الانتماء وعدم الانتماء

محمد المصري

في الحقيقة هناك أمور تحتاج لمعالجة عملية أكثر منها معالجة نظرية، وحتى المعالجة النظرية إن طلبت فإنها تتطلب أن تكون على قدر كافٍ غير مُخِلّ للمعالجة، وهذا ما لا أزعمه لهذه الدراسة التي أقدم لها، فأعتقد أنها مجرد فتح لهذا الموضوع وليس معالجة شاملة كافية للمشكلة محل الدراسة، ولكن لن يعيقني هذا على الكتابة في هذا الموضوع فحسبي بذل الوسع ما استطعت إلى ذلك.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد،

في الحقيقة هناك أمور تحتاج لمعالجة عملية أكثر منها معالجة نظرية، وحتى المعالجة النظرية إن طلبت فإنها تتطلب أن تكون على قدر كافٍ غير مُخِلّ للمعالجة، وهذا ما لا أزعمه لهذه الدراسة  التي أقدم لها، فأعتقد أنها مجرد فتح لهذا الموضوع وليس معالجة شاملة كافية للمشكلة محل الدراسة، ولكن لن يعيقني هذا على الكتابة في هذا الموضوع فحسبي بذل الوسع ما استطعت إلى ذلك.

المشكلة محل الدراسة:

- حدوث التباس في مفهوم (الانتماء وعدم الانتماء) لدى بعض العاملين في حقل الدعوة والعمل الإسلامي.
فيؤدي عدم وضوح هذا المفهوم لدى بعض الأشخاص الذين يحملون همُّ الدعوة ويحبون أن تنتظم حياتهم في ظل عمل جماعي يحمل نفس مفاهيمهم التي يحملونها لنشر الدعوة والعمل للتمكين للدين ولكنهم لا يجدون احتضان أو استيعاب لهم في هذا الإطار الجماعي لأي ظرف من الظروف، فنجد أن هؤلاء الأشخاص الذين لا يجدون هذا الحضن  تتنازعهم إشكالية نفسية مضمونها قضية (الانتماء وعدم الانتماء ) للعمل.

وتؤدي هذه الإشكالية النفسية إلى تحوّل بعض هذه  الشخصيات إما إلى شخصيات (متقزمة) لا ترى لنفسها أي دور أو أي فائدة طالما انها غير مستوعبة في العمل أو تتحول إلى شخصيات (موتورة) ينصب هدفها إلى تشويه صورة العمل أو القائمين عليه ورميهم بكل النقائص والسباب، وقليل من هؤلاء الشخصيات من تتحول إلى (شخصيات منفردة مبادرة) أو فيما نستطيع أن نطلق عليه (الشخصية الأمة )،فقد يكون الشخص الواحد بأمة حينما يحمل الحق ويصدع به واضحًا جليًا، كما في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل من الآية:170]، وكلمة {أُمَّةً} تأتي لعدة معانٍ: "منها (الجماعة)، ومنها (الرجل الجامع لخصال الخير حتى يقوم مقام أمة من الناس" ((دعوة إبراهيم عليه السلام) محمد الخضيري، مجلة البيان العدد [66]).

مفهوم الانتماء من المنظور النفسي والاجتماعي: 
الانتماء ((Belongingness بمفهومه البسيط يعني الارتباط والانسجام والإيمان مع المنتمي إليه وبه، وعندما يفتقد الانتماء لذلك فهذا يعني أن به خللًا ومع هذا الخلل تسقط صفة الانتماء.

الانتماء كمفهوم ينتمي إلى المفاهيم النفسية الاجتماعية ويعني الاقتراب والاستمتاع بالتعاون أو التبادل مع آخر وفي الحقيقة أن دافع الانتماء (الجوع الاجتماعي)، ويعرف الانتماء بأنه "النزعة التي تدفع الفرد للدخول في إطار اجتماعي فكري معين بما يقتضيه هذا من التزام بمعايير وقواعد هذا الإطار وبنصرته والدفاع عنه في مقابل غيره من الأطر الاجتماعية والفكرية الأخرى، وورد في معجم العلوم الاجتماعية أن الانتماء هو ارتباط الفرد بجماعة؛ حيث يرغب الفرد في الانتماء إلى جماعة قوية يتقمص شخصيتها ويوحد نفسه بها مثل الأسرة أو النادي أو الشركة" ((الانتماء) د. صابر أحمد عبد الباقي).

