الخلل العقدي: أسبابه، ومآلاته

رمضان الغنام

لسلامة العقيدة دور محوري في حياة الإنسان، ولهذا كان التنبيه على الصلاح العقدي من أهم المهمات في حياة الرسل والأنبياء، بل كان المهمة الأساسية في كل دعوة وشريعة حملها نبي أو رسول إلى قومه، بل يمكننا القول أن المسألة العقدية وما يرتبط بها من عبادات كانت ولا زالت الفيصل الحقيقي بين مهمة صاحب الوحي، وصنائع المصلحين والفلاسفة والحكماء.

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
 

لسلامة العقيدة دور محوري في حياة الإنسان، ولهذا كان التنبيه على الصلاح العقدي من أهم المهمات في حياة الرسل والأنبياء، بل كان المهمة الأساسية في كل دعوة وشريعة حملها نبي أو رسول إلى قومه، بل يمكننا القول أن المسألة العقدية وما يرتبط بها من عبادات كانت ولا زالت الفيصل الحقيقي بين مهمة صاحب الوحي، وصنائع المصلحين والفلاسفة والحكماء.

فقد امتاز الأنبياء والرسل بتشريفهم بالمهمة العقدية وحصرها عليهم دون غيرهم، أما ما يخص الحض على حُسن الخُلق وجميل الصفات فهو أمر كان ولا يزال شائع بين كثير من البشر، ومنهم من لم يدن بدين قط، كطائفة من الحكماء والفلاسفة، وفي أتباع الأمم المنحرِفة عقدياً سواء كان دينهم سماوي أو بشري خير شاهد على هذا الأمر.



فلقد رأينا في حكم الحكماء، وما سطره الفلاسفة من جميل الأخلاق ورائع الصفات، ما يدل على فطرية هذا الأمر، بعكس أمور العقيدة، وما يرتبط بها من معرفة بالله، وطرائق عبادته، وما يتبع ذلك من المحاذير العقدية، والنواهي الإلهية، التي لا سبيل لمعرفتها بغير وحي ورابط يرتبط بالسماء.



فالمسألة العقدية مسألة وحي، لما لها من أهمية كبرى في حياة البشر، ولما يترتب عليها من أمور تخص صلاح الأفراد والشعوب والأمم على امتداد التاريخ البشري، من لدن آدم عليه السلام، إلى وقت قيام الساعة، ولذا كان السماع والتلقي والمباشرة ضرورة لا بد منها لحفظ الدين ودفع كل انحراف واعوجاج في الفهم.

المقصود بالخلل العقدي:



وفي هذه الورقة سأُعرِّج سريعاً على أبرز المآلات الناتجة عن الانحراف بالعقيدة عن معينها الصافي، وموردها الأول المُتمثِّل في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفهم الصحابة رضوان الله عليهم وهي مآلات تخص الفرد من ناحية، والأمة من ناحية أخرى، مصدراً ذلك بأسباب الخلل في المسألة العقدية.



نعني بالخلل العقدي: كل أمر من شأنه أن ينحرِف بالعقيدة الصحيحة عن أصالتها وأصلها، فيسلك المرء سبيلاً غير سبيل الرسل والأنبياء، وينتهج نهجاً بدعياً بوازع الهوى أو العقل المحض، أو الجهل أو التقليد، مبتعداً عن هدي الرسل والأنبياء، في أمور الاعتقاد.

والخلل في العقيدة الإسلامية يراد به كل ما ينشأ لدى الفرد المسلم من اضطراب فيما يخص ذات الله، أو ذوات الأنبياء، أو ما يتصل بهما من الغيبيات التي حجبها الله عن خلقة لغاية عنده، أي إنه كل خلل يُصيب معنى الإيمان الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور بقوله عن الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» (أخرجه مسلم في صحيحه: [1/28/102]).

أسباب الخلل العقدي:



ولهذا الخلل أسباب كثيرة أعظمها أربعة: اتباع الهوى، وتقديم العقل، والجهل، ثم التقليد، ولنا مع كل واحدة من هذه الأربع وقفه سريعة:



1- فأما الهوى، فهو رأس كل انحراف وفساد وقع فيه الإنسان وسيقع، من لدن آدم عليه السلام إلى وقت قيام الساعة، فبالهوى طُمِست حقائق وزُيفت عقائد، وغرق أقوام في بحور من التيه والغي والضلال.



