كيف نفهم بني إسرائيل؟
ملفات متنوعة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
د. حامد أنور
عندما انطلق بنو إسرائيل في البرية اشتدَّ بهم الجوع فتذمَّروا .. وقالوا لموسى: هل أخرجتنا من مصر إلى هذه الصحراء كي نموتَ من الجوع؟!
وتوجَّه موسى إلى ربه فاستجاب له المولى سبحانه، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، والمنّ -كما تقول كتبهم- نوعٌ من الخبز كان ينزل عليهم من السماء يوماً بيوم، إلا يوم الجمعة، كان ينزل عليهم ما يكفيهم لمدة يومين؛ لأن السبت كان راحةً لهم، والعجب كل العجب ما صدر عنهم.
ولنترك توراتهم تصف موقفهم هذا: "وحدث في اليوم السابع أن بعض الشعب خرج ليلتقطَ المنَّ فلم يجدوا، فقال الرب لموسى: إلى متى يأبى هذا الشعب أن يحفظ وصاياي وشرائعي؟ إن الرب أعطاكم السبت لذلك، هو يعطيكم في اليوم السادس خبزَ يومين، اجلسوا كلَّ واحد في مكانه ولا يخرج أحد من مكانه في اليوم السابع" (خروج: 16-27)، وهذه هي طبيعة بني إسرائيل.
وبعد ذلك جاء الاختبار الأكبر لهم، فقد قال لهم موسى: يا قوم، ادخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله لكم، ولا تتراجعوا ولا ترتدوا على أعقابكم فتصبحوا من الخاسرين، فأرسلوا أناساً منهم ليستطلعوا الأمرَ .. فوجدوا فيها قوماً أقوياءَ عمالقةً جبَّارين، فخافوا أن يدخلوا الأرض المقدَّسة، وقالوا لموسى: لن ندخل يا موسى حتى يخرجوا منها، فلتذهب أنت مع ربك فقاتلا إننا هنا قاعدون، فكان عقابهم أنهم يتيهون في الأرض أربعين سنةً؛ جزاءً وفاقاً.
إن دخول بني إسرائيل الأرضَ المقدسةَ إنما كان لفترة محددة وحقبة معينة وليس دخولاً أبديّاً نهائيّاً، بل هي مرحلة في تاريخهم ستنتهي؛ لأن هناك أمراً جديداً سيحدث، لقد كانت التوراة تستخدم تعبير: "حتى تطول أيامك على الأرض التي أنت عابر الأردن لتدخلها" (تثنية 30-18).
إن لفظة: "تطول" تدل على أنها فترة يحكمها إطار زمني قد يطول وقد يقصر، ولكن له نهاية وليس مستمرّاً إلى أبد الآبدين، فترة يقيمون خلالها أحكام التوراة التي أنزلت عليهم، فإن أقاموها طالت تلك الفترة، وإن لم يفعلوا فإنها تقصر .. إذن فهي حقبة لها نهاية؛ لأن هناك مستجدّاً سوف يحدث: "ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة؛ لأنها ليست أمراً باطلاً عليكم، بل هي حياتكم، وبهذا الأمر تطيلون أيامكم على الأرض" (تثنية 32-47)، ويقول: "فإن انصرف قلبك ولم تسمع بل غويت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها فإني أنبئكم: لا محالة تهلكون، لا تطول الأيام على الأرض التي أنت عابر الأردن لكي تدخلها" (تثنية 30-17).
وهذا بالفعل ما حدث لهم، فإن البُعد الديني الذي يستند إليه بنو إسرائيل مردود عليه من صحفهم وأسفارهم التي حُمّلوها فلم يحملوها، فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً، وعودتهم الثانية هي كذلك لفترة محددة، فقد توعَّدهم موسى بالشرِّ القادم إليهم في آخر أيامهم، فقد كانت أفعال بني إسرائيل في الأرض المقدسة سبباً في غضب الله عليهم واستئصال شأفتهم التي تمَّت وستتم مرةً أخرى إن شاء الله تعالى، فقد قال لهم موسى: "لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به ويصيبكم الشر في آخر الأيام" (تثنية 31-29).