ولكن هنا حقيقة وهي ما أتبناها في مبحثي هذا ألا وهي أن "أنقى حالات الانتماء وأرقاها، الانتماء الفكري والذي يتجاوز بمضمونه كل الحالات الأخرى، والتواصل على هذا الأساس له جذوره وقوته أكثر بكثير من الحالات الأخرى" ((الانتماء) د. صابر أحمد عبد الباقي).


وللمعالجة التربوية لإشكالية (الانتماء وعدم الانتماء) ينبغي تحرير عدّة نقاط ومنها:

1- كيف تنظر إلى نفسك:

"إنَّ أول ما على المرء أن يفعله هو تلمُّس أبعاد الصورة التي كوَّنها عن نفسه من خلال تربية الآباء والمدرسين، ومن خلال الرؤية الاجتماعية للبيئة التي نشأ فيها؛ إذ كثيرًا ما تكون تلك الصورة زائفة أو مشوَّهة، فبعض الناس لا يرى في نفسه سوى الضعف والعجز، فهو في نظر نفسه لا يصلح لأي شيء! وبعض الناس معجب بنفسه مع تقصيره في بعض الواجبات الأساسية، وبعض الناس تعرض لضغوط نفسية، ومعاملة قاسية، فنشأ وهو لا يعرف سوى الرضوخ والخضوع والسلبية؛ فهو دائمًا إمَّعة، لا يعرف للمبادرة الفردية أي معنى" (دكتور عبد الكريم بكار (اكتشاف الذات) ص [46]).

فالشخص الذي يحمل رؤية صحيحة وإن قصر البعض معه فلابد أن يشعر أن لديه شيء يضيفه وانه ليس عالة على أحد، وأنه بذل ما في وسعه ليعمل في إطار جماعي ولكن ربما لم تسنح له الفرصة لذلك، ولكن "عندما يشعر الأفراد في أي أمة أنهم غير قادرين على العطاء، فإنما هم بذلك يصدرون حكمًا بالإعدام على أنفسهم ومجتمعهم، شاءوا أم أبوا" (د. شاكر بن عبد الرحمن السروي (أنت قادر على العطاء)، مجلة البيان العدد [135]).

فالأمة في وقتنا الراهن تحتاج إلى أشخاص يحملون زمام المبادرة بأنفسهم غير منتظرين أن يسلك الطريق سواهم... وذلك في كل مجال من شأنه رفعة الأمة وعزتها وإخراجها من هذا النفق المظلم الذي تسير فيه. (محمد بن سعد الخالدي (المبادرات الذاتية وتنميتها)، مجلة البيان العدد [130]).

ولندرك جميعًا "إن من أشد أنواع الجهل خطورة: جهل الإنسان بنفسه؛ لأنه يسبب له الكثير من الارتباك، ويشوه تعامله مع الله جلَّ وعلا، ومع الناس، كما يحرمه من معرفة الفرص المتاحة له، والأخطار التي تهدده" (دكتور عبد الكريم بكار (اكتشاف الذات)).

2- وضوح مفهوم أهل السنة والجماعة:

والنقطة الثانية التي أرى أنها ذات أهمية كبيرة أيضًا ولابد من تحريرها هي مفهوم جماعة أهل السنة والجماعة، فجماعة أهل السنة هي الجماعة العامة الواسعة، وهي تضم الآن كل من لم ينحرفوا عن طريق (أهل السنة والجماعة) إلى مناهج أهل البدع الضالين، تضم كل هؤلاء دونما شرط أن يجمعهم اسم واحد أو حزب واحد!

وراية (أهل السنة والجماعة) هي الراية التي ينضوي تحتها المخلصون أفرادًا وجماعات، الراغبون في العمل من أجل الإسلام مهما كانت انتماءاتهم... ثم نوزع فيما بيننا الأدوار، أدوار الأفراد وأدوار الجماعات لتقوم بمهمة التغيير المنشود. (د. محمد محمد بدري (تحت رؤية أهل السنة والجماعة)).