والهوى زعيم كل عداء واجه أنبياء الله ورسله في دعواتهم، وبه جوبهت دعوات الإصلاح وحركات التجديد في كل عصر ومصر. والهوى هو وازع الشر والانحراف في كل نفس، وهو إما أن يكون بنزغ من الشيطان، وإما أن يكون من طبع النفس البشرية، ومآلهما واحد وهو الانحراف عن الجادة، والاختلال العقدي.



والهوى أو الميل يراد به ميل النفس إلى ما تحب، وأكثر استعمالاته تكون في الحب المذموم، يقول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41].

وقصص هذا النوع من أسباب الاختلال (العقدي) لا تكاد تنتهي، سيما في عصور الضعف العلمي، سيما هذا العصر الذي كثرت فيه الأهواء، حتى صار الهوي والعجب بالرأي ونكران الدليل، معبوداً من دون الله، لدى كثير من مدعي العلم والفهم والثقافة.



ومن الأمثلة العامة على هذا الأمر ما نراه في قضايا الولاء والبراء، ومسائل الاستغاثة والاستعانة بغير الله، إلى غير ذلك من الأمور الذي يستحسنها البعض ويدافع عنها بغير برهان، يقول الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيْرًا لَّيُضِلُّوْنَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِيْنَ} [الأنعام من الآية:119].



وقال عز وجل مُحذِّراً نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته من آفة الهوى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة من الآية:49].



لهذا وجب على الإنسان مغالبة هواه لينجو من شرك أطماعة ورغباته، يقول ابن القيم: "ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقت تحدث عليه حوادث جعل فيه حاكمان؛ حاكم العقل، وحاكم الدين، وأمر أن يرفع حوادث الهوى دائماً إلى هذين الحاكمين. وأن ينقاد لحكمهما، وينبغي أن يتمرَّن على دفع الهوى المأمون العواقب؛ ليتمرن بذلك على ترك ما تؤذي عواقبه" (روضة المحبين؛ لابن القيم، ص: [486]).

2- والسبب الثاني من أسباب الاختلال العقدي؛ ركوب مركب العقل، والتجديف بغير هدىً.



فلجناية تقديم العقل على النص القرآن والسنة عظيم الأثر في إحداث موجات عاتية من الاختلال العقدي والفكري في المجتمع الإسلامي. ولا يعني هذا إهمال الإسلام كدين لمكانة العقل، وإنما المراد هو الاعتدال في الأمر، وتنحية العقل عما لا يدخل في إطاره، فلِلِعقل مجالات ليس له أن يتخطاها إلى ما دونها، وإلا سقط الإنسان في متاهات من الغي، بسبب سوء الفهم وإعمال العقل فيما لا عقل فيه، وإنما إنصات وتسليم، ومن ذلك أمور العقيدة التي لا سيبل لمعرفتها إلا سبيل الوحي.



إلى جانب هذا الأمر؛ فإن لتفاوت العقول والأفهام دلالة خطيرة، من شأنها أن تنحي هذا العقل عن ساحة المسائل العظام كمسائل العقيدة وما يرتبط بها من أمور، هي في الأصل من أخص خصائص الوحي، فلكل عقل طريقته الخاصة في فهم الأمور والتعاطي معها، وعليه فلفهم المسألة الواحدة طرائق عدة تختلف من عقل إلى عقل ومن زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، فللعقل حيثيات وموائمات تؤثر بشكلٍ كبير على طريقة تفكيره.

وبسبب جناية العقل على النص؛ ضلت جماعات وأمم، وبُدِّلَت عقائد، واستبد العجب بالرأي وفهوم العقول بأناس كانوا يعدون من النبهاء ويحسبون على أهل التقى والورع والزهد، وفي رؤوس البدع وزعماء الفِرق أوضح مثال على هذا الأمر، فبسبب شطحاتهم، وتفسير قضايا الدين سيما قضايا العقيدة وفق عقولهم نشأت الفرق وتحزبت الأحزاب، ومُلئت الساحة الإسلامية بمختلف الأفكار والطروحات التي تخالِف ما كان عليه سلف هذه الأمة.

