أزمة أوكرانيا وخليج الخنازير
معادلة الأزمة الأوكرانية ليست معادلة صفرية، فلا الروس جادين في تمزيق وحدة الأراضي الأوكرانية بتكرار تجربة جورجيا 2008، ولا الغرب جاد في إنهاء النفوذ الروسي في أوكرانيا، والأقرب أن صيغة تفاهم مقبولة ستحسم الصراع بين الأطراف كلها
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
90 دقيقة كاملة هي مدة المكالمة الهاتفية التي دارت بين الرئيس الأمريكي (أوباما) ونظيره الروسي (بوتين) كانت عبارة عن شد وجذب وتهديدات مبطنة وتلميحات وتصريحات عن مغبة الاجتياح الروسي لأراضي شبه جزيرة القرم الواقعة في جنوب أوكرانيا، في إشارة قوية على نشوب أزمة عالمية جديدة قد تؤدي لأسوأ كوابيس البشرية المعاصرة، ألا وهي اندلاع حرب شاملة بين بقايا المعسكر الشرقي ممثلًا في روسيا والمعسكر الغربي ممثلًا في أوروبا وأمريكا. هذه الأجواء الملتهبة والمتصاعدة أعادت للأذهان واحدة من أسوأ الأزمات العالمية التي وقعت في ستينيات القرن المنصرم، إلا وهي أزمة الصواريخ الروسية في خليج الخنازير جنوب كوبا والتي كادت أن سببًا في نشوب حرب نووية بين الاتحاد السوفيتي سابقًا والولايات المتحدة في أكتوبر سنة 1962م. فهل تتحول أوكرانيا إلى خليج خنازير جديد ولكن بطبعة معاصرة في قلب العالم القديم؛ أوروبا الشرقية؟
الأجواء التي أدت لنشوب أزمة خليج الخنازير في الستينيات قريبة الشبه من الأسباب التي تحدث في أوكرانيا الآن، فأمريكا عبر وكالة المخابرات المركزية حاولت إجهاض النظام الكوبي الجديد الموالي للروس من خلال تمويل عمليات قتالية تقوم بها مجموعات كوبية من المعارضين المهاجرين بأمريكا، وقد أمر كنيدي في أبريل سنة 1961م بتنفيذ العملية السرية (زاباتا) بخليج الخنازير جنوب كوبا، غير أن العملية قد أجهضت وتعرضت لهزيمة ساحقة على يد القوات الكوبية الحكومية، واتضح أن المخابرات الروسية قد نقلت تفاصيل العملية للرئيس الكوبي (كاسترو) فاستعد الكوبيون للهجوم وأنزلوا بالأمريكان وحلفائهم هزيمة ساحقة. وبعد ذلك بشهور قام الروس بنشر منصات صواريخ نووية على السواحل الكوبية مداها يصل لمعظم الأراضي الأمريكية، فقامت أمريكا بفرض حصار بحري وبري على كوبا ونشر صواريخها النووية باتجاه الأراضي الروسية والكوبية، وبلغ التوتر والتهديد مداه، وحبس العالم أنفاسه بعد أن أصبح على شفير حرب عالمية نووية، وانتهج الأمريكان إستراتيجية (حافة الهاوية) لإجبار السوفيت على التراجع، وبعد أسبوعين من حبس الأنفاس تم التوصل لاتفاق ينهي الأزمة بين الجانبين.
