هل التاريخ الإسلامي هو الإسلام؟!

ملفات متنوعة

  • التصنيفات: التاريخ والقصص -

سيد يوسف

تمهيد:

مفكرة الإسلام : أمتنا الإسلامية تاريخها حي, إلا أن حاضرها ميت, لا تكاد تمر بها عاصفة حتى نلوذ إلى الماضي نستلهم منه ومن بعض رموزه الحلول, ولكن حين يتحول هذا التراث إلى ألحان عذبة تتغنى بها الشفاه وتطرب لها القلوب ولا تتحرك للاقتداء بها النفوس فإنه مما لا شك فيه أن هذه الأمة تكتب لنفسها شهادة وفاة بين الأمم التي تتحرك بوعي بصير نحو النهضة والتقدم.

في تاريخنا - القديم والوسيط والمعاصر - رموز تتعطر ألسنتنا حين نذكرهم، وفى تاريخنا شخصيات لها ما لها وعليها ما عليها، وفى تاريخنا شخصيات حين يكتب التاريخ بإنصاف فإن مزبلة التاريخ تنتظرهم.. ولم أرَ أمة مولعة بالنبش عن القصور في رموزها كبعض رجال أمتنا.. نراهم يغمطون العظيم عظمته لهنّة هنا أو هناك, ويغضون الطرف تمامًا عن رموز الغرب - تمامًا - ولو قيس هؤلاء بهؤلاء ما ساووا عند الإنصاف وزن ذبابة.. لكنه العمى!!

ولأمر ما لا يجهله الفاقهون نرى بعض أبناء جلدتنا يهوّنون عظماء رجال أمتنا وينبشون عن أخطاء يمكن تجاوزها لعظيم ما فعله هؤلاء.. ويصدّرون لنا نماذج بشرية عليها مآخذ كثيرة ولا ترقى عند المقارنة بغيرها أن تكون نماذج صالحة للاقتداء.. ويبالغون في ذلك ويذيعون آراءهم ليل نهار حتى يصدقها ويروج لها القاصرون.. ويشتد الخطب بتراجع الفاقهين عن التصدي لتلك السخافات.. وإن تقصير الفاقهين هاهنا لمعصية نرجو لها الاستغفار بتصحيح تلك الأخطاء.

ذلك أن تلك الأخطاء التي روّج لها الخبثاء صارت مادة لا للطعن في الأشخاص, ولكن للطعن في الإسلام نفسه وروّج لها بعض المستشرقين وصدّروها لبني جلدتهم ولبني جلدتنا حين ندرس العلم في جامعاتهم على أنها الدين.. وما التاريخ الإسلامي بالدين وما ينبغي له.. ولكنه العمى من جانبهم وتقصير الفاقهين من جانبنا.

وبعيدًا عن القول بأن التاريخ صار لمن يملك القوة والنفوذ أكثر ممن يملك الحق, ولا سيما في فترات الضعف والقصور والاستبداد.. وبعيدًا عن البكاء على أطلال أمتنا وتاريخها.. فإن النظر إلى موضوع التاريخ الإسلامي، واعتباره هو الإسلام، أمر محل نظر.. وفى ذلك الصدد فإن للدكتور عمر عبيد حسنة كلامًا طيبًا نسوقه هاهنا بإيجاز وتصرف وإضافة حسبما يقتضيه المقام:

المعروف أن مصدر التشريع في الإسلام هو القرآن الكريم، وبيانه السنة النبوية، وهو الحاكم على فعل البشر بالخطأ أو الصواب، وأن التاريخ الإسلامي لا يخرج عن اجتهادات بشرية في تنزيل القيم على الواقع، أو في تحويل القيم إلى فعل، قد تخطئ وقد تصيب، مثله مثل أي اجتهاد بشري فكري، أو فقهي آخر..

فاعتبار التاريخ الإسلامي هو الدين، وهو مصدر التشريع والأحكام، فيه الكثير من المجازفة.. فالتاريخ الذي هو وعاء الحياة الإسلامية العملية، في استجابتها الواردة في الكتاب والسنة، هو محل العبرة والعظة والدرس، وفيه من السلبيات والإصابات، التي كان فيها عدول عن القيم، ما يجب تجنبه.. وفيه من الإنجازات العظيمة، المتسقة مع القيم، ما يجب الاهتداء والاعتزاز به.. وتبقى القيم هي الضابط، وهي الحاكم، على تصرفات البشر ومسالكهم..

