مستشفى الفلوجة وعجائب أيام الحصار
ملفات متنوعة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
سجلات تاريخية للمقاومة الإسلامية بالعراق - تقرير طبي
ميداني
بضعة أيام قضيتها في مدينة المساجد, علمتني من الدروس والعبر ما لم
أتعلمه في سنوات عمري من الكتب والمواعظ.
لمست دروساً في الجهاد والإيمان غيّرت الكثير من مفاهيمي.
قضيت هذه الأيام القليلة في بناية متهاوية بنيت في الستينات من القرن
الماضي, أطلق عليها اسم المستشفى البديل، حيث اضطر الكادر الطبي
بالمدينة لاستخدامها كمستشفى نظرًا لتدمير المستشفى الرئيسي وقطع
الطريق المؤدية إليه, فهو يقع على الضفة الثانية من النهر.
والمبنى هذا عبارة عن ممر مفتوح من الجانبين, استعمل كاستقبال للجرحى
وفرز الحالات وتصنيفها, وغرفتين جانبيتين صغيرتين جدًا استغلتا كصالتي
عمليات كبرى, وهي طبعًا تفتقد إلى أدنى الظروف الضرورية, حتى لضماد
الجروح البسيطة.
وكانت هناك صالة سينما قديمة بجانب ذلك المبنى استخدمت كصالة عناية
مركزة بعد العمليات, وقد تعاون كل أهل المدينة بجلب الأسرَّة والفُرُش
من بيوتهم، وجمع الأطباء كل ما يمكن جمعه من عياداتهم الخاصة, وفتحت
الصيدليات الخاصة كل محتوياتها لخدمة الجميع, حتى أصحاب المطاعم
بالبلدة تطوعوا لطبخ الطعام للمرضى وللكادر الطبي....
تكاتف رائع لمسته بين جميع سكان المنطقة, كلٌ من موقعه, والجميع كان
يقف داعمًا للمجاهدين محتضنًا إياهم.
توالت ساعات الليل والنهار والقصف مستمر وأصوات الطائرات والقصف
العنقودي ومدافع الهاون وأصوات تبادل إطلاق النار مستمرة بالرغم من
تحدثهم عن هدنة!!
في ساعات النهار كنا نحاول أن نستطلع الدمار الذي ألحقه القصف الوحشي
بالمدينة الآمنة, فكنا نرى خرابًا ودمارًا وأشلاء لنساء وأطفال لم يكن
لهم من ذنب إلا أنهم من سكان هذه المدينة الأبية الصامدة.
شاهدنا المقاومين ينتشرون في شوارع البلدة بأجسادهم النحيلة وملابسهم
البسيطة, يحملون أسلحتهم ويتربصون بالعدو, ولا يمنعهم هذا الاستعداد
لنيل إحدى الحسنيين من المساعدة في إخلاء الجرحى وإجلاء الضعفاء من
أهل المدينة إلى أماكن أكثر أمنًا.
كانوا يكبّرون تارة ويهللون أخرى ويقرؤون القرآن أحيانًا كثيرة, وكل
منهم يتوعد بألا يسمح للعدو أن يدنس مدينته ومساجدها إلا على
جسده.
كانت ساعات الليل أصعب بكثير؛ فالظلام يلف المدينة وتنيرها أضواء
الانفجارات والحرائق والقنابل المضيئة, حتى المستشفى البسيط الذي كنا
فيه لم يسلم من القصف, فقد سقطت قذيفة في ساحته, وحمدًا لله أنها لم
تنفجر.
كان العمل متواصلاً, وفي سباق مع الزمن لإنقاذ من يمكن إنقاذه من
الجرحى الذين كانوا يتوافدون أفواجًا بحيث لم يكن يستوعبهم المكان,
فاضطررنا لمعالجة البعض كحالات وقف النزيف أو بتر الأطراف في الممر
الخارجي لانشغال غرفتي العمليات ولكثرة عدد الجرحى.
في إحدى الليالي وصل من ضمن الجرحى رجل يصحب ولدًا عمره لا يتجاوز
العاشرة من عمره مصاب بحروق من الدرجة الأولى والثانية في وجهه, قال:
إنه أصيب بها أثناء تحضيره لعبوة ناسفة!! بدأت أنظف حروقه وكنت مشفقًا
عليه لأن مجرد تعقيمها ولمسها مؤلم جدًا, لكني فوجئت بصلابة هذا الشبل
الفلوجي الصغير، فلم يتألم, بل العكس, كان مستعجلاً يريد أن ينهي
تضميد جراحه ليعود لإكمال مهمته وكأنه يقول: إن الوقت من ذهب.
أما والده فقد أوضح لنا أن ابنه هذا هو ساعده الأيمن, وأن بقية إخوته
يحاربون في مواضع أخرى, فهو قد ربّاهم على الإباء وعدم قبول الضيم,
وهاهو يحصد ما زرع.
جريح آخر وصل وهو ينزف من إصابة بالغة في ساقه, وكانت صالتا العمليات
مشغولتين فاضطررنا لبتر ساقه، ووقف النزيف في الممر الخارجي وبدون
تخدير، وكان طيلة العملية يقرأ القرآن, وكأنه في عالم ثانٍ, ولم يظهر
أنه يشعر بأي ألم, حتى أنه بعد انتهاء العملية سألنا متعجبًا: هل
انتهينا؟! وحَمد الله وقال: إنه وإن لم يفز بالشهادة هذه المرة لكنه
شمّ رائحة الجنة وقال: إنه أرسل ساقه إليها لتنتظره هناك في أقرب وقت
بإذن الله, ملمحًا إلى مواصلة الجهاد بأقرب وقت.
أحد الشباب الجرحى لا يتجاوز العشرين, جيء به مصابًا بجروح بليغة في
صدره, وكان تنفسه صعبًا, فحاولنا الإسراع باستخراج الشظايا ووضع أنبوب
بزل الصدر, وخيطنا جراحه, كل هذا عملناه بدون تخدير وخارج صالة
العمليات, وأيضًا لم يكن يتألم أبدًا أثناء العملية, وكان منهمكًا في
ترنيم أناشيد جهادية حماسية أثارت كل من كان حوله من الكادر, وأججت
الحماس فينا جميعًا, وكأنه هو من يعالجنا ونحن المرضى.
بعد أن انتهت العملية واستقرت حالته بدا حزينًا جدًا لأنه لم يفز
بالشهادة التي سعى لأجلها, وهذا كان حال كل الجرحى الذين لم يفوزوا
بالشهادة على حد قولهم, فهم قد باعوا كل دنياهم من مال وولد, لكن تبقى
لله حكمة في تأجيل شهادتهم ليذيقوا عدوهم المرّ والذل والخسران.
من بين الجرحى وصل كهل في الثمانين وقد تضرجت لحيته بدمه الطاهر, عرفت
من الذي أخلوه أنه قائد لمجموعة جهادية, وكانت إصاباته خطيرة, حاولنا
أقصى طاقتنا أن ننقذ حياته, وكان طيلة الوقت يقرأ القرآن بهدوء غير
مكترث بما حوله, وكأني به في مكان آخر [ هل هو مكانه في الجنة مع
الشهداء؟؟ الله أعلم ], بعد قليل رأيت ابتسامة على وجهه وتمتم بكلمات
فهمت منها أنه ينطق الشهادة, ولعلي توهمت أني أسمعه يقول: فزت ورب
الكعبة!! وأسلم الروح إلى بارئها راضية مرضية بإذنه تعالى.
شاب آخر وصلنا جريحًا, أخبرنا مرافقه أنه تطوع وجاء من خارج المدينة
ويعمل كمسعف, وقد ودع أهله وأطفاله طالبًا منهم ألا يحزنوا إن علموا
باستشهاده؛ فإنه سيكون معهم وهم لا يعلمون, وقد ذهب في سيارة الإسعاف
لإنقاذ أحد الجرحى فأصيب بشظايا القصف العنقودي, وجيء به وكانت
إصاباته بالغة, لكنه كان يصارع الموت ويرجونا ألا نخدره ليتمكن من
تحذير إخوته المجاهدين وإخبارهم عن الأماكن الجديدة لتواجد القناصة,
وبالفعل أخبرهم بالتفصيل عن تلك البنايات, بعدها أدخلناه غرفة
العمليات, لكن رغبته الصادقة بالشهادة كانت أقوى من رغبتنا الشديدة في
إنقاذه, فقد اختير ليزف في مواكب شهداء مدينة المساجد.
كنا نستغرب كثيرًا لسرعة شفاء جراح الجرحى حتى الشديدة والخطيرة منها
بالرغم من الحالة المتردية لكل شيء بالمستشفى, فالجو كان خانقًا,
والحشرات تملأ المكان ولا توجد أبسط أساليب التعقيم, وحتى الأدوية
كالمضادات الحيوية الضرورية ومسكنات الألم غير متوفرة, ومستلزمات
الضماد تكاد تكون معدومة, لكن بقدرة الله سبحانه وتعالى كنا نجد
الجراح ملتئمة ونظيفة, والجريح يتمكن من المشي ومغادرة المستشفى
بسرعة.
