ماذا يحدث في أفريقيا؟
محمد جلال القصاص
من وقت لآخر تثور مشكلة كبيرة في القارة الأفريقية، فمن قريب: انفصال جنوب السودان، ومشكلة دارفور وجنوب كردوفان، وغيرهما في جمهورية السودان، والتدخل المسلح في ساحل العاج، ثم مشكلة مالي والتدخل العسكري الأوروبي فيها، واليوم أفريقيا الوسطى، فماذا يحدث في أفريقيا؟!
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
من وقت لآخر تثور مشكلة كبيرة في القارة الأفريقية، فمن قريب: انفصال جنوب السودان، ومشكلة دارفور وجنوب كردوفان، وغيرهما في جمهورية السودان، والتدخل المسلح في ساحل العاج، ثم مشكلة مالي والتدخل العسكري الأوروبي فيها، واليوم أفريقيا الوسطى، فماذا يحدث في أفريقيا؟!
الأحداث لم تبدأ اليوم ولا في هذا القرن؛ هناك سياق متصل بدايته مقدم الاحتلال الأوروبي للعالم الإسلامي ومنه القارة المسلمة (أفريقيا) في القرن الثامن عشر الميلادي، واعتمد الاحتلال الأوروبي عدد من السياسات كان الهدف منها هو السيطرة على العالم الإسلامي، ومنه أفريقيا، من هذه السياسات:
1. التقسيم الجغرافي على خلفية سياسية، تقسيمًا جغرافيًا يضعف العالم الإسلامي سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ومثَّل هذا الأمر محددًا، أو إطارًا ثابتًا لكل دول البغي الأوروبي، فنزلوا في جزيرة عبد الله بن ياسين على نهر السنغال (جنوب المغرب العربي)، وانتشروا في الصحراء، ففصلوا المغرب العربي عن عمقه الاستراتيجي في أفريقيا، ثم قسموا المغرب العربي إلى قسمين (الجزائر والمغرب)، ثم قسموا المغرب بعد ذلك، ولا زال التقسيم مستمرًا إلى اليوم. ونزلوا القرن الإفريقي وقسموه، ولا زال التقسيم مستمرًا لليوم، ونزلوا شمال أفريقيا وقسموه، ولا زال التقسيم مستمرًا إلى اليوم، ثم جعل هذا التقسيم الصيغة الوحيدة المقبولة للعيش في هذا العالم بعد الحرب العالمية الثانية في شروط الانضمام للأمم المتحدة (ميثاق الأمم المتحدة المادة الثانية).
2. اعتمد الاحتلال الأوروبي سياسة غرس "مؤسسات التغيير"، في جميع مجالات الحياة، وعلى رأسها التعليم، والمجال العسكري، والثقافة العامة. وزاحمت هذه المؤسسات الأوروبية المؤسسات الإسلامية التي كانت بالمجتمع ثم قضت عليها وانفردت وحدها بتشكيل الوعي وإدارة شؤون الحياة، في البلدان الإسلامية الأفريقية وغير الأفريقية، وبهذا تبعت هذه المجتمعات ما يريد الغرب منها؛ ولا زالت مؤسسات التغير تعمل.
3. إثارة الأقليات العرقية، والدينية والمذهبية، وجاء ذلك في إطار إضعاف الدول الإسلامية، في أفريقيا وغير أفريقيا، والمسلمون يعيشون منذ قرون طويلة وبينهم الأقليات وليس في صفحات التاريخ حديث كهذا عن الأقليات، والأقليات موجودة في دول أوروبا نفسها ولا تثار لهم مشكلة كما في بلدان المسلمين، ولم تحصل أقلية على حقها الذي تطالب به، فقط استخدمت كورقة ضغط على الدولة وأداة إضعاف، وابتزاز، ثم تقسيم.
4. مكنوا لليهود الصهاينة في أفريقيا، وكما استخدموهم كجماعة وظيفية في قلب العالم الإسلامي، استخدموهم في أفريقيا أيضًا، واليهود فاعل رئيسي في الحدث الأفريقي، وأحدثوا نكاية فينا كأشد من تلك التي أحدثوها في فلسطين، وليس لك أن تجهل ما يفعله اليهود في أفريقيا، ولو أني أستطيع لتلوت عليك بعضًا من أمرهم، ولكن المقام مقال، فانظر إن شئت كتاب "إسرائيل في أفريقيا" حسين حمودة.
5. غيَّروا وجه أفريقيا من قارة مسلمة إلى شيء مضطرب، انقطع عن ماضيه، وتاه.