فليس نهاية المطاف أن لا تجد إطار موافق لك يجمعك فقد تعمل مع إطار توجد كثير من القواسم المشتركة بين أهدافك وأهدافه ولكن في نهاية الأمر ينضوي تحت راية أهل السنة والجماعة فحينئذ عدم العمل مع هذا الإطار أو الانفرادية في حد ذاتها مؤشر على (ثقافة الفرد) الواقع في هذه الثنائية من الانتماء وعدمه، فالذي يريد حقيقة العمل سيعمل ولا ينتظر الإطار الذي سيجعله يعمل، فرغبة العمل هي إرادة داخليه تحثه على العمل في أي موضع طالما كان هذا الموضوع يحبه الله ورسوله.

أما أن يكثر البعض من التبريرات لعدم عمله فهؤلاء يمكننا أن نطلق عليهم (أصحاب المنهج التبريري) "وهم الذين  يلهثون في البحث عن كبش الفداء لتبرير الفشل والانحسار ويتفننون في اختراع الأسباب لزحزحة المسؤولية عن عواتقهم وإلقائها على عاتق الغير من أعداء وظروف وغيرها" ((المنطق التبريري)، (الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة) دكتور محمد محمد بدري).

فإلى هؤلاء نقول عليكم بالعمل ودعكم من المبررات فإنه "بالعمل وحده نكتشف قدراتنا ومواهبنا ونقاط ضعفنا، كما نكتشف المحيط والوسط الذي نعمل فيه، ونكتشف ممانعة المواد التي نستخدمها إلى جانب اكتشاف العقبات والقوى المضادة، فرفع حجر من طريق فيه ألف حجر يجعل السير فيه بعد ذلك أسهل بنسبة واحد على ألف، فأنت ترى أن عبقرية العمل تتجلى في الأعمال الصغيرة كما تتجلى في الأعمال الكبيرة سواء بسواء" (دكتور عبد الكريم بكار (صحوة من أجل الصحوة) ص [166]).

وقبل خاتمة هذه النقطة أذكر الحكمة الصينية القائلة "إن الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا ينبغي له أن يفتح متجرًا".

3-الانتماء للفكرة وليس للأشخاص:

أولًا لابد أن نقرر علاقة هامة ألا وهي العلاقة بين النشاط العملي وطريقة التفكير فإن "لكل نشاط عملي علاقة مباشرة بالطريقة التي يفكر بها صاحبه، ويقدم الواقع شواهد عديدة على أن سلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا نجد أن المجتمعات تتقدم أو تتخلف تبعًا لنوعية الأفكار التي يعتنقها أفرادها" (دكتور محمد محمد بدري (الأمة الإسلامية من التبعية للريادة، الأفكار أساس التغيير)).

هذه المقدمة ضرورية لأنها توضح أن طريقة تفكير الشخص هي التي تقوده إما إلى العمل وإما إلى تلمس المعاذير لترك العمل ووجود شماعة جاهزة تعلق عليها الفشل وعدم العمل.

وفي الحقيقة أن الانتماء الحقيقي للفكرة الصحيحة هو الذي يدفعنا للعمل حتى وإن لم يوجد من يعاون من الأشخاص... فالأشخاص ما هم إلا أدلاء على الحق وليس هم الحق، فما وافق من كلامهم الحق أخذوا به وما لا فلا.

فامتلاء الشخص بفكرته يجعله يبذل لأجلها كل شيء وعندما يكون صادق في حملها يوفقه الله عز وجل لإيجاد أناس يحملون معه نفس الفكرة أو تجعل الإطار الرافض لاستيعابه يشعر بخطأ في تركهم مثل هؤلاء الشخصيات الذين يحملون الفكرة بجدية ويعملون لأجلها حتى وإن كانوا غير منتسبين لهذا العمل.

وأحب أن أختم هذه الجزئية بهذه الكلمة الموجزة وهي "إن الانتماء يكون فضيلة بل شيئا أساسيا في حياة الإنسان حين ينحاز المرء إلى الكليات والثوابت والمعطيات المتفق عليها وليس فقط إلى الشخصيات أو الإطارات للأشخاص ، فقد يوجد وللأسف أشخاصا يتمتعون بقدر كبير من الذكاء والفطنة، ومع هذا فقد كانت لهم أطروحات فجة وأقوال تدعو إلى العجب، وما ذلك إلا لأنهم منحوا العصمة لأشخاص غير معصومين"(دكتور عبد الكريم بكار (تكوين المفكر)).


