أيُّ غدٍ ينتظر الإسلاميين

يتعرّض اليوم الإسلاميون في البلدان التي عرفت ثورات الربيع، إلى موضع مأزوم شديد التعقيد، فلأول مرة منذ ظهور التيارات الإسلامية عقب سقوط الخلافة وسقوط الإطار السياسي الجامع الذي يجمع الأمة الإسلامية، وما أعقبها من عمليات تغريب استهدفت تحكيم الشريعة وحرصت على تغريب قيم المجتمع؛ لأول مرة يصل أحد فصائل هذا التيار الإسلامي لسدة الحكم، في انتظار تنفيذ رؤية واقعية للمشروع الإسلامي الذي طالما بشرت به الأمة المسلمة.

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


يتعرّض اليوم الإسلاميون في البلدان التي عرفت ثورات الربيع، إلى موضع مأزوم شديد التعقيد، فلأول مرة منذ ظهور التيارات الإسلامية عقب سقوط الخلافة وسقوط الإطار السياسي الجامع الذي يجمع الأمة الإسلامية، وما أعقبها من عمليات تغريب استهدفت تحكيم الشريعة وحرصت على تغريب قيم المجتمع؛ لأول مرة يصل أحد فصائل هذا التيار الإسلامي لسدة الحكم، في انتظار تنفيذ رؤية واقعية للمشروع الإسلامي الذي طالما بشرت به الأمة المسلمة. وتنبع خطورة المشهد في مصر من أن تداعياته لن تنسحب على مجمل دول الربيع العربي الذي حظي فيها الإسلاميون بأغلبية مكّنتهم من تولي سدة الحكم، لكن ستتعداه إلى المنطقة العربية بالكامل، بل سيمتد تأثيره إلى مجمل التيارات الإسلامية العاملة في العالم الإسلامي بالكامل. فالمشهد المأساوي شديد القتامة، وإحساس قطاع عريض من الشباب الإسلاميين في مختلف التيارات بأنهم تعرضوا لخديعة كبرى وتغيير أراد أن يستأصل تجربتهم قبل أن تكتمل؛ سيدفعهم بلا شك إلى استخدام وسائل مختلفة للتعبير عن أفكارهم لا تمر بالحرية ولا الديمقراطية.

خذ على سبيل المثال (مزاعم) محمد حسان، عضو المكتب السياسي للجماعة الإسلامية، فقد أكد وفقاً لصحيفة (المصريون) أن الحركات الإسلامية تناقش حالياً جعل مصر إمارة إسلامية عن طريق ثورة شاملة للقضاء على قوى المعارضة، مؤكداً أن الجماعة تعمل من أجل الحفاظ على مصر من استيلاء العلمانيين والليبراليين، وليس فقط على شرعية الرئيس المنتخب، مؤكداً أن إسقاط مرسي يعني إسقاط مصر، حيث إنه لو رحل بهذه الطريقة فلن تُحترم بعد ذلك شرعية أي رئيس منتخب. وتلك التصريحات كانت تؤخذ على سبيل التهديد؛ لأنها كانت قبل 30 يونيو، إلا أن تلك الأفكار حاضرة بلا شك في أذهان كثير من أبناء التيارات الإسلامية. ولما كان الأمر بتلك الأهمية والخطورة على مستقبل مصر والمنطقة بالكامل، فإنه يتوقف بشكل كبير على ماهية إستراتيجية التيارات الإسلامية بعد انقلاب 30 يونيو، وما هي فرص نجاح هذه الإستراتيجية؟

لا شك أن المشهد الإسلامي قبل 30 يونيو من حيث (التقارب وتنسيق السياسات)، كان في أعلى درجاته، فيما عدا حزب النور السلفي الذي شهدت صفوفه العديد من الانشقاقات بسبب مواقفه من شرعية الرئيس، فعديد من الأحزاب الإسلامية نسَّقت مواقفها السياسية وتصدَّت لمحاولة إقالة الرئيس. حتى منها التي حاولت في إحدى مراحلها النأي عن الوصف الإسلامي، مثل حزب الوسط، والذي دخل الانتخابات البرلمانية بعيداً عن تحالفات الإسلاميين، إلا أنه في تلك اللحظة الفارقة رأى أن الاصطفاف الطبيعي من المنطلق المرجعي الإسلامي ومن منطلق المصلحة الوطنية في جانب تحالف القوى والأحزاب الداعمة لرئيس الجمهورية محمد مرسي. كان بناء إستراتيجية الإسلاميين لمواجهة 30 يونيو هو الحشد المقابل، بما يؤصّل لوجود شارع موالٍ للرئيس لا يقل عن حجم الشارع المعارض، وكانت إستراتيجية الإسلاميين وقتها مبنية على حياد الشرطة والجيش، باستثناء الإعلام والقضاء الذي ظلت عداوته للإسلاميين وموالاته للنظام السابق ظاهرة للعيان. وإلى حد ما، فإن نجاح إستراتيجية الإسلاميين في الحشد المقابل كان سيؤتي أكله، إلا أن تغيراً جديداً ظهر على البيئة الإستراتيجية، وهو حركة الجيش على الرئيس، وهو الأمر الذي لم يتوقعه الإسلاميون ولم يكن في حساباتهم حتى الأيام الأخيرة لذلك التحرك.