وحبنا للتاريخ، وانتصارنا له، لا يجوز أن يجعلنا نتجاوز هذه الحقيقة.. وكم ستكون الخطورة كبيرة إذا لم نضبط التاريخ، ونحكم عليه بالقيم، من التفسيرات والإسقاطات التاريخية، التي يحاول أعداء الإسلام توظيف التاريخ لها اليوم، وكم ستكون الخطورة أكبر، إذا أصبح التاريخ دينًا، وتفسيره ملزمًا، واعتبر النص والفعل التاريخي، كالنص الإلهي.

وقد يكون الدافع لذلك كله، غياب روح النقد، والخوف من الاعتراف بالخطأ، الذي لا يزال يشكّل المناخ العقلي المغشوش لكثير منا، ذلك أن هذا المناخ هو السبب وراء سقوطنا في الفخاخ المنصوبة لعقولنا، بأيد ماهرة من المستشرقين، الذين أدركوا ذلك فأتقنوا فن المديح والإشادة بحضارتنا وتاريخنا، الأمر الذي حرك مكامن الفخر فينا، وساهم بحالة الاسترخاء، والسبات العام، والاكتفاء بإنجاز الآباء والأجداد، وأدى إلى شلل الأجهزة الفكرية، عن معالجة الحاضر، واستشراف المستقبل، فأصبح حالنا، كما يقول الأستاذ 'مالك بن نبي' رحمه الله: شبيه بحال ذلك الفقير الذي لا يجد ما يسد به الرمق اليوم، عندما نتحدث له عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده، إننا بذلك الحديث نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه بوسيلة مخدر، يعزل فكره مؤقتًا، وضميره عن الشعور بها، إننا قطعًا لا نشفيها، فكذلك لا تشفى أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه.

كان هذا حال المستشرقين المداحين الذي قصوا علينا تلك النشوات التي تخامر عقولنا، حتى تتعلق عيوننا على صورة سامرة لماضٍ مترف.

ونستطيع القول بأن الحملات الاستشراقية بعامة، لم تتمكن من القضاء على ثقافتنا، وإن ألحقت بها بعض الإصابات، التي يمكن اعتبارها من قبيل الأذى {لَن يضُرُّوكُمْ إلاَّ أَذىً} [سورة آل عمران/111]، وأن معظمها كان إلى حدٍ بعيداً أشبه بالمنبهات الحضارية.. ورب ضارة نافعة.

إن عمليات الاستشراق والتغريب، لم تستسلم، ولم تلقِ السلاح، لكن لمّا أعياها السعي، فبدل أن تقر بفساد نظرياتها، وطروحاتها، وعدم إمكانية القبول لها في العام الإسلامي، تحاول اليوم أن تعتبر، أن المشكلة والعلة في بنية العقل المسلم أصلاً، لتأتي على البنيان الإسلامي من القواعد، وترسِّب في النفوس أن السبب في التخلف والعجز والتخاذل الثقافي وعدم القدرة على الإبداع وقبول الفكر الغربي، هو في بنية هذا العقل، وتكوينه، وميراثه الثقافي.

فهو عقل مولع بالجزئية، وعاجز عن النظرة الكلية للأشياء، وهو عاطفي يحب الإثارة والانفعال، ويعجز عن الفعل، وهو محكوم أيضًا بموروث ثقافي، لا يستطيع الفكاك منه، فهو لا يفكّر بطلاقه، وحرية؛ لأنه محكوم بوحي مسبق، وهو يقوم على منهج التفكير الاستنتاجي، ويعجز عن التفكير الاستقرائي، وهو معجب بالمنهج البياني، وعاجز عن المنهج البرهاني، وهو يخلط بين الواقع المعاش، والمثال الخيالي، وصاحبه يحب الثأر، ويغرق في الملذات!

وإن الإسلام الذي يكوّن هذا العقل، هو دين أمر ونهي، وزجر وكبت للحرية، وإلغاء للاجتهاد، الأمر الذي أدى به إلى التقليد وفقدان الشخصية، والقدرة على الإبداع، وإن العنصر العربي - مادة الإسلام الأولى - عنصر متخلف بفطرته، وطبيعته الجنسية، والمناخية، وإن دور العلماء المسلمين تاريخيًا، اقتصر على النقل لميراث الحضارات الأخرى، وإن علاج الأمة المسلمة، سوف لا يتحقق، إلا بإعادة بنية العقل العربي وفق الأنموذج الغربي.

