فرنسا وإعادة غزو إفريقيا
لا شك أن هناك مصالح إستراتيجية واقتصادية هائلة لفرنسا في مالي، طبقاً لتصريح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في 14 يناير/كانون الثاني 2013 يقول فيه: "لقد كانت المصالح الأساسية بالنسبة لنا ولأوروبا ولأفريقيا على المحك، لذلك كان علينا التحرك بسرعة". وعلى رأس تلك المصالح الفرنسية مسألة الوصول إلى اليورانيوم في الصحراء الإفريقية.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
يطرح توقيت القرار الفرنسي بالتَّدخل العسكري في شمال مالي العديد من التساؤلات حول أبعاده ودلالاته المختلفة. لقد كانت دوائر الأمم المتحدة التي اتخذت قراراً بتفويض الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "الإيكواس" بالتدخل العسكري في مالي تتوقع بداية وصول القوات الإفريقية في نهاية 2013. فما الذي حدث ودفع فرنسا إلى استباق الجهود الدولية وإعلان التدخل العسكري المنفرد في مالي؟
لا أظن أننا بحاجة لمراجعة تاريخ الفرنكفونية في سياقها الأفريقي لفهم حقيقة هذا الموقف الفرنسي من أزمة مالي والصحراء الأفريقية؛ إذ لا يخفى أن فرنسا على عكس القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى حافظت على علاقات ثقافية واقتصادية وعسكرية وطيدة مع مستعمراتها السابقة في إفريقيا. وتشير بعض التقارير إلى أن فرنسا تدخلت عسكرياً في إفريقيا نحو خمسين مرة منذ عام 1960.
إن أزمة شعب الطوارق تتجاوز إشكالية الَّتطرف الإسلامي التي تمثله جماعات مرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لتُعبِّر في جوهرها عن مشكلات الفقر والتهميش والرغبة في التَّحرر الوطني.
لقد حارب الطوارق أربع حروب منذ استقلال مالي عام 1960 ويسعى كثير منهم إلى تأسيس دولة أزواد الحرة المستقلة. على أن المشكلة أعقد من ذلك بكثير حيث تشعر كثير من الجماعات العِرقية الأخرى بالظلم والتهميش الذي مارسته الحكومات المتعاقبة في باماكو ضد أبناء شمال مالي بشكلٍ عام.
متلازمة نابليون:
ثمة أمور انتخابية خاصة بالداخل الفرنسي يمكن أن تفسر -ولو جزئياً- توقيت القرار الفرنسي بالتدخل في مالي. فالرئيس فرنسوا هولاند يحاول جاهداً تغيير الصورة النمطية له بأنه قائدٌ لين غير قادر على اتخاذ قرارات صعبة. ولعل استحضار أعراض "متلازمة نابليون" Napoleon syndromeالتي تعني محاولة الرجل الذي يشعر بالنقص اتخاذ قرارات خطيرة يفسر لنا سر التَّحول في موقف الرئيس هولاند الذي كان معارضاً من قبل للتدخل الفرنسي في أفريقيا. لقد أضحت فرنسا في ظل حكم الاشتراكي هولاند مثقلةً بأعباء الركود الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة والإجراءات التقشفية.
وأحسب أن العام 2013 الذي شهد التدخل العسكري في مالي يشبه إلى حدٍ كبير عام 1798 الذي شهد غزو نابليون بونابرت لمصر. لم تكن الحملة الفرنسية في ذلك الوقت مؤلفةً من الجنود فقط وإنما ضمت جيشاً من العلماء والباحثين لإظهار الجانب الخيري والتحرري للفرنسيين. بيد أن الرسالة النابليونية التي رفعت شعارات الحرية والتحرر من الظلم والقهر سرعان ما أدت إلى إراقة الدماء واستعباد المواطنين.
ألم يُدنس نابليون الأزهر الشريف عندما دخل ساحته بخيوله؟! ولعل ما يثير العجب هو ما جاء في رسالة نابليون للشعب المصري عندما خاطب المشايخ والأئمة قائلاً: "قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في روما الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة الإسلام". وقد اختتم نابليون رسالته بالدعاء على المماليك والدعوة لإصلاح حال الدولة المصرية.
ولعل التاريخ لا يكرر نفسه. دائماً تتكرر الأخطاء بسبب عدم استيعاب دروس الماضي. فالنزاع في شمال مالي مرتبط بفشل الدولة في ليبيا بعد سقوط القذافي وتدفق الأسلحة والمقاتلين عبر الحدود.