6. مما فعله الغرب: أن غيَّر بأدواته الإعلامية وغير الإعلامية الصورة الذهنية للأفريقي في حس العربي والعربي في حس الأفريقي، فصار الأفريقي عند العربي تاجر العبيد مع أن الغرب هو الذي استعبد الأحرار من أفريقيا وساقهم بعشرات الألوف إلى بلده وأهانهم ولم يكرمهم، وصار الأفريقي في حس العربي أسود فقير عارٍ متخلف يعيش في الصحراء والغابات، وهم شعوب كريمة طيبة حسن العشرة قاتلت في سبيل الله، وما دب إليها ما هي فيه إلا حين تخلت عن أمر ربها.
7. الغرب يعادي الإسلام في أفريقيا وغير أفريقيا لأنه أيدلوجيا (فكر أو عقيدة) شاملة تستطيع أن تنتج حضارة شاملة، تضاد البغي الغربي وتذهب به.
8. يستخدم الغرب لغة إيجابية حسنة المظهر، فهم "حريصون" على "حقوق الإنسان"، وهم "لا يتدخلون في شؤون الدول المستقلة"، وهكذا، وهو حال الباطل في كل زمان ومكان: يدعي دومًا الصلاح والإصلاح، وحكى القرآن عن فرعون قوله: {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} [غافر: 26]، فرعون يخاف أن يفسد موسى في الأرض!!
ماذا يريدون من أفريقيا؟
الغرب يحمل عقيدة شاملة، تشكل الحياة في جميع أبعادها: السياسية، والثقافية، والاقتصادية، والعسكرية.
وهو يطوِّع الدول ذات الموارد الطبيعية كأفريقيا لتبقى مصدرًا للمواد خام وسوقًا استهلاكية، وأرضًا يستثمر فيها أمواله. مع الأخذ في الاعتبار أن بعض المنتوجات الاقتصادية ثقافي؛ ويأتي في سبيل تحقيق هذا الهدف إضعاف هذه الدول بالتقسيم وإثارة الأقليات، ودعم الانقلابات العسكرية والانشقاقات الداخلية، والتمكين لكيانات ضعيفة، وإخراج جيل جديد من الزعماء الموالين له، وخاصة من العسكر وضرب المسلمين أصحاب الأيدلوجية الشاملة كي لا ينهضوا في وجه الغرب ويستعيدوا حضارتهم. فالغرب ضد الجميع ويضرب بعضهم بعضًا، ومن يمكنه لا يعطيه شيئًا صالحًا ولا يسمح له بحياةٍ كريمة، وخير مثال "دولة جنوب السودان"، أعطاها أرضًا بلا شطئان لتبقى عالة عليه في تصدير البترول، وحدودًا كثيرة متشعبة، ولم تتوقف المشاكل بداخل هذه الدولة لليوم، ولم تقم بها نهضة لليوم، مع أنها نصرانية وثنية؛ وقبل ذلك أثيوبيا التي تتعاون مع الغرب منذ قدم للقرن الأفريقي في القرن التاسع عشر، لم تنل من تعاونها معه خيرًا، بل حروبًا مستمرة والفقر قابع لا يرحل؛ فقط يستفيد أفراد أو جماعات صغيرة في كل دولة.
المنظومة الغربية متصارعة في داخلها، ولكنها متفقة على الأطر التي عددتُها في أول المقال، ولذا كلهم علينا، وتنافسهم أو تصارعهم موجود منذ القدم، ولم نستفد منه، ولن نستطيع أن نستفيد منه في ظل الصيغة الدولية الحالية، فقد استباحوا ديار المسلمين؛ ولذا ليس لنا أن نلجأ لدولة أوروبية أو منظمة تسيطر عليها الدول الأوروبية لأخذ كامل حقنا، ولنا في المشاكل السابقة عبرة. يحتاج الأمر إلى خطة طويلة المدى ذات أطر ثابتة نعمل جميعًا بداخلها، كما فعلوا هم، نعمل جميعًا لاستعادة الذاكرة التاريخية للقارة الأفريقية، وتصحيح الصورة المغلوطة التي صنعها المحتل في حسهم عن المسلم العربي وغير العربي وتبصير الأفارقة بما قد فعله بهم المحتل، وأننا لسنا أعداءهم، وقد عشنا قرونًا شيئًا واحدًا متجانسًا متراحمًا. نحتاج لأطر جديدة تبين قضية الصراع الحقيقية في القارة الأفريقية، وأطرافه الحقيقيون، وهم الإمبريالية العالمية من الغرب والشرق (الدول الصناعية الشرقية تسللت هي الأخرى لأفريقيا)، وأدواتهم التي يعملون بها في جميع مجالات الحياة، البداية دائمًا من تكوين رؤية محددة المعالم تشكل عقلًا جمعيًا عند المؤمنين بها، ثم ينشط كل منا بما يستطيع ضمن هذه الأطر. فمن الآن؛ الأمر أكبر من ملايين؛ بل من دولة، الأمر أمر أمة بأكملها.