3- ومن أكبر الدواعي المسبِّبة للانحراف العقدي؛ جهلُ الإنسان بدينه.



فجهل المسلم بعقيدة القرآن، عقيدة أهل السنة والجماعة، كان له كبير الأثر في انحراف الكثيرين عقدياً، وتبنيهم أفكار ما أنزل الله بها من سلطان، بل تعارض وبشكلٍ سافر، ما عليه عامة المسلمين في مسائل الدين والإيمان. فالجهل باب كل شر وسبيل كل انحراف في الدين وغير الدين.



يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على القبور والآثار فهو من البدع المحدثة في الإسلام، من فعل من لم يعرف شريعة الإسلام، وما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد، وإخلاص الدين لله، وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبني آدم. ولهذا يوجد أن من كان أبعد عن التوحيد، وإخلاص الدين لله، ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيماً لمواضع الشرك، فالعارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتوحيد وإخلاص الدين لله، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشرك والبدع" (تفسير سورة الإخلاص؛ لابن تيمية، ص: [336]).

والجهل للأسف الشديد صار من أشد آفات هذا الزمان، بل صرنا نرى الجهلة يتصدرون لمواطن العلم والفتوى، فصرنا نرى رؤوساً جاهلة، تُفتِى الناس بغير علم وتتحدّث في دين الله بغير مراد الله عز وجل ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. بل قد يصل الجاهل بجهله إلى حد عبادة غير الله، فالجاهل كالأعمى لا يرى من حال نفسه أو حال غيره شيئاً، وقد حدث في القديم أن طلب بني إسرائيل بجهل منهم من نبيهم موسى عليه السلام أن يتخذ لهم إلهاً من دون الله، قال الله تعالى في كتابه العزيز: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:138-139].

4- والتقليد رابع الأسباب المحدثة للخلل العقدي.



والمقصود به التقليد المجرَّد عن كل عقل وضابط من الشرع، فالتقليد ليس كله شر بل نحن مأمورون بالتقليد المرادف للاتباع الحق، فنحن مأمورون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل كبيرة وصغيرة والعمل بفهم صحابته وتابعيهم، يقول الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {قلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31-32].



ومن حديث الافتراق المشهور يتبين لنا حض النبي صلى الله عليه وسلم أمته على اتباع حال صحابته رضوان الله عليهم وترسم خطاهم في مسائل الدين، يقول صلى الله عليه وسلم: «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» (أخرجه الترمذي في سننه: [5/26/2641]، وإسناده حسن).

ثم؛ نحن مأمورون باتباع سبيل المؤمنين عامة، يقول الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:115].



فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم، وسبيل المؤمنين، من الأمور الواجب على كل مسلم العمل بها، فهو اتباع محمود، لا نجاة للمسلم إلا به.



أما الاتباع المذموم أو ما يعرف بالتقليد فيرتبط بالأساس بتقليد الجهلاء، ومن لا خَلاقَ لهم، وأرباب المذاهب الفاسدة والأفكار الهدامة، أو تقليد مِلل الكفر والمحرِّفين لأديان السماء.



يقول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].



يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام، وإلى تلقِّي شرائعهم وشعائرهم منه، وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقرّه الإسلام، أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلاً، سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله؛ وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك" (في ظلال القرآن، لسيد قطب: [1/155]).

فالتقليد القائم على خرق أصول الدين ووحي السماء تقليد أعمى يضر بصاحبه، والتقليد يكون في الكفر والبدعة والمعصية، وليس له عاقبة في الدنيا والآخرة إلا الخسران للمُقَلِد والمُقَلَد، يقول الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166].



يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: "{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}: يعني السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر، عن قتادة وعطاء والربيع، وقال قتادة أيضاً والسدي: هم الشياطين المضلون تبرؤوا من الإنس، وقل: هو عام في كل متبوع. {وَرَأَوُا الْعَذَابَ}: يعني التابعين والمتبوعين، قيل: بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا، وقيل: عند العرض والمساءلة في الآخرة، قلت: كلاهما حاصل، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال" (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: [2/206]).