كما أن الفعل الاستخبارتي والعسكري الغربي موجودٌ في منطقة الساحل الأفريقي وذلك بحجة محاربة الإرهاب. وقد تم تشويه صورة الإسلاميين في شمال مالي من خلال حملة إعلامية غربية ركزت على بعض الممارسات المناهضة لحقوق الإنسان مثل هدم القبور أو قطع يد السارق أو رجم الزاني وما إلى ذلك.
ولا أظن أن التدخل الفرنسي والدولي في مالي سوف يفضي إلى تأسيس دولة ديمقراطية تماماً مثلما كان يزعم نابليون في مصر، لكنه قد يعيد مرة ًأخرى متلازمة نابليون. يقول رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومنيك دو فلبان الذي كان من أبرز مناهضي الغزو الأميركي للعراق: "إن هذه الحروب مثل تلك التي تشهدها مالي، لا تؤدي قط إلى بناء دولة ديمقراطية مستقلة، وإنما على العكس من ذلك تماماً فإنها تفضي إلى سيادة النزاعات الانفصالية وطغيان القانون الحديدي للمليشيات المسلحة والدولة الفاشلة".
الصراع من أجل اليورانيوم:
لا شك أن هناك مصالح إستراتيجية واقتصادية هائلة لفرنسا في مالي، طبقاً لتصريح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في 14 يناير/كانون الثاني 2013 يقول فيه: "لقد كانت المصالح الأساسية بالنسبة لنا ولأوروبا ولأفريقيا على المحك، لذلك كان علينا التحرك بسرعة".
ولعل على رأس تلك المصالح الفرنسية مسألة الوصول إلى اليورانيوم في الصحراء الإفريقية. إذ تعتمد فرنسا في تلبية نحو 75% من احتياجاتها من الكهرباء على الطاقة النووية. وهو ما يفسر اعتماد فرنسا الكبير على خام اليورانيوم، وتشير تقديرات الطاقة الدولية إلى أن صحراء شمال مالي وشرق النيجر تحتل المرتبة الثالثة في استحواذها على احتياطات اليورنيوم في العالم فضلاً عن امتلاكها لاحتياطات كبيرة من النفط الخام.
ويشير بعض المراقبين إلى أن شركة أريفا الفرنسية (Areva) ظلت على مدى قرون أربعة ماضية تهيمن على حقوق استغلال اليورانيوم في النيجر إلى أن قامت حكومة النيجر مؤخراً بمنح تراخيص للتنقيب لشركات هندية وصينية وأميركية وكندية وأسترالية.
وعليه فإن فرنسا لا تستطيع في ظل هذا التكالب الدولي على استغلال الموارد الطبيعية في الصحراء الأفريقية أن تتخلى عن نصيبها في احتياطيات اليورانيوم في شمال مالي. وما يُميّز هذه الغارة الأوروبية على إفريقيا عن مرحلة التكالب الاستعماري الأولى في نهاية القرن التاسع عشر أمران أساسيان:
أولهما: أن التنافس الراهن على الموارد الطبيعية قد تضمن توافقاً على اقتسام النفوذ والثروة في الدولة الواحدة. يعني ذلك أن اقتسام الثروة لا يكون عبر الحدود الإقليمية التي قسَّمت المستعمرات سابقاً ولكن يكون داخل حدود الدولة الواحدة. هنا يمكن الإشارة إلى أن التدخل العسكري الفرنسي في مالي قد وجد دعماً ومساندة أميركية وأوروبية. ويبدو أن القوى الأميركية الأوروبية لم تعد بحاجة إلى عقد مؤتمرات في باريس أو لندن أو برلين كما كان الحال في العهد الاستعماري التقليدي وإنما باتت تستخدم محفل الأمم المتحدة لتمرير قراراتها بعد إضفاء الجانب الإنساني عليها.
أما الأمر الثاني، وهو ملفت للنظر حقاً، فيشير إلى أن هذا التكالب الجديد على إفريقيا يتم بمساعدةٍ إفريقية. وقد حدث ذلك في الصومال وساحل العاج ويتكرر اليوم في مالي. ويبدو أن الروابط التاريخية التي تجمع بين فرنسا وغيرها من القوى الأوروبية ومستعمراتها الأفريقية السابقة قد جعلت الأفارقة يقومون بدور الحرب بالوكالة نيابة عن الآخرين.