وسفر أشعياء سينقل لنا تصرفاتهم والتي تمتلئ صفحات التوراة بها، ولكننا اخترنا هذا السفر؛ لأن ألفاظه مقبولة نوعاً ما عن غيرها: "أعمالهم أعمال إثم، وفعل الظلم في أيديهم، أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم الزكي، أفكارهم أفكار إثم، في طرقهم اغتصابٌ وسحق، طريق السلام لم يعرفوه، وليس في مسالكهم عدل، جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجَّة، كل من يسير فيها لا يعرف سلاماً، من أجل ذلك ابتعد الحقُّ عنا ولم يدركنا العدل" (أشعياء 59-6) فماذا ينتظرون من ربهم إلا أن يحلَّ الغضب عليهم.
إن سبب ضياع بني إسرائيل وانحرافهم عن سبيل ربهم أخبرنا به سيد الأنام في الحديث: «فإن أول فتنة بني إسرائيل في النساء» فلقد كانت المرأة هي سبب فساد بني إسرائيل ..
المرأة ذلك المخلوق الذي يتاجر به الجميع، يستغله الجميع، ويسعون من خلاله لتحقيق مكاسبهم وأغراضهم، حتى في مجالات السياحة، والتايم شير، وتسويق المنتجات، ينصحون مندوبيهم بأن الوصول إلى الرجل يكون عن طريق زوجته أو ابنته؛ فإن نجحتم في إقناعهما فإن المنتج قد بيع، فما هي قصة هذا المخلوق؟
وسوف نستطرد هنا لنقول: إن المرأة في العقيدة اليهودية هي التي وسوَس الشيطان في صدرها ودفعت آدم إلى الأكل من الشجرة، فهي أصل الغواية، وأداة الانحراف، والمثل اليهودي يقول: "سِرْ وراء أسد ولا تسِر وراء امرأة".
أما المرأة في الإسلام فهي مكرَّمة، لها من الحرية والتقدير ما لا يوجد في الشرائع الأخرى .. نعم هي فتنة للرجل وليس معنى فتنة أن نقتلها، فالأموال فتنة ومع ذلك نصف العشرة المبشرين بالجنة من الأغنياء، والأولاد فتنة ونحن مأمورون بكثرة الإنجاب، فمعنى فتنة أن لا نجعلهم معوِّقين لنا عن سبيل ربنا، بل يتحولون إلى وسيلة لتحقيق هذه الغاية.
فالمرأة هي أول من آمن بهذا الدين، وهي السيدة خديجة، وأول من مات في سبيل هذا الدين وهي السيدة سمية أم عمار، وأمرنا أن نأخذ نصف ديننا من امرأة، وهي السيدة عائشة رضي الله عنهن جميعاً، وقد كان للمرأة دور كبير في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية يندر أن تجده في الشرائع الأخرى، ولم يكن حجابها أبداً معوِّقاً لها، لم يمنع الحجاب عائشة أن تعلمنا، لم يمنع الخنساء أن تنشد شعرها، لم يمنع رفيدة أن تداوي جرحاها.
إن ما يتردَّد عن حجاب المرأة إنما يردِّده ببغاواتٌ لا يفهمون، سفهاء لا يعرفون، فلا تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، بل هم كالإنعام، بل هم أضل، فمعظم النساء في إفريقيا غير محجَّبات، ولم نسمع أن قطار التنمية قد زارهم!! والنساء في الأرجنتين والبرازيل وشيلي وبيرو غير محجَّبات، فهل انضمَّت تلك الدول لمصافّ الدول المتقدمة؟!! ولكنه الجهل حين يتحوَّل إلى هواء يتنفّسه أولئك الحمقى، والحماقة أعيت من يداويها.
إن المرأة في منظومة القيم العلمانية تحوَّلت إلى سلعة تباع .. إلى وسيلة إعلانية تسوِّق البضائع .. يريدونها "فاترينة" في سوبر ماركت، يشاهدها الجميع مشاعاً متاعاً لا تمتنع عن أحد.
