نماذج في الصبر

  • التصنيفات: محاسن الأخلاق -


نماذج من صبر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم

صَبرُ أولي العزم من الرسل على مشاق الدعوة إلى الله:
صَبَر أولو العزم من الرسل على مشاقِّ الدعوة إلى الله، فأبلوا بلاءً حسنا، صبر نوح عليه السلام وقضى ألف سنة إلا خمسين عامًا كلها دعوة، وصبر إبراهيم عليه السلام على كل ما نزل به فجُمع له الحطب الكثير، وأوقدت فيه النار العظيمة، فألقي فيها، فكانت بردًا وسلامًا. وموسى عليه السلام يصبر على أذى فرعون وجبروته وطغيانه. ويصبر عيسى عليه السلام على تكذيب بني إسرائيل له، ورفض دعوته، ويصبر على كيدهم ومكرهم حتى أرادوا أن يقتلوه ويصلبوه، إلا أن الله سبحانه وتعالى نجاه من شرهم. وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما أكثر ما لاقاه في سبيل نشر هذا الدين، فصبر صلوات ربي وسلامه عليه.

قال تعالى آمرًا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. قال السعدي: "أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له، وأن لا يزال داعيًا لهم إلى الله، وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية، الذين عظم صبرهم، وتمَّ يقينهم، فهم أحقُّ الخلق بالأسوة بهم، والقفو لآثارهم، والاهتداء بمنارهم" (تيسير الكريم الرحمن: 783).

أيوب عليه السلام وصبره على البلاء:
كان نبي الله أيوب عليه السلام، غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83- 84]. "يذكر تعالى عن أيوب، عليه السلام، ما كان أصابه من البلاء، في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثير، ومنازل مرضية. فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده -يقال بالجذام في سائر بدنه- ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس، وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت تقوم بأمره" (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 5/359).

نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وصبرهما على طاعة الله:
رأى نبي الله إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل؛ ورؤيا الأنبياء وحي، فأخبر ابنه بذلك، وعرض عليه الأمر. قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]. قَالَ إسماعيل صابرًا محتسبًا، مرضيًا لربه، وبارًّا بوالده: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: امض لما أمرك الله سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله تعالى. {فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي: إبراهيم وابنه إسماعيل، جازمًا بقتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالًا لأمر ربه، وخوفا من عقابه، والابن قد وطَّن نفسه على الصبر، وهانت عليه في طاعة ربه، ورضا والده، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: تلَّ إبراهيم إسماعيل على جبينه، ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه؛ لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه.
{وَنَادَيْنَاهُ} في تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ} أي: قد فعلت ما أمرت به، فإنك وطَّنت نفسك على ذلك، وفعلت كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في عبادتنا، المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم" (تيسير الكريم الرحمن للسعدي 705).

نماذج من صبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
لقد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغ صبره مبلغًا عظيمًا، وهذه نماذج متنوعة من صبره صلى الله عليه وسلم:
صبره صلى الله عليه وسلم على المشركين حينما آذوه، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر:
- قال ابن مسعود رضي الله عنه: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع» (رواه البخاري: 3185، ومسلم: 1794).

- وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال: فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى وحده لا يشرك به شيئًا» (رواه البخاري: 3231، ومسلم: 1795).

- وعن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيءٍ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «بينا رسول الله وسلم يصلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط وهو من الكفار، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا» (رواه البخاري: 3856).

صبره صلى الله عليه وسلم على المنافقين:
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا عليه إكَاف، تحته قطيفة فدَكِيَّة، وأردف وراءه أسامة، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين وعبدة الأوثان واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قال: فلما غشيت المجلس عجاجة» (العجاج: الغبار. انظر: لسان العرب لابن منظور: 2/319) «الدَّابة، خمَّر عبد الله بن أبي أنفه، ثم قال: لا تغبِّروا» (غبره تغبيرا: لطخه بالغبار. انظر: تاج العروس للزبيدي: 13/190) «علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء -يريد النبي صلى الله عليه وسلم- لا أحسن من هذا، إن كان ما تقول حقًّا فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك، قال: فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود حتى همُّوا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال: أي سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبي- قال كذا وكذا؟ فقال سعد رضي الله عنه: اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحيرة أن يتوجوه فيعصِّبوه بالعصابة -أي يجعلوه ملكًا عليهم- فلما ردَّ الله ذلك بالحقِّ الذي أعطاكه شرق» (الشرق: الشجا والغصة. انظر: لسان العرب لابن منظور: 10/177) «بذلك، فلذلك فعل به ما رأيت، قال: فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم» (رواه البخاري: 6254، ومسلم: 1798).

صبره صلى الله عليه وسلم على مشاق الحياة وشدتها:
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة: "ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: ما كان يُعيِّشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح (منائح جمع منيحة، وهي كعطية لفظا ومعنى. انظر: فتح الباري لابن حجر: 5/199)، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه" (رواه البخاري: 6459).

وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أخفت في الله، وما يخاف أحد، وقد أوذيت في الله، وما يُؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال» (رواه الترمذي: 2472، وابن ماجه: 151، وأحمد: 3/286، 14087 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب. وصححه ابن القيم في (عدة الصابرين) (1/299)، والألباني في (صحيح الترمذي): 2472).

صبره صلى الله عليه وسلم على فقد الأولاد والأحباب:
فمات عمه أبو طالب، وتوفيت زوجته خديجة، وتوفي أولاده كلهم في حياته إلا فاطمة، وقتل عمه حمزة، فصلوات ربي وسلامه عليه. 
 

المصدر: الدرر السنية