فتاوى فضيلة الكاتب الصحفي!

هل رأيتم عالِماً من علماء الدين يوماً خرج متأبطاً خرائط هندسية، ووقف على بناية من البنايات يحسِب المساحات، ويُخطِّط للمداخل والمخارج، ويُحلِّل التربة، ويُوصي بأن لا يزيد عدد أدوار البناية عن خمسة؟!
ولكن؛ أثق جازماً أنكم قرأتم لكاتب صحفي أو أكثر من كتّاب الصحف السيارة تخصُّصَه في علم الجغرافيا، أو المحاسبة، أو الرسم، أو التربية الرياضية، ويكتب مقالات يُحلِّل ويُحرِّم، وينتقد العلماء، ويُرجِّح في مسائل الخلاف العويصة، ويشرح آيات المحكم والمتشابه

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -


إذا افترضنا -جدلاً- أن التخصص بات من نوافل العادات، وأنه من حق كل أحد أن يتكلم فيما شاء كيفما شاء، وأن من حق الجاهل أن يجلس على كرسيّ الفقيه المجتهد، ويعتلي الغبيّ والأُمّي مراتب أهل الفضل والإحسان؛ فاعلم أننا نعيش في عصر الانزلاقات الخطرة، وإذا أحسست أن بعض ذوي المِهن المتوسطة والصغيرة بدأ يتقافز على أصحاب العلم والرأي والمعرفة؛ فاعلم أننا وصلنا بحفظ الله ورعايته إلى قمة التقدُّم والرفاهية المعرفية في زمن التخصصات المفتوحة!


 

هل رأيتم عالِماً من علماء الدين يوماً خرج متأبطاً خرائط هندسية، ووقف على بناية من البنايات يحسِب المساحات، ويُخطِّط للمداخل والمخارج، ويُحلِّل التربة، ويُوصي بأن لا يزيد عدد أدوار البناية عن خمسة؟!



 

وهل شاهدتم طبيباً يجلس عند أبواب الدوائر الحكومية ليكتب المعاريض والخطابات؟!


 

وهل مررتم يوماً بصاحب شركة من شركات الأدوية والصناعات الطبية اعتلى منبراً ليخطب في الناس أن «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هَامَةَ»؟!


 

ولكن؛ أثق جازماً أنكم قرأتم لكاتب صحفي أو أكثر من كتّاب الصحف السيارة تخصُّصَه في علم الجغرافيا، أو المحاسبة، أو الرسم، أو التربية الرياضية، ويكتب مقالات يُحلِّل ويُحرِّم، وينتقد العلماء، ويُرجِّح في مسائل الخلاف العويصة، ويشرح آيات المحكم والمتشابه، ويفصل بين المطلق والمقيَّد، ويُحرِّر الناسخ من المنسوخ، ويُصحِّح الأحاديث ويضعِّفها، ويتكلم في رجال الحديث فيجرح ويُعدِّل وربما تكلم في علم المواريث والديات، والطلاق وعِلم القراءات، فتخرُج مقالات هذا الكاتب كأنها بحوث علمية شرعية، أو فتاوى موثوقة؛ بينما هي هرطقات وفبركات ضحك بها إبليس عليهم، وساعدهم في ذلك جهلهم المركب، وأما شيوخهم في ذلك اسطوانات الكتب المضغوطة المليئة بالأخطاء، فينسخون منها ما يوافق هواهم دون أدنى إلمام، أو فِقه بالمسألة؛ فهم شيوخ الاسطوانات والأقراص المدمجة وشبكة الانترنت لا شيوخ العلم الحقيقي والمعرفة، ومما لاحظته على هؤلاء الكتبة أنهم يصدّرون فتاويهم بقولهم: "وإن كنتُ لستُ من المتخصصين في الشريعة، ولا أُفتي؛ إلا أني أرى كذا وكذا" وحال هذا كحال من يقول: "أنا لا أُجيد السباكة، ولا أعرف فنونها، ثم يمسك بأدوات السباكة فـ"يُخرِّب طقم الحمَّام".


 

ومن طريف ما قرأت في هذا المجال؛ أن أحد الكٌتّاب ممن يحاول إبراز نفسه على أنه شيخ "فهيم" شنّع على أحد كبار المشايخ الفضلاء في مقال بإحدى الصحف السيّارة زعم فيه أن هذا الشيخ صدر له ثلاثة وثمانون شريطاً عن (العِدّة) هكذا قال كاتبنا المسكين ظاناً أنه وقف على طامّة من الطوام، وعثر على فجيعة من فواجع هذا الشيخ الجليل، وما درى هذا المسيكين أن هذه الأشرطة الصوتية هي دروس في شرح كتاب: (العُدّة شرح العمدة) لبهاء الدين المقدسي.


