المرأة الصالحة وابتلاء الأسرة

لن تنجح المرأة في المهمة التي تنتظرها إلا إذا اصبحت قدوة لأبنائها، وكلما ارتقت في عيونهم كان التقلييد فأفلحت التربية، كما تكون قدوة لأهل بيتها وجيرانها وأقاربها، والقدوة ليست بكلام يقال بل بعمل يقدم وصورة منيرة ساطعة فتتبع، وعلى المرأة المؤمنة إذا ضاق بها الحال تذكر غيرها اللاتي هن أشد منها بلاء، فمن نظر إلى بلاء غيره هانت عليه مصيبته وبلاؤه.

  • التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -

تجرعت القلوب المؤمنة الابتلاءات، فلم يترك الابتلاء بابا إلا ودق عليه، فهذه سنة الرسل والأنبياء والصحابة والتابعين، إذ قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]، وأكمل الناس إيمانا أشدهم ابتلاء، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس بلاء؟ قال: «" أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» (أخرجه: الإمام أحمد، وغيره).

ونود ها هنا أن نتحدث عن نوع خاص من الابتلاء قل من تعرض له واهتم به، هو ابتلاء الأسرة، قد تعددت الصور التي تبتلى بها الأسرة، من غياب الزوج، أو مرض الأبناء، أو الفقر، أو المشكلات العائلية مع الآخرين، أو البعد عن الأهل والديار، أو غيرها من الابتلاءات..، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة » (صحيح الترمذي: 2399).

وتختلف ردود الأفعال من كل أسرة تجاه ما تبتلى به، فبعضها ينكسر وربما تسبب بلاؤها في تفرقها وتشرذمها، أو في انحراف بعض أفرادها -وغالبا ما يقع هذا على الأبناء-، وربما كان بلاؤها سببا في ثباتها وصمودها ونجاحها وإنجازها، وتقدم أفرادها على المستوى الإيماني بل والمستوى الحياتي ايضا، ولنا ابتداء أن نعلم أن كل هذه الابتلاءات إنما هي مجرد عواصف تهز الأسرة، فتأخذ وقتها ولا بد أن تهدأ او تنجلي، فإذا كانت القلوب ضعيفة فقد تكون عرضه وصيدا ثمينا أمام الشيطان، وإن كانت القلوب قوية كان الثبات وصفها وحالها وكان القرب إلى الله سبيلها..

ووددت باختصار أن أقف على عدة نقاط أراها هامة لكل أسرة نالها شيء من الابتلاء..
 

أولا: (الصبر):

فلا تجزع بل تثبت، وتحتسب أجرها عند الله، فهذه الشدائد تبين دور الزوجة الصالحة من غيرها، وتظهر عن معدنها النبيل، وأصلها الطيب الصادق، فالله تعالى يحب ويبشر الصابرين، والصبر درجة عالية لا ينالها إلا من وفقه الله، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي ابنا لها على قبره، فقال لها: «اتق الله واصبري» (أخرجه مسلم)، ولما أرسلت ابنته زينب له صلى الله عليه وسلم أن ابنها يحتضر قال لها:" «إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فاتق الله واصبري» (أخرجه البخاري)، وقرين الصبر الاحتساب، وإيكال أمرها لربها وذلك عندما تسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يُصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» (رواه البخاري)، وفي هذا تكفير للذنوب ومحو للسيئات ورفع للدرجات ونيل المنزلة في الآخرة، فالصبر والاحتساب هو ما يهون البلاء.

ثانيا: (الرضا):

والمقصود ها هنا الرضا بقضاء الله سبحانه، إذ نصح النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي ذكرنا أنها فقدت ابنا لها فقال لها: «..إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (صحيح البخاري: 1283)، إنه الرضا الذي يجعل عندها القليل كثير، فكلما اشتد ضيقها حمدت الله بقلب راض، حينئذ تشعر بالراحة وسعة الصدر والتفاؤل فإنها تعلم أن ما عند الله خير، يقول صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (صحيح مسلم: 2999)، وأعلم جيدا أن مرتبة الرضا مرتبة قد تشق على كثيرات من النساء، لكنها أيضا تسهل وتتيسر على كل صالحة وثقت في موعود ربها سبحانه، وفي بشارة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن الرضا في الملمات والأزمات يذيق المرء طعم الإيمان ويصلب عوده، ويجيزه من العقبات، ومن الرضا عدم الشكوى للناس، والقناعة بالقليل، والاستبشار بالقادم.

