عفواً.. والدي العزيز.. لَنْ أسامحك..!

ملفات متنوعة

نسأل الله أن يستر على بنات المُسلمين, وأن يرزقهنًّ الستر والعَفَاف,
والحِشمَة والزوج الصالح,, الذي يعينها على هذهِ الحياة الدُنيا
ويُقاسمها الأفراح والأتراح,, إنهُ وليُ ذلك والقادرُ عليه.

  • التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -

عندما كانت صغيرة.. كانت تُراقب والديّها.. وتعاملهما مع بعضهما البعض.. كانت لا تفقهُ معنى إنشاء أسرة وتحمّـل مسؤوليّة.. لَمْ تكن تعي.. مُعاركة السنين ومُجاراة الأنين.. لَمْ تكن تعي كُل هذهِ الأمور.. وإنمّا كانت تحلم بأسرة صغيرة وأبناء تضمهُم إلى صدرها الدافئ.. وتُحيطهم بيديّها الحانيتيّن.. تُلاعبهم.. تُقبلهم.. تُربيهم.. يُخالط جسدها أجسادهم.. تُرضعهم الحُب والحنان.. وحينما كَبرت.. أحسَّت باقتراب تحقق أحلامها.. حتى تخرجّت مِنْ الثانويّه.. بتقدير عالٍ يُؤهلها لدخول الجامعة, فانهالت التبريكات عليها مِنْ كُل مكان.. أهلها.. أقرباؤها.. بنات عماتها وبنات خالاتها..

ومَضَتْ الأيام بسرعه مِثلما كانت تُريد " نجلاء " نعم.. إنها نجلاء تلك الفتاة التي لَمْ تتجاوز التاسعة عشر بعد.. فتاة جميلة.. خلوقة ومُؤدبة ومُلتزمه.. حرص أهلها على تربيتها وتعليمها.. مرّت الأيام كأنها برقٌ تتالى.. والله المُستعان.. حتى دَخَلتْ نجلاء إلى الجامعة.. وحَرصت على طلب العلم الشرعَي..

مرّ اليوم الدراسي وكانت في أوّج سعادتها.. برغَمِ ما في هذا اليوم مِنْ رهبة,, كون الإنسان انتقل مِنْ عالم القيود.. وتحرّر مِنْ الزي الموّحد.. ومِنْ الفسحة وانتظار جرس انتهاء الحصة المدرسيّة.. إلى عالم مفتوح.. مُتحرر يعتمد الإنسان بهِ على نفسه.. ويحرص هو على دراسته ومستقبله.. فليس هُناك جرس يُنذر بانتهاء الحصة ولا يوجد " طابور صباحي " يُشعِر بالملل والكآبة,, وليست هُناك (حصة أولى), التي لطالما سَمِعنا بها ولَمْ نكن نعلم ما يُقال بها مِنْ أثر النعاس..

نعود إلى نجلاء.. وكعادة الأسبوع الأول في الجامعة.. نرى عدم الالتزام في حضور الساعات الدراسيّة.. مُتعللين الطلبة بـ " السحب والإضافة " .. وما هي إلا حجج واهيّة.. من أجل إستطالة الإجازة الصيفيّة.. ولكِنْ نجلاء كانت حريصة على حضور الساعات الدراسية, برغم تغيّب بعض الدكاترة إلا إنها كانت ترقب بعينيّها باب القاعة.. مُؤملة نفسها بدخول أستاذ المادة.. فبدأ الحماس ينطفئ قليلاً في قلبها.. فأخذت تتسائل في نفسها " تُرى ما بهم لا أحد يحضر " بينما هُناك قاعات قليلة جداً قد بدأ الأستاذ بالشرح ..

وبينما كانت تتمشى في ممرات القاعات.. حتى رأت صديقتها أيام الثانويّة .. فسلمّت عليها وتهلل وجهها مُستبشراً,, وتحدثّت معها.. عَنْ الجامعة وفي أي كلية.. وكيفيّة الساعات الدراسيّة.. والنظام.. فأخبرتها صديقتها التي سبقتها بعام واحد إلى الجامعة.. بكل شيء.. وساعدتها..

هُنا.. اطمأنت نجلاء وزال الخوف والتردد الذي بها.. ثم عادت إلى البيت.. وأخَبَرتْ والدتها بما جرى.. وما رأت في الجامعة.. وأن الحياة مُختلفة تماماً عن المدرسة.. وتوالت الأيام بجدٍ واجتهاد.. حتى حَصَـلتْ نجلاء على أعلى الدرجات, وانتهت السنة الدراسيّة الأولى.. وبدأت نجلاء تشعر بالحاجة إلى الحُب والعطف.. لَمْ يكن والديها مُقصرين معها بما تُريد.. ـ ولكِنْ ـ كانت تفتقد إلى الحُب والكلمات.. حتى تمنّت لو أنها لَمْ تكبر.. لتغيّر مُعاملة والديّها.. فقد أصبحوا مُنهمكين بتربية إخوانها الصغار.. وأهملوا حاجة نجلاء إلى الحُب والرعاية.. ظنّوا أن الإنسان حينما يكبر ويدخل إلى الجامعة.. قد يتجرّد مِنْ الإحساس.. ولم يعد بحاجة إلى كلمات الحُب والعطف أو إلى يديّن حانيتيّن تمسح على رأسها حتى تنام.. لم تعد ترى نجلاء إقبال والدها عليها وتقبيلها ومُلاعبتها.. فأمها دائماً مشغولة بأمور البيت والأبناء..

وبينما كانت تجلس على سريرها قد داعب النوم عينيّها.. إذ بحلمها القديم بدأ يعود إليها .. وبدأت تتعطش إلى تحقيقه.. حِلمُ " الزواج " وتكوين أسرة.. وكانت تُردد:

بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا ** شوقاً إليكم وما جفت مآقينا

كانت تحلم برجل يأوي إليها وتأوي إليه.. رجل يُقاسمها همومها.. ويُشاركها أفراحها.. فبدأت تُفكّر ـ تُرى مَنْ سيكون ومتى؟ حتى غالبها النُعاس.. فاستسلمت للنوم..

لَمْ تكن نجلاء فتاة متهورّة.. كباقي الفتيّات.. تبحثُ عَنْ قِصص العشق والهيام,, ولَمْ تكن تحلم بمغامرات عاطفيّة.. ورسائل غراميّة.. أو نظرات مِنْ ابن الجيران.. فقد كانت فتاة مُحافظة تخافُ الله.. وتحضر الدروس والحلقات.. ولطالما رَسَمتْ صورة ذلك الزوج في بالها, وكانت تُريده مُستقيم.. يعينها وتُعينه على هذهِ الحياة..

مرّت الأيام إذ بالخُطّاب بدأوا يطرقون بابهم.. مِنْ أبناء عمومتها وغيرهم.. وكان الوالد يرفض رفضاً قاطعاً دون مُشاورة نجلاء أو أمها.. فقد كان يُريدها أن تُتم الدراسة الجامعيّة.. ولَمْ تكن نجلاء تعلم بذلك.. حتى مرّت سنتان.. إذ كانت بأحد المجالس مع بنات عمها.. وهذهِ تتباهى بزوجها وتلك بخطيبها.. وتلك قد قاربت على الولادة.. وبقيّت نجلاء صامتة مُوكلة أمرها إلى الله عزَّ وجل, ولَمْ يكن يظهر عليها أي شيء, فقد كانت تُخفي في قلبها أحلامها وآمالها.. إذ بـ " مريم " ابنة عم نجلاء, تقول لها: نجلاء ( يالله متى نفرح فيج ), فأطرقت رأسها حياءً,, فقالت الأخرى: ( نجلاء محد عاجبها ), فارتبكت نجلاء قليلاً ورفعت رأسها قالت: لِمَ؟ فقالت ابنة عمها " كل ما جاج أحد رفضتيه "؟

فتعجّبت نجلاء جداً, كيف ذلك؟ ومتى؟ ولكنها لم تنطق حرفاً واحداً,, فقالت ابنة عمها: خطبكِ فلان وفلان وفلان, ولكنك رفضتي، والدك قال ذلك.. فأصيبت بصدمة,, ولكنها أخفت ذلك واستأذنتهم قليلاً وعادت لبيتها.. تتقلب الأفكار في رأسها.. يمنةً ويسرة.. والهواجيس تُخيفها.. تُرى لِمَ أبي وأمي لم يُخبراني.. أوليس مِنْ حقي أن أقرّر.. وأن أرفض أو أوافق..!

دخلت البيت,, إذ بأمها جالسة.. وكان يقتلها الحياء.. مِنْ مُصارحة والدتها.. فسلمّت على والدتها وتحدثّت معها قليلاً, ولكِنها لَمْ تخبرها بما سَمِعت مِنْ بنات عمها.. فصعدت إلى غرفتها وألقت بنفسها على وسادتها.. ثمّ استرجعت قواها وذكرَت ربها.. وصلت ركعتين.. دعت ربها أن يرزقها " الرجل الصالح ",, وطردت تلك الأفكار والهواجيس من رأسها,, وقالت: لله الأمر من قبل ومن بعد,, وما زلتُ في بداية عُمري..

قارَبَتْ نجلاء على الانتهاء من المرحلة الجامعيّة و لم تتجاوز الثالثة والعشرين,, وكُلمّا رأت زميلاتها وبنات خالاتها وعماتها تتزوّج الواحدة تلوّ الأخرى, تحزن في قلبها وتقول متى سيأتي نصيبي..