وقد استغلت حاجة بعض النظم الإفريقية للمساعدات الغربية وكذلك خشيتها من تنامي النزاعات الإسلامية المتطرفة لدعم هذا التوجه الغربي الجديد في محاربة الإرهاب على الساحة الأفريقية.
ويمكن أن نشير هنا إلى حالات الشباب المجاهدين في الصومال وجماعة بوكو حرام في نيجريا وجماعة أنصار الدين في شمال مالي.
محاربة النفوذ الصيني:
لقد أضحت الصين بسياساتها البرغماتية تجاه إفريقيا أحد الفاعلين الرئيسيين في السياسة الإفريقية خلال العقد المنصرم. وقد تنامت الدعوات داخل كثير من الدول الأفريقية بضرورة "التوجه شرقاً" أي تدعيم العلاقة مع القوى الصاعدة الجديدة في آسيا مثل الصين والهند وماليزيا والتي لا تمتلك تاريخاً استعمارياً في أفريقيا.
وقد نشرت جريدة الإندبندت البريطانية في 15 يناير/كانون الثاني 2013 أن الحكومة الصينية قد منحت بضعة ملايين من الدولارات لحكومة مالي كمساعدات تنموية، فضلاً عن ذلك فقد تم توقيع اتفاقيات تعاون مشتركة بين حكومتي بكين وباماكو في مجالات الزراعة والصناعة والصحة والاتصالات والبنية الأساسية.
ولقد حصلت الصين خلال حكم الرئيس السابق أمادو توماني توري في عام 2010 على حق التعدين عن اليورانيوم في شمال مالي.
ولا شك أن الصين تحاول جاهدة الحفاظ على مصالحها التجارية والاقتصادية في الدول الأفريقية من خلال عدم تكرار الخطأ التي ارتكبته في ليبيا. إذ تشير بعض التقديرات إلى أن الصين فقدت نحو عشرين مليار دولار قيمة استثماراتها في ليبيا، ولعل ذلك يفسر لنا أسباب رفض الصين للتدخل الدولي في الحالة السورية.
كما أن الصين ترى أن التدخل العسكري في مالي قد يؤدي إلى عدم استقرار المنطقة ككل وهو ما يهدد مصالحها هناك. ويبدو أن ثمة ذعراً غربياً من تزايد النفوذ الصيني في إفريقيا بشكلٍ عام حيث إن أحد أهداف القيادة العسكرية الأميركية الجديدة في إفريقيا التي أنشئت عام 2007 هو محاربة الوجود الصيني على الساحة الأفريقية. وعليه فإن أحد الأهداف الكبرى للتدخل الفرنسي في مالي ربما يتمثل في قطع الطريق أمام تزايد النفوذ الصيني في سواحل الصحراء الأفريقية.
وأيا كان الأمر فإن التدخل الفرنسي في مالي سوف يؤدي إلى عدم استقرار المنطقة بشكل عام. وقد اتضح ذلك بجلاء في حالة اختطاف الرهائن الغربيين في عين أميناس بالجزائر.
ولعل ذلك يمثل مبرراً قوياً لاستمرار الوجود الفرنسي والغربي في المنطقة؛ إذ علينا أن نتذكر خبرة السنوات القليلة الماضية التي شهدت تدخلاً فرنسياً في ساحل العاج وتشاد وأفريقيا الوسطى فضلاً عن المعسكرات الفرنسية في مناطق أفريقية أخرى مثل جيبوتي، وهو ما يعني أن فرنسا تتدخل في مستعمراتها السابقة لتبقى ولتدافع عن مصالحها الإستراتيجية.
وقد يتعين عليها في حالات معينة استبدال قواتها النظامية بمجموعات من المتعاقدين والمستشارين الذين يكونون في العادة من بين العسكريين السابقين، وذلك للعمل في الدول الأفريقية والحصول على امتيازات مالية ضخمة.
ولعل مكمن الخطورة في نزعة العسكرة الغربية للنزاعات التي يشهدها العالم الإسلامي أن تفضيل الحل العسكري والأمني على السياسي والدبلوماسي يؤدي إلى خلق المزيد من الأعداء ولا سيما بين الأجيال الجديدة التي ترى في هذا التدخل الغربي هجوماً على الإسلام والمسلمين، وهو ما يعني توفير البيئة الخصبة لنمو التوجهات الراديكالية المتطرفة المعادية للغرب وللحكومات الوطنية المتحالفة معهم.
حمدي عبد الرحمن