قصة عمالة

أمير سعيد

تماهى مبارك مع الأمريكيين تماماً في وأد أي محاولة لإيجاد حل عربي يجنب المنطقة مخاطر التدخل الأجنبي، وارتضى في النهاية أن يدفع جنوده إلى مقدمة الجبهة لكن تحت قيادة غربية، قاطعاً الطريق على أي حل آخر، مستفزاً الرئيس العراقي صدام حسين بسلسلة بغيضة من الكلمات والخطابات المشابهة لتلك التي استفزت الشعب المصري كله إبان الثورة وحتى بعدها..

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

 

في مثل هذه الأيام قبل واحد عشرين عاماً، العالم الإسلامي كان مذهولاً من هول صدمة الغزو.. لقد اجتاحت القوات العراقية الكويت في عدة ساعات، وارتعد أكثر من نظام، وبدأ الأمريكيون يبنون على هذا الرعب و"يبشرون" بسيناريو خيالي لاجتياحات عراقية أخرى، وقدم كبار القادة العسكريين بعد عدة أيام خلت من أغسطس إلى المنطقة يرسمون خططاً لـ"صد العدوان العراقي على دول الخليج الأخرى" و"تحرير الكويت"، كان مبارك على مبعدة من أرض الميدان -ولم يكن محشوراً في زاوية اللجوء إلى الحل الأمريكي مثلما وجدت دول الخليج الأخرى نفسها مضطرة إليه بحسب رؤيتها الاستراتيجية وتفاوت موازين القوى بينها والعراق- لكن كان هو الأقرب إلى الاستعداد لقطع الطريق على صدام حسين للانسحاب، وبدأ يرسل رسائل مستفزة لصدام حسين بعد أن استضاف القمة العربية في زمن قياسي لم يحصل لا من قبل ولا من بعد (ثمانية أيام بعد أن التأمت اجتماعات وزراء الخارجية العرب في صباح اليوم التالي للغزو أي يوم 3 أغسطس).

تماهى مبارك مع الأمريكيين تماماً في وأد أي محاولة لإيجاد حل عربي يجنب المنطقة مخاطر التدخل الأجنبي، وارتضى في النهاية أن يدفع جنوده إلى مقدمة الجبهة لكن تحت قيادة غربية، قاطعاً الطريق على أي حل آخر، مستفزاً الرئيس العراقي صدام حسين بسلسلة بغيضة من الكلمات والخطابات المشابهة لتلك التي استفزت الشعب المصري كله إبان الثورة وحتى بعدها..

أجاد مبارك في حمل صدام على الاستمرار في احتلاله للكويت، وتهكم وسخر من القدرة العراقية على تحدي الغرب، ولما قامت الحرب ظل يستهزئ بصواريخ سكود ووصفها بـ"بمب العيد"، وضحك وأضحك ندمائه، كان الرجل يتحدث بثقة؛ فهو في صف الغرب ويحتمي بعمالته لهم، وإذا كان له بعض العذر بسبب حالة الغزو هذه؛ فإنه كان يفتقر إلى أي مبرر لاستمرار استهزائه بصدام حتى بعد الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، حينها لم يكن له أي سند لتهكمه على صدام بعد خلعه ومن ثم محاكمته واغتياله على المشنقة.. ظل مبارك يتحدث ـ بلسانه وعبر إعلامه القميءـ عن "حكمته" التي جعلته يتخندق مع الغرب ويلتحف بغطائهم إلى أن لاقى مصيره الأخير.

لقد بدأ ولاء مبارك مبكراً للأمريكيين، وظل "وفياً" لأسياده طوال فترة رئاسته.. كان يضرب بالولايات المتحدة الأمريكية لنا الأمثال في خطبه، ويوم اختطفت طائرتنا المدنية بواسطة عدة طائرات عسكرية أمريكية للقبض على قادة فلسطينيين، اكتفى مبارك بالقول عن ريجان ودولته "لم أتوقع ذلك من صديق ولا من دولة صديقة".. لم يغادر يوماً دوره المرسوم أمريكياً، لا في السودان التي ساهم في تقسيمها وإضعافها، ولا في فلسطين التي سكت طويلاً عن مآسيها وأرغم عرفات على أوسلو والتصقت به كل النخب الفلسطينية العميلة كأبي مازن ودحلان وأبو شباك وفياض، وساهم بقوة في حصار غزة وعمد إلى بناء سور فولاذي لا يوجد نظيره على حدود بلاده الافتراضية مع "إسرائيل"، ولا في القرن الإفريقي الذي أسلمه لشرطي الولايات المتحدة/إثيوبيا، ولا في الخليج الذي تركه بين مطرقة إيران وسندان الولايات المتحدة، ولا في لبنان الذي مرت كثير من الاجتياحات الصهيونية في عهده دون أن ينبس ببنت شفة، ولا في كل القضايا الإسلامية كالبوسنة والهرسك وأفغانستان والشيشان ولا كوسوفا التي لم يعترف بها لحد الآن!، ناهيكم عن الشؤون الداخلية المصرية التي جعلها نهباً للأمريكيين يحاربون الاقتصاد التنموي ويشجعون الاقتصاد الهش، ويدمرون التعليم والإعلام والثقافة.. إلى أن انتهى بتسليم تدبير أمر الحكم من بعده لهم أيضاً، وطفق يتسول منهم ملف التوريث ويقدم التنازلات حتى قبل أن تطلب منه، وهو ما قاده في الأخير إلى سرير خلف القضبان.

ظن الرجل أنه لن يلقى أبداً مصير صدام الذي حاكمه الأمريكيون ومات شامخاً بشرف، وهو صحيح؛ فلن يلقى أبداً مبارك مصير صدام الذي أدمن السخرية منه ومن تحديه للأمريكيين، ولن يلقى مصيره أبداً؛ فمن الصعب جداً أن نقرن محاكمة صدام بمحاكمة مبارك، لكن حجم الشماتة التي أظهرها مبارك في صدام في مثل هذه الأيام قبل عقدين من الزمان تحفزنا أن نتذكر تلك المصائر وهذا الخيار الذي اتخذه مبارك، فلقد بدا مكشوفاً من غطاء أمريكي ظن طوال عمره أنه سيقيه غضبة شعبه، وأسلمه الأمريكيون في النهاية بلا ثمن.. نعم، فذاك ثمن مبارك الحقيقي في سوق النخاسة الأمريكي.. كمنديل ورقي تم استخدامه ثم ألقي في مزبلة التاريخ.