 

وآخر ما وقفتُ عليه من طرائف القوم أن أحد هؤلاء الكتبة زعم في برنامج فضائي مباشر على الملأ قائلاً: "في حديثي لم أكن أتناول عن هذا الحديث، وإنما السياق كان عن عدة أحاديث، منها ما ضعَّفه العلماء مثل حديث أن: «المرأة تُقبِل في صورة شيطان وتُدبِر في صورة شيطان»،

هذا الحديث الشيخ محمد بن الأمين والشيخ الألباني رحمهم الله وغيرهم وقفوا عنده وأنكروه، وقالوا: هذا حديث منكر" انتهى كلام فضيلة العلامة الكاتب الصحفي!


 

وبعد أن بحث أحد المشايخ في المسألة، ودقَّق في كلام هذا العلامة المحدِّث المزعوم -بتشديد الدال وليس بتسكينها- وصل للنتيجة التالية: "والحقيقة أن هذا خطأ محض على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحديث: «إن المرأة تُقبِل في صورة شيطان وتُدبِر في صورة شيطان» ليس بحديث منكر، ولم يُضعِّفه لا الشنقيطي، ولا الألباني، فالحديث أصلاً موجود في (صحيح مسلم، برقم: [3473])، وأما الشنقيطي فلم يُضعِّفه في أي كتاب من كتبه، وأما الألباني فقد صحَّحه بشواهده، وأشار لذلك في أكثر من كتاب من كتبه (انظر على سبيل المثال: السلسلة الصحيحة: [235]، صحيح الجامع: [1940]، صحيح أبي داود: [1867]).


 

وسأشرح القصة باختصار:


 

في أحد المنتديات يوجد كاتب انترنتي اسمه "محمد الأمين"؛ هذا الكاتب قال عن هذا الحديث الصحيح "والحديث مضطرب مردود لانقطاع سنده، ووجود النكارة الشديدة فى متنه"، فجاء الصحفي "إسلام بحيري" -وهو مشارك في هذا المنتدى أصلاً- وأعجبته هذه العبارة فذهب وكتب مقالة نشرها في مجلات أخرى، ونسب عبارة الكاتب الانترنتي بشكل يوهم القارئ أن قائلها هو الشيخ (محمد الأمين الشنقيطي) وليس الكاتب الانترنتي (محمد الأمين) حيث يقول الصحفي إسلام بحيري في مقالة كتبها عن هذا الحديث: "ولكن المؤسف أن الأوائل لم ينكروا هذا الحديث، أما العاقلون من المعاصرين فقد رفضوا هذا الحديث، وأنقل في هذا السياق قولاً للشيخ "محمد الأمين الشنقيطي" عن ذات الحديث من كتابه (ضعيف الصحيح) فيقول: "والحديث مضطرب مردودٌ لانقطاع سنده، ووجود النكارة الشديدة فى مَتنه، فأضاف لاسم الكاتب عبارة "الشنقيطي" حتى يكتمل الإيهام، واخترع كتاباً لهذه العبارة وأسماه (ضعيف الصحيح)، ولذلك لم يُشِر للصفحة لأنه كتاب اخترعه إسلام بحيري، وليس للشيخ الشنقيطي أصلاً كتاب بهذا الاسم، فجاء هذا الصحفي وابتلع الطُعم، ونسب هذا التضعيف للشيخ الشنقيطي رحمه الله!" ونحو هذه المضحكات المبكيات.


 

أرأيتم كيف يتعامل هؤلاء الكتبة مع شرع الله؟! وكيف يتحكَّمون في النصوص الشرعية وِفق أهوائهم وأفهامهم السقيمة، وجهالاتهم الفاضحة، وتلوك ألسنتهم وأقلامهم في مسائل لو عُرِضَت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، ولو سُئِلت عنها المجامع الفقهية واللجان الدائمة ومجالس الإفتاء لانتظروا الدورة السنوية كي يتباحثوا فيها، ويصدروا فيها رأيهم!


 

مثل هذه المسائل يكتبها أحد كتبة الصحف من المجتهدين في إصدار الفتاوى السريعة مثلما تُباع الوجبات السريعة في نصف ساعة، ثم تنشر في الغد، وتتلقفها الدهماء فلا تسألوا بعدها عن الفوضى، ولا تسألوا عن هذا الهزَل كيف حصل؛ بل اسألوا متى سيتوقف أرباب هذه الفئة المتمشيخة في صحافتنا.

صلاح عبد الشكور