المعادلة الصفرية.. كيف تدار معركة الصفر في الداخل؟
تقوم إستراتيجية الإسلاميين على عمليات الحشد في الشارع، ولسان حالهم يقول: إذا كانت حجة الجيش في عزل الرئيس الحشود في الشارع، فإن حشود الإسلاميين ستكون أكبر وأكثر عدداً. كما تعتمد سياستهم على الاعتصام لفترات طويلة في الشارع مع مظاهرات سريعة أمام المرافق الحيوية للدولة، سواء أمام الحرس الجمهوري أو مبنى الأمن الوطني أو مدينة الإنتاج الإعلامي أو ميدان رمسيس، لفترات قصيرة، ثم العودة إلى ميدان رابعة العدوية، مقر الاعتصام، مرة أخرى، في رسالة إلى قوى الانقلاب على قدرة الإسلاميين على التظاهر أمام المرافق الحيوية في الدولة وشلها تماماً لو أرادوا، من خلال الاعتصام أمامها. عناصر القوة في إستراتيجية الإسلاميين أنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، وأي تراجع لهم عن مواقفهم يعني أنهم يسلّمون رؤوسهم للذبح.

ونستطيع أن نصف جموع المعتصمين في رابعة بأنها تمتاز بخلاف مظاهرات 25 يناير، بوحدة الصف، وربما تلك المرة الأولى التي تنصهر فيها كافة التيارات الإسلامية عدا قطاع من حزب النور والدعوة السلفية حول قضية واحدة، إلى جانب وضوح الرؤية والهدف، ويشعر كافة المعتصمين في رابعة، سواء من الإسلاميين أو غيرهم من المتعاطفين معهم، بعدالة قضيتهم. عامل آخر مهم دافع للثبات وهو سقوط القتلى، حيث إن سقوط أكثر من خمسين شهيداً أمام نادي الحرس الجمهوري، بحسب الإحصاءات الرسمية، أصبح مانعاً من التراجع، فالدماء التي سقطت أصبحت عائقاً شديداً أمام أي تفاوض أو قبول بأنصاف الحلول.

أما إستراتيجية المعسكر المقابل والذي يقوده الجيش، فهو يلعب على وتر القوة الناعمة والخشنة التي يمتلكها الجيش، وعلى شعب عاش فترات طويلة يعشق القوة؛ لذلك فهو يعتمد على سياسة الأمر الواقع وفرض المسار بالقوة، معوّلاً على طول النفس والسعي السريع لتنفيذ الخريطة السياسية التي فرضها ليضعف من همة المعتصمين وتتضاءل آمالهم ومعنوياتهم، وينتظر الجيش تلك اللحظة التي تنحسر فيها الأعداد ليقوم بفضّ الاعتصام. وهو في كل ذلك يعتمد على جهاز إعلامي قوي، سواء الرسمي منه أو الخاص، في تنفيذ أجندته الإعلامية التي تعتمد على شيطنة التيارات الإسلامية، وتهيئة المجتمع لقبول عمليات التنكيل والنيل منهم. لذلك؛ فالمعادلة هنا صفرية، وهي تعني أن فوز فريق يعني القضاء على الآخر.

كيف تدار المعركة مع الخارج؟
تقوم إستراتيجية الإسلاميين بالتعامل مع الخارج الذي يملك حضوراً قوياً وضاغطاً في الوسط السياسي المصري على ورقة توحيد القوة الإسلامية والتلويح بأن خروج الإسلاميين من اللعبة الديمقراطية والانقلاب عليها ستكون له مآلات خطيرة، حتى على الداخل الأمريكي نفسه، ونشاط تيارات العنف مرة أخرى، ورجوع كثير من التيارات التي رأت أن السياسة قد تكون مدخلاً ممكناً لتطبيق الرؤى والأهداف التي يسعى إليها. إلى جانب استخدام ورقة الشريعة السياسية، وهي ورقة سياسية ليست شديدة القوة، لكنها يمكن أن تكون عامل ضغط أيضاً.

