صمت النبي صلى الله عليه وسلم والسلف
"تعلَّم الصمت كما تعلم الكلام، فإن يكن الكلام يهديك، فإن الصمت يقيك، ألا في الصمت خصلتان: تدفع به جهل من هو أجهل منك، وتعلم به من علم من هو أعلم منك"
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
صمت النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم طويل الصمت، كثير الذكر، قليل الضحك، فعن سماك بن حرب، قال: "قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كان طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه ربما تناشدوا عنده الشعر والشيء من أمورهم، فيضحكون، وربما يتبسم" (رواه أحمد [5/ 86] [20829]،والطيالسي [2/ 129] [808]، والطبراني في (الأوسط) [7/ 120] [7031]. صححه ابن تيمية في (الجواب الصحيح) [5/ 474]، وحسَّنه ابن حجر في (نتائج الأفكار) [1/ 300]، والألباني في (صحيح الجامع) [4822]).
نماذج من صمت الصحابة
-عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اطلع على أبي بكر رضي الله عنه وهو يمدُّ لسانه فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن هذا أوردني الموارد، إنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدَّته» (رواه ابن أبي الدنيا في (الصمت) ص[50]، وأبو يعلى [1/ 17] [5]، والبيهقي في (شعب الإيمان) [7/ 24] [4596]. وقال الألباني في (السلسلة الصحيحة) [535]: "صحيح الإسناد على شرط البخاري").
-وقال ابن بريدة: رأيت ابن عباس آخذًا بلسانه، وهو يقول: "ويحك، قل خيرًا تغنم، أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنَّك ستندم". قال: فقيل له: يا ابن عباس، لم تقول هذا؟ قال: "إنه بلغني أنَّ الإنسان -أراه قال- ليس على شيء من جسده أشدُّ حنقًا أو غيظًا يوم القيامة منه على لسانه إلا ما قال به خيرًا، أو أملى به خيرًا" (رواه أحمد في (فضائل الصحابة) [2/ 952]، وأبو نعيم في (الحلية) [1/ 327]، والفاكهي في (أخبار مكة) [1/ 178]).
-عن خالد بن سمير قال: "كان عمار بن ياسر طويل الصمت" (رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء) [1/ 142]).
-ودخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل، فسألوه عن سبب تهلل وجهه، فقال: "ما من عمل أوثق عندي من خصلتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين" (رواه ابن سعد في (الطبقات الكبرى) [3/ 557] من حديث زيد بن أسلم).
نماذج من صمت السلف
-قال عمرو بن قيس الملائي: "مرَّ رجل بلقمان والناس عنده، فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال بلى، قال: الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى، فقال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال صدق الحديث، وطول السكوت عما لا يعنيني" ((جامع العلوم والحكم) لابن رجب، ص [293]).
-وقال الفضيل بن عياض: "كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة" ((صلاح الأمة في علو الهمة) لسيد العفاني [5/ 375]).
-وكان أعرابي يجالس الشعبي ويطيل الصمت، فقال له الشعبي يومًا: ألا تتكلم؟، فقال: "أَسكت فأَسلَم وأَسمع فأَعلَم؛ إنَّ حظَّ المرء في أذنه له، وفي لسانه لغيره" ((وفيات الأعيان) لابن خلكان [3/ 14]).
-وقال محارب: "صحبنا القاسم بن عبد الرحمن فغلبنا بطول الصمت" ((صلاح الأمة في علو الهمة) لسيد العفاني [5/ 376]).
-وقال الأعمش عن إبراهيم قال: "كانوا يجلسون فأطولهم سكوتًا: أفضلهم في أنفسهم" ((صلاح الأمة في علو الهمة) لسيد العفاني [5/ 376]).
نماذج من صمت العلماء
-عن أبي إسحاق الفزاري قال: "كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يطيل السكوت؛ فإذا تكلم ربما انبسط قال: فأطال ذات يوم السكوت فقلت: لو تكلمت؟ فقال: الكلام على أربعة وجوه: فمن الكلام كلام ترجو منفعته وتخشى عاقبته، والفضل في هذا السلامة منه، ومن الكلام كلام لا ترجو منفعته ولا تخشى عاقبته، فأقلُّ ما لك في تركه خفة المؤنة على بدنك ولسانك، ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتأمن عاقبته، فهذا الذي يجب عليك نشره، قال خلف: فقلت لأبي إسحاق: أراه قد أسقط ثلاثة أرباع الكلام؟ قال: نعم" ((الصمت) لابن أبي الدنيا، ص [67]).