ثالثا: (الإيجابية):

وأقصد بها ها هنا عدم الاستسلام للانكسار، أو الركون للقعود، أو انتظار الهموم، فهنا تظهر حقيقة المرأة الصالحة في الصعاب والأزمات، فلا تجلس تنوح وتبكي حظها ولا يأخذها القلق، ولا تستبد بها الرجفة، ولا يلفها القنوط، ولا يحاصرها الحزن مهما شعرت به، ولكن يكون تفاعلها مع الأزمة هو التفاعل الإيجابي، تفاعل يدفعها ويحركها نحو فضائل الأعمال وفضائل المواقف، تفاعل لا يجمد أعضاءها بل تستقبل البلاء بإيجابية الثبات، وتقوم بدورها على أكمل وجه وأفضل ما ينبغي، وربما كان في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الزوجة إشارة إلى ذلك، إذ يقول: «..إذا غاب عنها حفظته في ماله وعرضه» (الجامع الصغير: 1774، صحيح)، ولننصح المرأة ها هنا عند الأزمات أن تبدي الصلابة في المواقف، وأن تزيد أكثر وأكثر من وقارها في بيتها ومن حشمتها، ومن انكبابها على أسرتها، وألا تفتح مجالا للغرباء أيا كانوا، وأن تستر حالها وحال بيتها مهما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

وقد استطاعت نساء صالحات مصلحات أن يضربن المثل في ذلك، فاعتمدن على الله سبحانه ثم بدأن بعملهن الخاص، وما صنعت أيديهن في قاع بيوتهن من صناعة أو حياكة أو كتابة أو تجارة أو غيره..، فنجحت منتجاتهن وراجت صناعتهن بمعونة ابنائهن وأخواتهن، بينما هن يحتفظن بكل ما يرضي ربهن ويحفظ عرضهن ويرعى شأن أسرهن، وقد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم تلك الإيجابية والتفاعلية في شتى المواقف، فيروي عنه أنس رضي الله عنه يقول: «كان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل..» (أخرجه البخاري).

رابعا: (تربية أبنائها):

وهنا تظهر صورة المرأة المؤمنة الصالحة المصلحة، فليس فقط مطلوبا منها أن تكون صالحة في نفسها بينما هي تهمل دورها المنوط بها، بل أيضا ينبغي عليها في الأزمات خصوصا أن تكون صالحة مصلحة، تلك التي تقف وتصمد أمام الرياح، وتواجه كل العقبات، وتقف وقفة شامخة تربي أبناءها التربية التي ترضي الله تعالى وتجد ثمرة هذه التربية في صلاح أبنائها وتميزهم عن غيرهم، وذلك بتوفيق الله تعالى لها لأنها استمدت العون من الله تعالى حينما اتجهت لرعاية أبنائها فهو سبحانه يتولى الصالحين.

وأنصح المرأة الصالحة ها هنا أن تبدي أمام أبنائها الصلابة، وأن تستعمل الحزم وتغلبه على اللين، فالأبناء إذا فقدوا أباهم أو غاب عنهم مال أكثرهم على إثبات ذاته بالقوة والتصميم على الرأي، وهنا يجب أن تبدي الأم موقفا قويا حتى لا تنكسر إرادتها أمام ابنائها، كما أنصحها أن تبدي أمام الآخرين الثبات مهما كانت متألمة، وتجعل شكواها لربها فحسب، فهو كافيها ومفرج كربتها.

خامسا: (توطيد الصلة بالله سبحانه):

فإذا اشتد الضيق ضيقا والهم هما والحزن حزنا، فالخروج من كل ذلك هو بفرارها إلى الله تعالى، ذلك الذي يخفف عنها الكثير ولا يشعرها بالتعب مهما كانت مدته، وتتسم المرأة الصالحة عند نزول البلاء بها بعدم الشكوى إلا لله تعالى، فالمشاكل قد تزداد عليها الواحدة بعد الأخرى والأعباء تتزايد، وعليها في غمرة كل هذه الصعاب ألا تعجز، بل ترفع رأسها إلى السماء تنادي وتناجي مالك الملك، القادر المعين، فإليه المشتكى وحده، ومنه العون سبحانه الذي يجيب دعوة المضطر فهو سبحانه قريب..

سادسا: (حرصها أن تكون قدوة):


لن تنجح المرأة في المهمة التي تنتظرها إلا إذا اصبحت قدوة لأبنائها، وكلما ارتقت في عيونهم كان التقلييد فأفلحت التربية، كما تكون قدوة لأهل بيتها وجيرانها وأقاربها، والقدوة ليست بكلام يقال بل بعمل يقدم وصورة منيرة ساطعة فتتبع، وعلى المرأة المؤمنة إذا ضاق بها الحال تذكر غيرها اللاتي هن أشد منها بلاء، فمن نظر إلى بلاء غيره هانت عليه مصيبته وبلاؤه، وتذكر أهل الشقاء والمحرومين وشعر بآلامهم.

وبالعموم على المرأة الصالحة أن تعلم أن الله تعالى يمحص الناس في الابتلاء، ويختارهم ويعلمهم، فيظهر نفاق المنافق وكذب الكاذب، وكذلك يظهر ويتضح إيمان المؤمن قال تعالى: {وَلِيُمَحِّص اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَق الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، قال ابن القيم رحمه الله: "إن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها، فيظهر بالامتحان طيبها وخبيثها، ومن يصلح لموالاته وكرامته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة، فقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية، فإذا خرج في هذا الدار وإلا ففي كير جهنم، فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة"، و سنة الله الجارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ فَلَيَعْلَمَن اللَّه الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَن الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].
 

 

أميمة الجابر