن قادة المقاومة كانوا على علاقة طيبة بالمحتل zz.وراجع إن شئت مذكرات سعد زغلول .

وبعد أن كثرت جعجعة أصحاب العمائم والوطنيين , تشجع أصحاب القلوب ( الرقيقة ) أعني الأدباء , والشعراء , ونزلوا الميدان ، وابتدأ نصارى الشام النزال فأعملوا أقلامهم في فكر الأمة حتى نالوا منه وحرَّفوه .

ولم يكن هؤلاء أقل أثرا من المشايخ والسياسيين . و ( إن من البيان لسحرا ) . كما جاء في الحديث فقد أخذ هؤلاء يطرحون أطروحات تصطدم مباشرة بالعقيدة الإسلامية في أشعارهم وقصصهم وجرائدهم .ويحضر في ذهني كثيرا إيليا أبو ماضي لعذوبة لفظه وخبث طويته ، ومن شعره أضرب مثلين أوضح بهما قولي .

هذا الحوار الذي يرويه بين شجرة تين وجيرانها يعترض فيه على قضاء الله وقدره في قصيدته الشهيرة التي مطلعها :

وتينة غضة الأغصان باسقة            قالت لأصحابها والصيف يحتضر

وفي قصيدة أخرى :

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت         وسأبقى ماشيا شئت هذا أم أبيت

وأصدروا عدة مجلات يتكلمون فيها عن حرية المرأة و " قبول الآخر " , والحقوق في الوطن , وقد وجدوا أذانا تسمع .

ثم كان حبلا ممدودا ظل إلى اليوم . فهم من ينافحون عن ( حرية المرأة ) ، وهم ( البنياويون ) الذين قالوا بموت المؤلف وعدم قداسة النص ... وهم طه حسين ، ونجيب محفوظ ، وقاسم أمين وجابر عصفور ، ونصر أبو زيد ... الخ .

وبعد حين انتشر الغناء وأقبل المخنثون ... أهل الرقص والزمر ( الفن ) ولم تسلم منهم شريعة الرحمن وفقط أشير إشارات .

كان في طرحهم هجوم مباشر على ثوابت الشريعة الإسلامية ، مثل تعدد الزوجات ، وترسيخ مفهوم الولاء على الوطن لا الدين . والسخرية من اللغة العربية ومن مدرسي اللغة العربية ، ومن رجال الدين ( ويحضر في ذهني شخص المأذون ) ، وتقديم النموذج الغربي للشباب على أنه هو النموذج المثالي . هذا بجانب نشر الرذيلة .واليوم ينقلبون على التراث الإسلامي يرونه بطريقتهم .. ففي ( الناصر صلاح الدين ) كانت حربا وطنية ذراعه الأيمن فيها صليبي ، وسيف الدين قطز حليق يحب ويعشق ويقاتل حمية ، وبن حزم يحل الغناء ويستمع إليه ، هذا بجانب نبشهم عن أهل الجاهلية الأولى من الفراعنة ، ومن العرب .

ربما لم يكن هؤلاء ( الفنانون ) يدرون بم يفعلون ... ربما . ولكن هناك يد أخرى هي التي أوجدتهم وأفسحت لهم المجال وكبَّلت غيرهم ممن لو خَطَبَ في جماهيرهم ووعظهم لنفضٌّوا من حولهم ...

أريد أن أقف هنا قليلا لأقول :

حين تنظر مليا في الخلفيات ( الدوافع ) التي تقبع وراء الأحداث .ترى بوضوحٍ تام أن الكل يهدم في الإسلام وإن اختلفت معاول الهدم .

فـ ( الأئمة ) يؤولون النصوص ، والكتاب يخاطبون العامة في رواياتهم وقصصهم ، ويفتحون دوامات فكرية للخاصة تستقطب جهدهم ، وأهل الفن يُثبِّتون الفكرة بوجوههم الحسنة وأجسادهم العارية ، وأهل السلطان يسوقون القطيع إلى هلاكه .. يزجرون من يتباطأ أو يحاول التفكير في الخروج عن السرب ، ويردّون كل من يحاول أن يأخذ بزمام الأمة إلى الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتا .

فهو عمل جماعي إذا . له من يسوسه ويقوم عليه وإن لم يتفق أحاده على تفاصيل ما يفعلون .

والصورة العكسية صحيحة ، وهي أن أمةً ما لا تستطيع النهوض بفئة قليلة وإن كانت هذه الفئة هي النخبة من أبنائها ، فلا بد أن تشترك الأمة بما يناسبها وأن تكون موجودة تُخاطب بما يقتضيه المقام وتفهمه العقول ... أي يكون العمل على محاور شتى يقوم به فئات شتى .

وهذا الأمر يحتاج إلى مناقشة أوسع من ذلك وإنما فقط أردت أن أشير بما يناسب المقام .

وشيئ آخر أريد الوقوف عليه من هذا العرض وهو : تعدد طرق التغريب وانتشاره أدى إلى صعوبة اجتثاثه ـ وأقول صعوبة وليس استحالة ـ . فلن يزاح هذا الركام الهائل الموجود في المفاهيم والتصورات وفي السلوك بخطبة أو خطيب ، أو معلم هنا ومعلم هناك ، وإنما نحتاج إلى جهد جماعي .

المصدر: خاص بإذاعة طريق الإسلام