-وقال إبراهيم التيمي: "أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين سنة، فلم يتكلم بكلام لا يصعد" ((صلاح الأمة في علو الهمة) لسيد العفاني [5/ 374]).
-وقيل: "ما تكلم الربيع بن خثيم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسًا وقلمًا، فكلُّ ما تكلم به كتبه، ثم يحاسب نفسه عند المساء" ((إحياء علوم الدين) للغزالي [3/ 111]).
-قال إسماعيل بن أمية: "كان عطاء يطيل الصمت، فإذا تكلم يخيل إلينا أنه يؤيد" ((حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصبهاني [3/ 313]).
-قال خارجة بن مصعب: "صحبت ابن عون ثنتي عشرة سنة، فما رأيته تكلم بكلمة كتبها عليه الكرام الكاتبون" ((صلاح الأمة في علو الهمة) لسيد العفاني [5/ 377]).
-قال مورِّق العجلي: "أمرٌ أنا في طلبه منذ عشر سنين لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه أبدًا، قال: وما هو يا أبا المعتمر؟ قال: الصمت عما لا يعنيني" ((المصنف) لابن أبي شيبة [7/ 180]).
وصايا في الصمت
-قال رجل لسلمان رضي الله عنه: أوصني. قال: "لا تتكلم". قال: وكيف يصبر رجل على أن لا يتكلم؟ قال: "فإن كنت لا تصبر عن الكلام، فلا تتكلم إلا بخير أو اصمت" (رواه ابن أبي الدنيا في (الصمت) ص [65]).
-وقال رجل لبعض العارفين: أوصني. قال: "اجعل لدينك غلافًا كغلاف المصحف؛ لئلا يدنسه". قال: وما غلاف الدين؟ قال: "ترك الكلام إلا فيما لا بد منه، وترك طلب الدنيا إلا ما لا بد منه، وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه" ((فيض القدير) للمناوي [3/ 82]).
-وعن عقيل بن مدرك يرفعه إلى أبي سعيد أن رجلًا أتاه، فقال: أوصني، فقال: "أوصيك بتقوى الله، وعليك بالصمت، فإنك به تغلب الشيطان" ((الزهد) لابن أبي عاصم، ص[33]).
-وعن أبي الذيَّال، قال: "تعلَّم الصمت كما تعلم الكلام، فإن يكن الكلام يهديك، فإن الصمت يقيك، ألا في الصمت خصلتان: تدفع به جهل من هو أجهل منك، وتعلم به من علم من هو أعلم منك" ((الزهد)) لابن أبي عاصم، ص [51]).
-وعن حبيب بن عيسى، قال: "كان ابن مريم يقول: ابن آدم الضعيف؛ علم نفسك الصمت كما تعلمها الكلام، وكن مكينًا (المكانة: المنزلة. وفلان مكين عند فلان بين المكانة. والمكانة: الموضع. (لسان العرب) [13/ 36]) حتى تسمع، ولا تكن مضحاكًا في غير عجبٍ، ولا هشًّا في غير أربٍ (أرب: الإربة والإرب: الحاجة. (لسان العرب) لابن منظور [1/ 208])" ((الجامع في الحديث) لابن وهب، ص [532]).
-وقال لقمان لابنه: "يا بني، إن غلبت على الكلام، فلا تغلب على الصمت، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، إني ندمت على الكلام مرارًا، ولم أندم على الصمت مرة واحدة" ((الظرف والظرفاء) لأبي الطيب الوشاء، ص [7-8]).
-و"تكلم أربعة من حكماء الملوك بأربع كلمات كأنها رمية عن قوس: فقال ملك الروم: أفضل علم العلماء السكوت. وقال ملك الفرس: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها. وقال ملك الهند: أنا على ردِّ ما لم أقل أقدر مني على ردِّ ما قلت. وقال ملك الصين: ندمت على الكلام، ولم أندم على السكوت" ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك) للماوردي، ص [59]).
-وقد قال بعض الصالحين: "الزم الصمت يكسبك صفو المحبة، ويأمنك سوء المغبة، ويلبسك ثوب الوقار، ويكفك مؤنة الاعتذار". وقيل: "الصمت آية الفضل، وثمرة العقل، وزين العلم، وعون الحلم؛ فالزمه تلزمك السلامة" ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال) لحسين المهدي، ص [496]).