أوكرانيا لها خصوصية جغرافية وسكانية واستراتيجية تجعلها من البقاع المسحورة في العالم، حيث أنها تقوم بدور الدولة الحاجزة بين أوروبا والاتحاد السوفيتي، بل اسم أوكرانيا في اللغة الأوكرانية يعني (الحافة) أو (التخوم) فهي بمثابة حافة أوروبا الشرقية وبوابتها إلى العالم الغربي ممثلاً في أوروبا الغربية، وفي أغلب تاريخها، انقسمت أوكرانيا بين الإمبراطوريات الروسية، النمساوية الهنغارية، والبولندية الليتوانية. وإن كان لروسيا ثلاث بوابات رئيسية: وسط أسيا، والقوقاز، وأوكرانيا، فإن الأخيرة هي أخطرها على الإطلاق. وعبر السهل الأوكراني، مرت الجيوش الأوروبية الغازية لروسيا في حربين فادحتين وبالغتي الأثر على رؤية الروس القومية لذاتهم وعلى رؤيتهم لشروط بلادهم الجغرافية السياسية: الحرب النابليونية والحرب الألمانية النازية. هذه من وجهة النظر الروسية، أما من وجهة النظر الغربية فأوكرانيا، مساحة وسكاناً، شديدة الأهمية والحساسية، فهي أكبر دولة أوروبية خارج الاتحاد الأوروبي، الذي يسعى لأن يكون الإطار المستقبلي للقارة، ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وخارج حلف الناتو، الإطار الأمني للكتلة الغربية. وتعتبر أوكرانيا الممر الرئيسي، حتى الآن، لأنابيب النفط والغاز الروسي إلى أوروبا الغربية. لو كانت أوكرانيا دولة مستقرة ومزدهرة اقتصادياً، ودولة مستقلة بالفعل، كما النمسا وسويسرا، مثلاً، لما بلغ الاهتمام الغربي الأوروبي بها ما بلغه خلال السنوات الأخيرة.
المشكلة الأوكرانية في الأساس ترجع لوجود أثنية ثقافية ولغوية وقومية داخل هذه البلاد الإستراتيجية، فالشرق والجنوب -القريب من روسيا- تغلب القومية الروسية والناطقين بها على ما سواها من قوميات أخرى خاصة القومية الأوكرانية والقومية التترية المسلمة، أما في غرب أوكرانيا -القريب من أوروبا الغربية- مهد القومية الأوكرانية فلا صوت أو لغة تعلو فوق اللغة والهوية والقومية الأوكرانية المعروفة بعدائها الشديد للروس، ومن ثم كان الصراع في أوكرانيا في الأساس بين القومية الروسية والقومية الأوكرانية، ثم دخلت لعبة المصالح الاقتصادية والصراع على النفوذ والهيمنة والسيطرة على هذا البلد الاستراتيجي كواجهة لهذا الصراع، ولكنه وقوده الأصلي هو القومية والهوية.
روسيا لها خطوط حمراء في الملف الأوكراني ظلت محتفظة برباطة جأشها مادامت أحداث أوكرانيا وتطوراتها لم تطل هذه الخطوط الحمراء، ولكن مع الإطاحة بحليفها المقرب (يانكوفيتش) من رئاسة أوكرانيا ووصول القوميين الأوكرانيين لمقاليد الأمور في كييف، وارتفاع نبرة العداء ضد القومية الروسية لدرجة إعلان (فيتالي كليتشكو) رئيس حزب (أودار) والمرشح الأوفر حظاً للرئاسة بضرورة طرد الأسطول الروسي من ميناء سيفاستوبل المطل على جزيرة القرم مركز الأسطول الروسي على البحر الأسود، وإلغاء معاهدة الصداقة الأوكرانية الروسية، أضف إلى ذلك الدعم الغربي والأوروبي الواضح للثوار القوميين في أوكرانيا، شعرت روسيا بانتهاك خطوطها الحمراء، فهبت بقوة بعد فترة قصيرة من الصمت والحذر تجاه الثورة الأوكرانية، لمواجهة الشطط القومي الأوكراني والنفوذ الأوروبي المتنامي في بلد كان ومازال الروس ينظرون إليه على أنه الفناء الخلفي للأمة الروسية العريقة، وأهم بوابة للعبور الروسي عسكريًا واقتصاديًا.