من المعلوم أن هدف الإدارة الأمريكية في المرحلة الأخيرة هو إعطاء فرصة للتيار الإسلامي المعتدل ليأخذ فرصته في العمل السياسي، وبقدر من التفاهم يمكن تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة، على نحو ما يحدث في النموذج التركي، وهو بذلك يمكّن للإدارة الأمريكية تحقيق هدفين: وجود أنظمة مستقرة في الشرق الأوسط، واحتواء التيار الإسلامي الذي تصفه بالمتشدد والذي يعتبر الولايات المتحدة الأمريكية السبب في ضعف قدرات بلاده وعدم تمتعها بالحرية من خلال دعم تلك الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة.

درس من التجربة التركية
ولعل التجربة التركية تحمل لنا مشهداً يمكنه أن يجلي لنا بعضاً مما يحدث في مصر. فإذا رأينا أن تلك هي السياسة الأمريكية، فلماذا أعطت الضوء الأخضر للجيش المصري لإبعاد الرئيس الشرعي المنتخب؟ هنا تتجلى الحالة التركية، ففي تركيا عندما تولى أربكان رئاسة الحكومة في انتخابات ديمقراطية، حاول أربكان فرض بعض قناعاته على القرار السياسي التركي، وحاول ضرب بعض أخطر مراكز النفوذ الداعمة للنهج العلماني، فقدم بعد تشكيل الحكومة بقليل مشروع قرار للبرلمان بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها، وأسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي، وأظهر أكثر من موقف مؤيد صراحة للشعب الفلسطيني ومعادٍ لـ(إسرائيل)، كما قدم مشروع قانون إلى مجلس النواب يدعو إلى قطع العلاقات مع (إسرائيل)، وأتبع ذلك مباشرة بتنظيم مظاهرة ضخمة ضد القرار الإسرائيلي بضم مدينة القدس، وكانت المظاهرة من أضخم ما شهدته تركيا في تاريخها المعاصر، الأمر الذي اعتبر استفتاء على شعبية الإسلام السياسي بزعامة أربكان.. بعد بضعة أيام تزعم قائد الجيش كنعان إيفرين انقلاباً عسكرياً أطاح بالائتلاف الحاكم، وبدأ سلسلة إجراءات، كان من بينها: إعادة القوة للتيار العلماني، ومن ذلك تشكيل مجلس الأمن القومي، وتعطيل الدستور، وحل الأحزاب، واعتقال الناشطين الإسلاميين، إلى جانب اليساريين.

ثم من بعده جاءت حكومة حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، والذي كان أكثر مرونة وبرجماتية من حزب أربكان، حتى إن أردوغان للآن لا يصف حزبه بأنه حزب إسلامي، بل عادة ما يؤكد في كل المحافل الدولية أنه حزب علماني محافظ يريد أن يحوّل العلمانية في تركيا من العلمانية المتطرفة التي تفرض العلمنة على المجتمع بالقوة، إلى العلمانية الجزئية التي تقف على مسافة واحدة من الجميع ولا تعادي الدين وتترك للأشخاص حرية اختيار انتماءاتهم دون أن يصل ذلك إلى النظام السياسي للدولة. وبطبيعة الحال فإن الجيش التركي في حال انقلابه على أربكان، وترك أردوغان؛ هو ليس ببعيد عن توافق الإرادات مع الإدارة الأمريكية التي هي ليست ببعيدة عما يحدث في الداخل التركي. فهل من المحتمل أن الولايات المتحدة الأمريكية أرادت أن تقيل نظاماً إسلامياً، ليس تخلياً عن مشروعها السياسي في المنطقة، لكن هو مناورة تكتيكية لإعداد فصيل إسلامي جديد يفي بالمتطلبات الأمريكية لم يظهر بعد أو ربما تلوح ملامحه من بعيد؟ وهذا ربما يفسر نأي فصيل إسلامي بعينه عن التحالف الإسلامي الداعم للرئيس المصري.

أما مصدر قوة الإسلاميين فهو تحالفهم وتكتلهم واصطفافهم جميعهم حول هدف واحد وقضية واحدة. فالضغط المستمر وحالة عدم الاستقرار التي من الممكن أن تعيشها الدولة والحشود الكبيرة، لا شك أنها ستكون عامل حسم. ومن قبل ذلك وبعده تبقى السنن الربانية هي الحاكمة، فائتلاف المسلمين ووحدتهم وجمع كلمتهم وصبرهم وثباتهم وتقديمهم التضحيات والدماء؛ هي سنن ربانية لإقامة الدين، وإلا فمتى حقق المسلمون النصر دون تمحيص للصفوف وبذل الغالي والنفيس؟.. والله غالب على أمره ولكن أكثــــر الناس لا يعلمون.

أحمد عمرو

 

المصدر: مجلة البيان العدد 314 شوال 1434هـ، أغسطس- سبتمبر 2013م