مآلات الخلل العقدي:



بعد الوقفات السريعة مع أسباب حدوث الخلل في جناب العقيدة، ننتقل إلى الشق الثاني من هذه الورقة للحديث عن مآلات الخلل العقدي، وسوف يتركز حديثنا حول نوعين من المآلات منها ما يخص الفرد المسلم ومنها ما يخص الجماعة المسلمة.

- مآلات الخلل العقدي على الفرد المسلم:



فمن مآلات الخلل العقدي فيما يخص الفرد المسلم ضعف الإيمان ويتبع ذلك الكثير من الآثار منها ما يرتبط بسلوك الإنسان، ومنها ما يرتبط بحالته النفسية، فصاحب الانحراف العقدي شخص ضيق الصدر، مظلم القلب، يعاني من الاضطرابات النفسية، وسوء الحالة المزاجية، يفتقد للمعنى الحقيقي السعادة، وهو معنى مرتبط بالأساس بتقوى الله وطاعته والسير على هدي نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن أخطر المآلات إحساس صاحب الخلل العقدي بالضياع، وفقدان الهوية والبوصلة، ومن ثم يصير فريسة سهلة الاصطياد لكل صاحب فكر منحرف أو مذهب هدَّام أو عقيدة كفرية.



فأولى مراحل الزيغ والانحراف عن سبيل الحق، والتخلي عن صفاء المعتقد يكون عبر خلل عقدي بسيط، سرعان ما يكبر ويقلب حياة المرء رأساً على عقب.



فـ"العقيدة الصحيحة أمن وأمان، وسكن وسكينة، وراحة واطمئنان، فالمؤمنون الصادقون مطمئنون هانئون، وهم أقدر الناس على مواجهة المحن والفتن، والخطوب والابتلاءات، يمنحهم الله القوة والهداية، ويرزقهم الصبر والثبات، إلى أن ينزل عليهم فرجه ونصره ويذهب عنهم ما أصابهم وصب ونصب" (مقال: سلامة العقيدة ودورها في أوقات المِحن؛ لـ رمضان الغنام، مركز التأصيل).

- مآلات الخلل العقدي على الجماعة المسلمة:



وأما مآلات الخلل العقدي فيما يخص الجماعة المسلمة فيتلخص في ثلاثة نقاط، أما الأولى فهي ظهور البدع، أما الثانية فهي ظهور الخلاف في الأمة وتفرُّق المسلمين إلى فِرق وجماعات وأحزاب، وأما الثالثة فتتمثَّل في تأخر زمن التمكين وحصول الهزائم والانتكاسات في الأمة الإسلامية، وتفصيل ذلك في الآتي:

1- المآل الأول والأخطر الناتج عن حدوث الخلل العقدي يتمثَّل في ظهور البدعة وتفشيها بين المسلمين.



والبدعة هي كل طريقة في الدين تخالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فهي ابتداع في الدين وإحداث لا مثيل له، يقول المجددي في قواعده، "البدعة هي الأمر المحدَث الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي" (قواعد الفقه؛ للمجددي، ص: [204]).



والبدعة فعل مستشنع مردود على صاحبه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (رواه مسلم: [5/132/4589])، أي مردود على صاحبه غير مقبول منه، وفوق رده فصاحبه إما عاص وإما كافر، فحكمه مرتبط بحاله وحال بدعته.

فمن البدع ما يرتقِ إلى درجة الكفر، ومنها ما لا يتعدى كونه معصية، وللشاطبي في مراتب البدعة كلام جيد يُفرِّق فيه بين البدعة التي هي كفر وبين ما يندرج تحت باب المعاصي (الاعتصام؛ للشاطبي: [2/37]).



ومما تجدر الإشارة إليه؛ أن بدعة الاعتقاد هي أخطر أنواع البدع، وغالب إطلاقات الشرع في ذم البدعة منصب عليها، وهي المتبادرة في السبق إلى الذهن من إطلاق اسم البدعة شرعاً، والمبتدع، وأهل الأهواء (البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها؛ للدكتور عزت علي عطية، ص: [403]).

2- ويترتب على البدع مآل ثاني من مآلات الخلل العقدي، وهو ظهور الفِرق والأحزاب والجماعات.