الشيء الوحيد المتوفر في ذلك المستشفى هو المعنويات العالية لجميع من
كان يعمل به من كادر طبي ومتطوعين مدنيين, فقد عملوا الساعات الطوال
طيلة أيام سابقة بدون نوم وبدون أبسط مقومات الراحة، فهم كانوا
مجاهدين في عملهم, وقد استمدوا معنوياتهم ونشاطهم من بسالة مقاوميهم
ومن الكرامات التي كانت تتحقق يوميًا على مرأى منهم في ذلك المكان
الذي أتذكره الآن كمدرسة تفوق كل مدارس الدنيا النظرية في جميع
المجالات: الدنيوية فيما رأيته من تكاتف وإيثار ودينية في كرامات
الشهداء والجرحى.
وأرجو ألا تكونوا قد نسيتم ذلك الشهيد الذي كان لرائحة المسك على
بقايا ثوبه الأثر الكبير في استنهاض قيم هذه الأمة وتجددها خارج نطاق
الفلوجة والوطن, فقد لمست تأثيرها في أمة الخير وعلى بعد آلاف الأميال
من أرض الحدث.
سمعت قصصًا عجيبة هناك عن شهود عيان؛ منها قصة البيت الذي قصف واستشهد
بداخله ثلاثة من المجاهدين فانتشرت رائحة المسك في الجو المحيط وتشبعت
حجارة البيت المتهدم بهذه الرائحة الرائعة, فتسارع الناس لأخذ قطع
منها, وشممت بدوري إحداها وقد بقيت الرائحة قوية فيها حتى بعد مرور
فترة طويلة.
كثيرة هي البطولات التي سمعت عنها هناك, فالكل كان يحمل السلاح, حتى
النساء وقفن بوجه المحتل وأذقنه الهول والخسران؛ لذا حاولوا الانتقام
من نساء العراق جميعًا بنشر الصور الحقيرة لتعذيب النساء في
معتقلاتهم.
أخبرني أحدهم بأنه لم يتدرب على السلاح ولم يستعمله من قبل, لكنه وجد
نفسه مرغمًا على حمل سلاح بسيط وتصويبه على إحدى السمتيات, وبصيحة:
الله أكبر أطلق النار, ففوجئ بها تحترق وتتهاوى لضربته, فسبحان
الله.
بعد أن يئس العدو من اختراق جدار المقاومة الصلب حاول دس عملائه إلى
داخل المدينة عن طريق المنظمات الإنسانية, لكن الله كشفهم للأهالي,
فاعتقلوا واعترفوا بذنبهم, فتم إعدامهم جميعًا ودفنوا في مكان خاص
ليلعنهم كل من يمر من ذلك المكان, ويكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه
أن يبيع وطنه بحفنة من الدولارات.
كان العدو يعتبر حربه على الفلوجة حربًا صليبية مصغرة؛ لأن الفلوجة
تمثل الاتجاه الديني في البلد, فمعروف عن أهلها التدين, ومشهورة هي
بمساجدها, أكثر من ثمانين مسجد بمآذن عالية وقباب رائعة, بالإضافة إلى
مميزات أهلها, فهم من أكثر الناس ثقافة وغنى، ففيها الكثير من
المفكرين والمثقفين والتجار الكبار, بالإضافة إلى كبار العسكريين في
الجيش السابق, وهذا ما يزيد من حقد العدو عليهم, فهو ثأر سابق إذن،
ومحاولة لضرب رؤوس الأموال بمحاصرة المدينة وتخريبها وإلحاق الأذى بكل
شيء فيها لإخضاع أهلها وكسر شوكتهم .. إلا أن بلدة الصمود والفداء هذه
هدمت كل أهدافهم على أسوارها ، وضربت درسًا بالصمود والإباء لكل مدن
العراق والعالم الحر.
أتمنى أن ينتفع كل الإخوة بما انتفعت به, وهذا قصدي من كتابة هذه
السطور, فيشهد الله أني قد ذهبت إلى هناك سائلاً المولى العلي أن ينفع
الناس المساكين بي, لكني عدت بعد أن اكتشفت أنني أنا المسكين, وأنا من
يحتاج العون, وقد انتفعت كثيرًا من ذهابي ، والحمد لله على ما نفعني
به, وأوصيكم ونفسي ببذل الغالي والنفيس في طريق الجهاد مصداقًا لقوله
تعالى: { انْفِرُواْ خِفَافاً
وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ
اللّهِ } [التوبة: 41]