إن العلمانية تنتهك جسد المرأة بشكل ليس له مثيلٌ في تاريخ البشر، لقد وعد شيطانُ العلمانية المرأةَ بحياة برَّاقة، بدنيا زاهية تتلألأ، تلمع أمام عينها، ترسم لها حياةً خاليةً، تتراقص أمامها، تغريها بأسلوب معيشة يناديها من بعيد ولكنه نداء الهلاك، ولمعان السراب، تهرول نحوه وتسرع إليه، حتى إذا جاءته لم تجده شيئاً، ولكن تجد الاكتئاب والحزن والوحدة.
إن ظلام العلمانية يعِدُ النساء بالنور، والآن نعود إلى بني إسرائيل، الذين توالَى عليهم الأنبياء يبشرونهم بمملكة السماء وآخر الأنبياء، فما إن انتهت فترتهم في الأرض المقدسة حتى انطلقوا نحو جزيرة العرب استوطنوا يثرب، وتسمَّوا بأسماء عربية، فأصبحت أسماؤهم: "كعب"، و"حيي"، و"قيس" بعد أن كانت: "جلعاد"، و"ميخائيل"، و"شمعون"، انتظروا خروج النبي؛ كي يتبعوه ويقيم حكم الإله على الأرض وتنزل إليه الشريعة الخاتمة.
لقد كانت البشارة الأخرى عن تلك الشريعة التي ستخرج من برية فاران موطن إسماعيل، وأوردها ابن القيم في كتابه الشهير: (إغاثة اللهفان) وهي: "جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وعن يمينه نار شريعة لهم" (تثنية 33-1)، ولكن لم يلتفت أحدٌ من قبل إلى بقية البشارة، والتي هي على درجة عالية من الخطورة والأهمية، فبقية البشارة تصف هذا النبي الذي ستنزل عليه شريعة الإله فتقول: "وهم جالسون تحت قدميك، يتقبلون من أقوالك بناموس أوصانا موسى ميراثاً لجماعة يعقوب، وكان في يشورون ملكاً حين اجتمع رؤساء الشعب أسباط إسرائيل معاً" (تثنية 33-3).
إن وضعية التعليم: "وهم جالسون تحت قدميك يتقبلون من أقوالك" لهي خاصة بنبي الإسلام وأمته الذين يتعلمون من على المنابر، ووصفٌ رائع لصلاة الجمعة، وأن ما يفعله بابا الفاتيكان في قداس الأحد حين يلقي تعليمه من النافذة وهم جالسون من أسفل على الكراسي لهو سطوٌ على أمة الإسلام .. فعليه أن يشاهد لوحة دافنشي، والمسيح يُعلّم أصحابه على المائدة ليعرف كيف كان المسيح يعلم أتباعه، وليبحث له عن مائدة يلقي تعاليمه عليها، وما أكثر الموائد هذه الأيام!!
ثم يوضِّح النص أن شريعة هذا النبي ميراثٌ لشريعة بني إسرائيل ومهيمنة عليها، ويصف النص النبي بأنه كان ملكاً حاكماً حين تجمع بنو إسرائيل، لقد حاول اليهود حين بُعث عيسى عليه السلام أن يجعلوه ملكاً، ولكن كان يرفض، حاولوا أن يستميلوه إلى الحكم فكان يعرض عنهم، أخذوا رأيه في الجزية فأمرهم أن يدفعوها، وقال: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" (لوقا 20-25) فأتوا إليه بامرأة زانية؛ كي يحكم عليها بحكم التوراة، ولكنه ما جاء ليحكم، فقال لهم قولته الشهيرة بعد إلحاح شديد منهم: "من كان منكم بلا خطيئة فليلقها بحجر" (يوحنا 8-7).
ولقد فعلوا الأمر نفسه مع نبي الإسلام؛ حيث طلبوه ليحكم، فأتوا برجل وامرأة زنَيَا فحكم لهم بحكم الله، وأمرهم بالرجم، فقد ذهب -والحديث في البخاري- ومعه عبد الله بن سلام، وقال ائتوني بالتوراة، فأتوه بالتوراة، وطلب من أعلمهم أن يقرأ فقرأ ووضع يده على آية الرجم، فقال له ابن سلام: "ارفع يدك عن آية الرجم"، فكان هذا هو حكم رسول الله بينهم، وقد صدق الله في سورة المائدة: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة: 42).