لذلك رأينا الكثير من الدراسات اليوم لخريجي المدرسة الاستشراقية تتجه إلى طروحات، من مثل: بنية العقل العربي، ونقد العقل العربي، وخطاب إلى العقل العربي... إلخ، وإن أول ما نلاحظ أن منهج النقد يتم طبقاً لآليات ومعايير وطروحات الفكر الغربي، وينطلق غالبًا من الترسبات التي تركها الاستشراق في ضحاياه، لذلك نراها تتخبط كثيرًا في الخلط بين العقل كآلة للتفكير، وبين الإنتاج الفكري لذلك العقل.

وقد تلفت انتباهنا أحيانًا بعض القضايا التي يطرحونها؛ لأنها لا نلبث أن نطلع عليها في مصادرها الاستشراقية، فنتأكد من جديد أن هؤلاء التلامذة لا تخرج مهمتهم عن الشحن من هناك، والتفريغ هنا... لذلك نراهم يخطئون في أبسط القضايا، إنهم يخطئون حتى في الأسماء العربية الواضحة، لأنهم يقرءونها قراءة أعجمية استشراقية، ولا نرى هنا أننا بحاجة إلى إيراد الأمثلة.

وخلاصة القول في هذا الأمر: إن مناهجنا في المعالجة لا يزال يعوزها الكثير من التأصيل، والتخطيط، والتقويم، ودراسة الجدوى، وطبيعة التناول، ومساحته، والتنبه إلى مخاطر المستشرقين الذين يمدحون الإسلام، ويحركون غرائز الزهو والافتخار عند المسلمين تجاه الماضي، ليتسللوا من خلالها، وهذا هو الأخطر لأنهم يساهمون بحالة الخدر العام، من أولئك المستفزين، الذين يستثيرون فينا غرائز الدفاع عن النفس، وحماية الذات، ذلك أن المديح إنما يكون في كثير من الأحيان تحويلاً إلى الماضي، والاستغراق فيه على حساب مشكلات الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل.

وحتى نكون في مستوى الحوار الفكري، والتبادل المعرفي، ونوقف فعلاً الغزو الفكري، والإغراق الاستشراقي، لابد لنا بدل البكاء على الإطلال، والاكتفاء بجرعات الفخر والاعتزاز بالماضي، أن نكون أيضًا قادرين على امتلاك الشوكة الفكرية.. أن نكون قادرين على الإنتاج الفعلي، لمواد ثقافية تمثل ثقافتنا، وتأتي استجابة لها، وتغري الناس بها، وبذلك وحده نكون في مستوى الحوار، والتبادل المعرفي..

إن المواجهة لا تكون بإدانة الآخرين، والنظر إلى الخارج دائمًا، وإنما تبدأ حقيقة من النظر إلى الداخل.. أولاً لملء الفراغ، بعمل بنائي مستمر، وتحصين الذات، وتسليحها بالمقاييس الثقافية السليمة، وإنتاج مناهج، وآليات للفهم، تأتي وليدًا شرعيًّا لثقافتنا.

ذلك أن المناهج وآليات الفهم - التي تحكم الكثير من جامعاتنا ومعاهدنا - لا تزال من صناعة الفكر الغربي، انتهت إلينا بسبب التخاذل الفكري الذي نعيشه.. وتلك المناهج هي ثمرة لتشكيل ثقافي معين، تصنعه وتُصْنَع به، غير منفكة عنه.. لذلك فمن الصعب نقلها واستخدامها في إنتاج ثقافي آخر، والاطمئنان عندها إلى نتائج الفكر.

في النهاية.. نوجز ما نريد قوله فيما يلي:

1. من الخطأ تهوين العظماء لخطأ ما هنا أو هناك, وتجاوز ما فعلوه من إنجازات طيبة.. وفى مقابل ذلك يتم تصدير نماذج بينها وبين الرمزية بون بعيد.

2. ومن الخطأ التغني بالماضي دون الالتفات إلى الحاضر بعمل بناء وإيجابي وفعال ومستمر.

3. ومن الخطأ أنه حين نتحمس لتاريخنا الإسلامي نغض الطرف عن الأخطاء الواردة والمتضمنة فيه والدفاع عنها باعتبارها تمثل الإسلام.

4. التاريخ الإسلامي ليس هو الإسلام.

5. ومن الخطأ الانضغاط لمدح الآخرين 'المستشرقين' في تاريخنا لتثبيط همة العاملين إن كان ثمة عمل منظم.

وأخيرًا.. أسأل الله أن ينفعنا جميعًا