فبسبب البدعة ينعزل المبدع بفكره عن الفهم الإسلامي الصحيح لمسائل الدين، سيما مسائل العقيدة، ويوماً بعد يوم تتكون لديه قناعات وتفسيرات تختلف عما هو عليه حال جماعة المسلمين. ثم تتسع الهوة أكثر فأكثر بكثرة الأتباع، إلى أن تتكون الفِرقة، وتتكون لديها منظومة فكرية مستقلة في كثير من نواحيها عن منظومة الأفكار الحاكمة لعقائد أهل السنة والجماعة.



ولهذا؛ فلم تظهر الفِرق في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، أو في أوائل عصر الصحابة رضوان الله عليهم، فقد تميز زمنهما بصفاء العقيدة، وبصحة الإتباع، فكان الصحابة يتحرّون الدقة في كل ما يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كانوا يحرصون تمام الحرص على عدم الخوض فيما لا نص فيه، ويفرون من الخلاف فرار الغزال من الأسد، ولم يختلفوا الاختلاف الذي يضرهم ويورث الفرقة، ولهذا لم تظهر في أوائل عصرهم بدعة قط.

ويتبع ظهور الفِرق انتقال مذاهب الغرب المادية وفلسفاته الإلحادية إلى مجتمعنا الإسلامي، كالعلمانية والليبرالية والشيوعية، وظهور جبهة من الأتباع المتبنين لأفكار الغرب، فعلى أيديهم صار لهذه المذاهب وتلك الفلسفات وجود طاغ في المشهد العربي والإسلامي.



ويُعَدُّ الإلحاد أحد أخطر ثمار التفرُّق والتحزب، وهو عامل مشترك بين الفِرق الإسلامية والمذاهب الغربية، وهو ذروة سنام التفرُّق والانفلات من عقال السنة والإتِّباع، وهو غاية الشيطان من إضلال البشر.

3- ومن مآلات الخلل العقدي تأخر زمن التمكين وحصول الهزائم والانتكاسات في هذه الأمة.



فالتمكين لابد له من عقيدة صحيحة صافية، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105-106].



وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13-14].



فـ"بتتبُّع دول الإسلام وما أصابها من مِحن وابتلاءات وما حدث لها من نصرٍ أو انتكاسات يتبدى للناظر أن أساس كل تمكين كان يرتكز على أصول عقدية صحيحة، وأن سقوط الدول والممالك الإسلامية كان نتيجة حتمية لخواء الجانب العقدي في عصر السقوط، ودولته، وجماعة المسلمين في ذلك العصر وتلك الدولة" (مقال: التمكين نظرة عقدية؛ لـ رمضان الغنام، مركز التأصيل).

فتصحيح المسار العقدي كفيل باستنهاض أحط النفوس وأدناها، وفي حياة من تحول إلى الإسلام من بعد الكفر في عصور الإسلام الأولى خير شاهد على هذا المعنى، فبفضلٍ مِنْ الله ثم بفضلِ مَنْ تحول إلى الإسلام من بعد كفر من الصحابة وتابعيهم وغيرهم، ودخولهم في جماعة المسلمين، حصل للإسلام والمسلمين من التمكين، ما أمكنهم من بسط دولة الإسلام، إلى أن ضربت بأطرافها تخوم الصين وفرنسا، بعد فترة ليست بالطويلة من بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم (مقال: التمكين نظرة عقدية؛ لـ رمضان الغنام، مركز التأصيل).



فليس من شروط التمكين كثرة العدة والعتاد؛ وإنما لصفاء المعتقد الكلمة الفصل في هذا الأمر، فالله تعالى يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة من الآية:249].

فهل كان مجتمع الصحابة أقوى من القبائل في جزيرة العرب؟



وهل كان المسلمون في جزيرة العرب فيما بعد أكثر عدة وعتاداً من إمبراطوريتي الروم والفرس؟

خاتمة:



بعد هذه الوقفة العجلى مع أسباب الخلل العقدي ومآلاته؛ نشير سريعاً إلى وجوب تصدي علماء الأمة ومصلحيها إلى كل ما يَطال عقيدة المسلم من انحراف، وما ينتج عن هذا الانحراف من ظواهر ومظاهر، ولن يكون هذا إلا بأخذ هذه العقيدة من معينها الصافي المتمثّل في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.
 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام