النصر الفكري

أحمد كمال قاسم

لا يخفى على مفكِّر أن القوة في عصرنا الحالي هي في المرتبة الأولى القوة العقلية والتي بها تنتج كل أنواع القوة، فإن بذل المؤمن في مجال العقل كل ما يستطيع؛ ضَمِن النصر بإذن الله مهما اتسعت الهوة العلمية بينه وبين غيره من غير المؤمنين بالله.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر - فقه الجهاد -

مقومات نصر المؤمنين:

إن المتأمِّل في آيات شروط نصر المؤمنين على ما عداهم في القرآن الكريم؛ لا يكاد يجد أن النصر كان أبدًا مرهونًا بالعدة والعتاد. إنما يجد أن ناموس النصر هو أن النصر من عند الله كما قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آلِ عمران:126]، صدق الله العظيم.

وحيث أن النصر من عند الله فحتمًا؛ سترجح كفة المؤمنين على غيرهم لأن الله معهم كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، صدق الله العظيم.

وبالتالي يكون من البديهي أن الفئة قليلة العدد -كثيرة الإمكانيات بحوزتها قوة الله معها- هي لا بد منتصرة على أي فئة وإن كثر عددها وقل زادها من عون الله وتوفقيقه كما قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].

وقد وضع الله تعالى في كتابه الكريم الحد الأدنى لعدد المؤمنين الذين في المواجهة حتى يأخذ المؤمنون بالأسباب ولا يتهاونوا فيها كما قال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66].

ولكن؛ دعنا نطرح سؤالًا: هل النصر ومقوماته المذكورة آنفًا مقصورة على النصر المادي في أرض المعركة أم ينسحب المعنى على مفهوم أعم للنصر في في مفهوم أعم للمعركة؟

قيام الحضارة الفكرية الإسلامية:

عندما نتأمَّل في العبقريات الإسلامية كعبقرية الإمام الشافعي رحمه الله في ذاكرته الفوتوغرافية، أو عبقرية ابن الهيثم رحمه الله الذي اكتشف أساسيات بل أغوار عِلم الضوء قبل مثله من غير المؤمنين بالعديد من القرون، أم عبقرية خالد بن الوليد رضي الله عنه في التخطيط الحربي التي تفرَّد بها في التاريخ، أم عبقرية الإمام علي رضي الله عنه الرياضية الحسابية المتفرِّدة في نوعها، وفوق كل هؤلاء عبقرية إمام الناس أجمعين رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتخطيط وكل مجالات الحياة.

أقول: عندما تتأمَّل في كل هذا؛ تجد أن العامل البشري فيها لا يشكل الكثير منها ولكن يقتبس كل هؤلاء العظماء من نور عِلم الله باتصالهم به عن طريق اتباع أوامره واجتناب نواهيه والرجاء في ثوابه والخوف من عقابه.

ولا يغرنَّكم ما وصل إليه غير المؤمنين من تقدُّم علمي فهو والله عين التخلُّف نِسبةً لما كان سيصل المسلمون إليه من تقدُّمٍ لو أنهم استمروا في عبادة ربهم حق عبادته، يقول الله تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ . فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ . وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:41-43]، صدق الله العظيم.

النصر الفكري:

الآن بعد هذه التوطئة؛ أعد قراءة الجزء الأول من المقالة المتعلقة بمقومات النصر تجد عجبًا! تجد أنه يمكن تطبيق هذا المبدأ العام على ما أُسمِّيه النصر الفكري والذي يشحذ الإيمان فيه عقول المؤمنين كما يشحذ قلوبهم وأن المؤمن بالله حقًا يمده الله تعالى بالعلم والفكر والإبداع مدًا، ولا يتحدَّد ذلك بمقدار المجهود العقلي الذي يبذله طالب العلم المؤمن فقط بل يمده الله بمدد من الأفكار والإبداع بلا حدود وكل ما هو مطلوب من طالب العلم المؤمن عدة أشياء مهمة.

شروط النصر الفكري:

أ- أن يؤمن بالله حق إيمانه.

ب- أن يثق في نصر الله وألا ييأس من فرج الله وأن يصبر حتى يأتيه وأنه هو الأعلى بإيمانه، وقد قال الله تعالى فيما يخص الشرطين الأول والثاني: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آلِ عمران:139].

ج- أن يبذل ما في وسعه من تحصيل العلم والتفكير، فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].

فلم يشترط الله الكم هنا ولكن اشترط أن ننصر الله حق نصرته بأن نبذل كل ما في وسعنا، فإن حقّق العالِم المؤمن هذه الشروط صدق فيه قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60]، استحق نصر الله بجدارة وبلا منازع.

ولا يخفى على مفكِّر أن القوة في عصرنا الحالي هي في المرتبة الأولى القوة العقلية والتي بها تنتج كل أنواع القوة، فإن بذل المؤمن في مجال العقل كل ما يستطيع؛ ضَمِن النصر بإذن الله مهما اتسعت الهوة العلمية بينه وبين غيره من غير المؤمنين بالله.

د- وأخيرًَا وليس آخرًا؛ ألا يغتر بقوة الفكر عندما ينعم الله بها عليه وإلا لذكره الله بأن هذه القوة ليست من عنده وإنما من عند الله وذلك بنزعها منه. قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّه فِي مَوَاطِن كَثِيرَة وَيَوْم حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].

الاستنتاج:

الفكر كغيره من المجالات يتفوق المؤمنون فيه بما يمدهم الله به من جلاء في الأفهام، وقوة في القرائح وهذا وعد من الله الذي لا يُخلِف وعده.

والله أعلم.

 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام