من معاني العدل

أرسل الله رسله وأنزل معهم ميزان العدل؛ ليقوم الناس بالقسط، وما ذلك إلا لأهميته، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد من الآية:25].. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلُّهم الله تعالى في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمام عدل..

  • التصنيفات: تربية النفس -

معنى العدل لغةً واصطلاحًا

 

معنى العدل لغةً: 

العدل خلاف الجور، وهو القصد في الأمور، وما قام في النفوس أنه مستقيم. مِن عَدَلَ يَعْدِلُ فهو عادل من عُدولٍ وعَدْلٍ، يقال: عَدَلَ عليه في القضية فهو عادِلٌ. وبسط الوالي عَدْلَهُ ((الصحاح في اللغة) للجوهري [5/ 1760]، (لسان العرب) لابن منظور [11/ 430])، (القاموس المحيط) للفيروز آبادي، ص[1030]، (المصباح المنير) للفيومي [2/ 396]).

 

معنى العدل اصطلاحًا: 

العدل هو: "أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه" ((الأخلاق والسير) لابن حزم، ص [81]).

 

وقيل هو: "عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينًا" ((التعريفات) للجرجاني، ص [147]).

 

وقيل هو: "استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير" ((تهذيب الأخلاق) المنسوب للجاحظ، ص [28]).


الفرق بين العدل وبعض الصفات:

 

الفرق بين العدل والقسط: 

 

"القسط: هو العدل البيِّن الظاهر، ومنه سمي المكيال قسطًا، والميزان قسطًا؛ لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرًا، وقد يكون من العدل ما يخفى، ولهذا قلنا: إن القسط هو النصيب الذي بينت وجوهه، وتقسط القوم الشيء تقاسموا بالقسط" ((الفروق اللغوية) لأبي هلال العسكري، ص [428]).

 

الفرق بين العدل والإنصاف:

 

"الإنصاف: إعطاء النصف، والعدل يكون في ذلك وفي غيره، ألا ترى أنَّ السارق إذا قُطع قيل: إنه عدل عليه. ولا يقال: إنه أنصف، وأصل الإنصاف أن تعطيه نصف الشيء، وتأخذ نصفه من غير زيادة ولا نقصان، وربما قيل: أطلب منك النصف. كما يقال: أطلب منك الإنصاف. ثم استعمل في غير ذلك مما ذكرناه، ويقال: أنصف الشيء. إذا بلغ نصف نفسه، ونصف غيره إذا بلغ نصفه" ((الفروق اللغوية) لأبي هلال العسكري، ص [80]).


أهمية العدل

 

أرسل الله رسله وأنزل معهم ميزان العدل؛ ليقوم الناس بالقسط، وما ذلك إلا لأهميته، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد من الآية:25].

 

ووردت نصوص قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة تأمر بالعدل وترغب فيه، وتمدح من يقوم به.

 

يقول ابن القيم: "إن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخصَّ طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بيَّن سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له" ((الطرق الحكمية) ص [19]).

 

أولًا: في القرآن الكريم:

 

أمر الله بإقامة العدل وحثَّ عليه، ومدح من قام به، وذلك في آيات كثيرة منها:

 

1- آيات فيها الأمر بالعدل:

 

- قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].

 

قال السعدي: "فالعدل الذي أمر الله به، يشمل العدل في حقِّه، وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة؛ بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقِّه وحقِّ عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كلُّ والٍ ما عليه تحت ولايته، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، وولاية القضاء ونواب الخليفة، ونواب القاضي.

 

والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه، ومن العدل في المعاملات أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك، فلا تبخس لهم حقًّا، ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحب" ((تفسير الكريم الرحمن) ص [447]).

 

- وقال عزَّ مِن قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّـهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّـهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135].

 

يقول ابن كثير: "يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء من الآية:135] أي: بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه.

وقوله: {شُهَدَاءَ لِلَّـهِ} [النساء من الآية:135] كما قال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّـهِ} [الطلاق من الآية:2]، أي: ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقًّا، خالية من التحريف والتبديل والكتمان؛ ولهذا قال: {وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ} [النساء من الآية:135] أي: اشهد الحقَّ، ولو عاد ضررها عليك، وإذا سُئِلتَ عن الأمر فقل الحقَّ فيه، وإن كان مضرة عليك، فإنَّ الله سيجعل لمن أطاعه فرجًا ومخرجًا من كلِّ أمر يضيق عليه" ((تفسير القرآن العظيم) [2/ 433]).

 

- وقال سبحانه: {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّـهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّـهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15].

 

"يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعًا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه...

وعن قوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}[الشورى من الآية:15]، قال قتادة : "أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يعدل، فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه" (رواه الطبري في (جامع البيان) [21/ 517]).

والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من الشديد، وبالعدل يصدق الله الصادق، ويكذب الكاذب، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه" (رواه الطبري في (جامع البيان) [21/ 517]).

 

2- آيات فيها مدح من يقوم بالعدل:

 

- قال سبحانه: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181].

قال ابن كثير: "يقول تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} [الأعراف من الآية:181] أي: ومن الأمم أُمَّةٌ قائمة بالحق قولًا وعملًا، {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [الأعراف من الآية:181] يقولونه ويدعون إليه، {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف من الآية:181] يعملون ويقضون.

وقد جاء في الآثار: أنَّ المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية، هي هذه الأمة المحمدية.

قال سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: «هذه لكم، وقد أُعطي القوم بين أيديكم مثلها: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159]» (رواه الطبري في (جامع البيان) [13/ 286]) ((تفسير القرآن العظيم) [3/ 516]).

 

- وقال عزَّ مِن قائل: {وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل:76].

 

"يقول الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل من الآية:76] يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكلُّ على مولاه، الذي لا يأتي بخير حيث توجَّه، ومن هو ناطق متكلم، يأمر بالحقِّ، ويدعو إليه، وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله: {وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل من الآية:76] يقول: وهو مع أمره بالعدل، على طريق من الحقِّ في دعائه إلى العدل، وأمره به مستقيم، لا يعوج عن الحقِّ، ولا يزول عنه" ((جامع البيان) للطبري [17/ 262]).


ثانيًا: في السنة النبوية

 

لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم العدل، ورغَّب فيه، وقد وردت الأحاديث تدلُّ على تطبيقه قواعد العدل، وإرسائه لمعالمه منها:

 

- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكارهنا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالعدل أين كنَّا، لا نخاف في الله لومة لائم" (رواه النسائي [4153]، وأحمد [3/ 441] [15691] من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصححه ابن عبد البر في (التمهيد) [23/ 272]، وابن العربي في (عارضة الأحوذي) [4/ 91]، والألباني في (صحيح النسائي) [4164]).

 

- وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المقسطين يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا» أي: كانت لهم عليه ولاية. ((شرح النووي على مسلم) [12/ 211])، رواه مسلم [1827]).

 

قال ابن عثيمين: "فالعدل واجب في كلِّ شيء، لكنه في حق ولاة الأمور آكد وأولى وأعظم؛ لأنَّ الظلم إذا وقع من ولاة الأمور حصلت الفوضى والكراهة لهم، حيث لم يعدلوا" ((شرح رياض الصالحين) [3/ 641]).

 

- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلُّهم الله تعالى في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» (رواه البخاري [660]، ومسلم [1031]).

قال ابن رجب: "وأول هذه السبعة: الإمام العادل: وهو أقرب الناس من الله يوم القيامة، وهو على منبر من نور على يمين الرحمن، وذلك جزاء لمخالفته الهوى، وصبره عن تنفيذ ما تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه، مع قدرته على بلوغ غرضه من ذلك؛ فإنَّ الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، وهذا أنفع الخلق لعباد الله، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها، وقد رُوي أنَّه ظلُّ الله في الأرض؛ لأنَّ الخلق كلَّهم يستظلون بظلِّه، فإذا عدل فيهم أظلَّه الله في ظلِّه" ((فتح الباري) [4/ 59]).

المصدر: الدرر السنية