التحركات الروسية جاءت بصورة عدها الأوروبيون والأمريكان تصعيدًا غير مبررًا في أزمة ما زال الروس هم الأكثر سيطرة واحتفاظًا بأوراق ضغط فيها من غيرهم، فغير ملايين الناطقين بالروسية، وغير القوات العسكرية الروسية الضخمة المتمركزة في القرم والبحر الأسود، ما زالت روسيا هي اللاعب الأكبر في أوكرانيا، فصنابير الغاز الروسي تستطيع أن تحسم الأزمة بكبسة زر تغلقها على أوكرانيا وأوروبا الغربية، والاقتصاد الأوكراني المتداعي والمعتمد بصورة كبيرة على المعونات الروسية لن يحتمل قسوة القطيعة الروسية، كما لن يحتمل الاتحاد الأوروبي نفسه كفالة دولة متعثرة، وبعض دوله مثل اليونان تعاني من أزمات اقتصادية عنيفة منذ سنوات، من ثم لم يكن التهديد العسكري الروسي المباشر مبررًا من وجهة النظر الأمريكية والأوروبية، لذلك قررتا مواجهة التصعيد بالتهديد، وردًا على التحركات الروسية، عقد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الاثنين اجتماعًا طارئًا ببروكسل بعد سلسلة من التحذيرات لموسكو صدرت عن دول أوروبية كبرى وكذلك عن الولايات المتحدة. وقد أجرى وزير الدفاع الأميركي تشاك هيجل السبت اتصالًا هاتفًيا مع نظيره الروسي سيرجي شويجو بحثا خلاله أزمة أوكرانيا، وكانت واشنطن حذرت موسكو من (كلفة باهظة) لتدخل عسكري محتمل في أوكرانيا، ولوحت بمقاطعة قمة مجموعة الثماني المقرر أن تستضيفها مدينة سوتشي الروسية الصيف المقبل.وقد حثت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون موسكو على عدم إرسال قوات إلى أوكرانيا والالتزام بالقانون الدولي، بينما قال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إن التفويض الصادر عن مجلس الاتحاد الروسي لنشر قوات روسية بأوكرانيا يمثل تهديدًا لوحدة أراضي هذا البلد وسيادته. كما عبرت ألمانيا وبريطانيا عن قلقها من تلويح روسيا بالقوة، وحثتها على احترام سيادة أوكرانيا ووحدتها. وفي الوقت نفسه استدعت الخارجية البريطانية سفير روسيا لإبلاغه هذا الموقف. من جهته دعا وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير روسيا إلى توضيح نياتها فيما يتعلق بإرسال قوات إلى منطقة القرم، معتبرًا أن الوضع أصبح خطيرًا جدًا.
معادلة الأزمة الأوكرانية ليست معادلة صفرية، فلا الروس جادين في تمزيق وحدة الأراضي الأوكرانية بتكرار تجربة جورجيا 2008، ولا الغرب جاد في إنهاء النفوذ الروسي في أوكرانيا، والأقرب أن صيغة تفاهم مقبولة ستحسم الصراع بين الأطراف كلها، ولكن رغم ذلك فالأزمة الأوكرانية مرشحة للتصعيد وبقوة، فالروس يريدون إبقاء البلد في نفس المربع الذي ظلت تشغله لعقود وربما لقرون متتالية، دون اعتبار لمستجدات الثورة الأوكرانية، يريدون إبقاءه بوابة للمصالح والنفوذ الروسي، فناء خلفيًا لبقايا الإمبراطورية السوفيتية، إبقاءه ميدانا للقومية الروسية تنفس فيه عن رغباتهم المكبوتة في استعادة أمجاد الماضي. في حين أن الغرب لا يريد أن يكرر ما حدث في جورجيا سنة 2008 عندما اجتاحت القوات الروسية جورجيا واقتطعت منه إقليمي أبخازيا وأوستنيا الجنوبية، ولم يستطع الغرب أو يشأ بالأدق من فعل شيء لوقف العدوان الروسي على جورجيا. كما لا يريد الغرب رؤية شيشنة لأوكرانيا عبر التدخل في القرم وتحريضه على الانفصال، لذلك كله فالأزمة الأوكرانية مرشحة بقوة لمزيد من التصعيد في ظل ارتفاع سقف التهديدات والتحذيرات، وعلو صوت القوميات المتصارعة. فهل تنجح استراتيجيات القرن المنصرم في حل مشكلات القرن الحالي؟ وهل تنجح استراتيجية حافة الهاوية، والتهديد والتصعيد مع الدب الروسي الذي يرى خطوطه الحمراء قد انتهكت ومجالاته الإستراتيجية قد اخترقت؟ عمومًا آخر ما يحتاجه العالم اليوم هو خليج خنازير جديد وفي بقعة مثل أوكرانيا.