وأخيرًا أقول لبعض من وقع في هذه الثنائية واستبد به اليأس وشعر بعدم قدرته على العطاء طالما لم يجد إطار يحتويه...

4- أنت قادر على العطاء:

إن مما يجدر بنا أن نستحضره في كل حين أنه لا أحد في المجتمع المسلم يمكن أن يوضع في خانة (غير قادر على العطاء)، بل الجميع يملكون شيئًا ما إن لم يكن أشياء يستطيعون من خلاله خدمة أمتهم. وهذا النسق الاجتماعي، قد قرره المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، والتزمته الأمة الإسلامية منذ فجرها الأول، فخطورة وأد الذوات وتحييدها عن العطاء لا يمكن تجاهله أو تناسيه، خاصة في هذه الحقبة التي يقبع فيها أهل الإسلام في مؤخرة الركب.  وإن هذا الخطر مما ينبغي تداركه وعلاجه حسمًا لداء المُواتِ الذي دبّ في أوصال الجسد الإسلامي المنهك. ((أنت قادر على العطاء)، د. شاكر بن عبد الرحمن السروي، مجلة البيان، العدد [135]، ببعض التصرف).

إن العمل لدين الله لا يجب أن توقفه على علة ما، بل اعمل وأنت على يقين بأن الله يراك ويسددك إلى الطريق الصحيح، فكثير من الأعمال قد تذهب سدى سواء أكانت جماعية أو فردية نتيجة تقزم بعض النفوس وتذرعها بعدم القدرة على العطاء... كرر في نفسك بأنك قادر على العطاء، ردد في حنايا نفسك بأنك قادر على العطاء.

إن الشعور باليأس قد يدفع صاحبه إلى إلصاق صفة (الأموات الأحياء) به، فبالحركة تجدد الحياة وطالما توفّر لدى الشخص أمل وعزيمة وإرادة فإن كثير من الأمور التي قد نراها مستحيلة مع العمل نراها أصبحت شيئًا ممكنًا، فحتى أضخم الأبواب مفاتيحها صغيرة، ولكن لابد من الإرادة والعزيمة وليس بالأمنيات ولا بالأحلام فقط تتحقق الأمور.

وكلمة للجميع، المنتمي وغير المنتمي:

إن مِنّا من يؤكد انتمائه للعمل الإسلامي، بينما هو يقف في مواقع الأخذ والاستهلاك دون أدنى عطاء أو عمل!
فإذا سألنا أحد عن دورنا في إحياء الأمة وعودتها إلى قيادة القافلة البشرية من جديد، أخرج كلّ مِنّا بطاقة انتماء لهذا الفصيل أو ذاك من فصائل العمل الإسلامي! هكذا، وكأن بطاقة الانتماء تغني عن العمل الجاد والتحرك الواعي!، أو كأن فصائل العمل الإسلامي قاعات للنوم والخمول والكسل!، فهل هذا هو الانتماء للعمل الإسلامي؟!

إن الانتماء الحقيقي (وسيلة) إرضاء الرب وإنقاذ الذات... فهو (بداية) السير، وليس (دليل) اجتياز المراحل، وليدرك كل فرد من أفراد العمل الإسلامي أن الانتماء للعمل الإسلامي بعد تجديد الإخلاص لله وتجريد المتابعة لرسوله إنما يعني: "العمل الجاد... الصبر... المصابرة... المرابطة... ذلك أن (العطاء) هو (بطاقة الانتماء)"  (دكتور محمد محمد بدري (بطاقة الانتماء) مجلة البيان العدد [113]).

أسأل الله عز وجل أن أكون وفقت في إيصال الفكرة الباعثة على كتابتي، وأن يكون إسهامي في الكتابة في هذا الموضوع باعث لكل من وقع في تلك الثنائية لينفض غبار النوم عنه، وأن يمتلئ قوة وحيوية ليدرك نفسه ويسهم بعمله في نهضة أمته الإسلامية... والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.