" أنا فتاة جميلة وجامعيّة وقبيلتي يُشار لها بالبنان " , ما هي أسباب والدي لرفضه تزويجي,, كَمْ كانت تُفكّر كثيراً, رغم إنها تحاول إبعاد هذا الأمر عن بالها, حتى تخرّجت مِنْ الجامعة,, وبدأ الخطاب يقلون,, لِما إشتهِرَ عَنْ والدي في القبيلة وخارجها إنه يرفض تزويج بناتهِ,, حتى تجرأتُ وحادثتُ والدتي " لِمَ يردُ أبي الخُطاب عني " ,, ولكِني أحسستُ بتفاجئها قليلاً, فلم تكن تعلم إنني كبرت وأفكّر بالزواج حالي كحال أي فتاة تجاوزت العشرين,, فقد كانوا يظنون إنني لازلت طفلة.. عجيب أمرهم,, أولم يعلموا إني قاربتُ على انتصاف العشرينيات؟

مرّت الأيام تلوّ الأيام,, إذ تقّدم إليّ شاب مُلتزم عُرِفَ عنهُ الخير والصـلاح, فقد كان يدرسُ في كلية الشريعة وهو إمام ويُحضّر الماجستير حالياً,, فَرحِتُ جداً, واستبشرتُ خيراً,, فقد أخبرتني أخته أنهم سيتقدمون لخطبتي.. ومَهَدتُ الأمر لوالدتي,, حتى جاء مع أهلهِ.. ولكِنْ كانت الصاعقه!! أبي رده دون أي مُبرّر, وكانت نجلاء قد تخرجّت أيضاً,, فلم تُعد هُناك أسباب لرفض والدها الزواج..

تقول نجلاء: أسرعتُ لغرفتي, أغلقتُ عليّ الباب, بكيّتُ بقوة, تأملتُ جداً..
إنهُ حلمي, لِمَ دمرّوه, لِمَ حَرموني منه.. ارتَفَعَ نحيبها وبكاءها.. ولكِنها أخفت ذلك بأنين يكادُ أن يُقطع أنفاسها وقلبها..

كفى لوماً أبي أنت الملامُ كفاك فلم يَعُدْ يُجدي المَلامُ.. بأي ِّ مواجعِ الآلام أشكـو.. أبي من أين يُسعفني الكلامُ..!

ودّت ( نجلاء ) لو أنها استطاعت أن تصرخ بأعلى صوتها,, وتقول لّنْ أسامحك يا أبي,, بنات عمّاتي وخالاتي,, أصبحوا أمهّات,, وخالات وعمّات, وأنا بين الجدران الأربعة, أحدّثها ليل ويرتد صدى صوتي إلي, لا زوج أتكلم معه, ولا خليل كباقي الفتيّات,, بكَت نجلاء كثيراً واحتضنت وسادتها وذهبت في سُباتٍ عَمِيق,, علّ هذا السُبات أن يُخفف وطأة الألم..

في صباح اليوم التالي.. استيقظت نجلاء على طرق الباب.. إنها أمها.. فتحت لها الباب وعادت إلى وسادتها تُريد أن تُخفي آثار البكاء والحزن عَنْ وجه أمها, ولكِنْ أمها لاحظت ذلك,, فقد بدى وجه نجلاء الطفولي,, شاحباً مُصفراً يُلف يُحيط السواد عيناها, فقالت لها أمها: نجلاء مابكِ أخبريني ياحبيبتي,, واحتضنت أمها وبدأت تبكي بحرقة وألـم,, ولكِنها خشيّت أن تخُبر أمها بأن بكاءها هو بسبب الزواج, فالفتاة حييّة تستحي من هذهِ الأمور,, إلا أن أمها أحسّت بها وقالت: أنتي حزينة لأن أبوكِ رفض فُلان, قالت نجلاء وهي تكفكف دموعها.. نعم, صويحباتي أمهّات, وأبي يرد الخطاب عني, حتى ذاع ذلك بين الناس, فاصبحوا لا يفكرون بخطبتي حتى لا يحرجهم أبي بالرفض,, أرجوكِ يا أمي, إنصحي أبي..

أطرقت الأم رأسها وقالت: إن شاءَ الله, كلمته كثيراً ولكِنْ يقول " بنتي وأنا أدرى في مصلحتها ", ولكِنْ لا عليكِ يا نجلاء, إن الله يحبك ولن يضيعكِ.. بدأ الأمل ينبض في عروق نجلاء..

تجاوزت نجلاء.. السادسة والعشرون.. ولم يأتِ لخطبتها أحد,, وكانت أسئلة صديقاتها تُؤلمها:
" نجلاء لِمَ لم تتزوجّي بعد.. أنتِ جميلة وجامعيّة وذات دين وخُلق.. "

كانت نجلاء تبتسم بكل كبرياء وقوّة وتقول: قسمة ونصيب.. إنها تبتسم نعم, ولكِنْ بداخلها براكيـن مِنْ الألـم تكاد أن تتفجّر..

مرّت الأيام تلو الأيام, بدأت تفقد نجلاء رونقها,, وبدأ جمالها يقل نسبياً, فهي على أبواب الثلاثين,, أصبحت حياتها مُملة لا طعم لها, تذهب لعملها في المدرسة, ثم تعود إلى البيت, تبدأ بتصحيح مُذكرات الطالبات وأوراق الاختبارات, ثم تجلس قليلاً مع أهلها, وتذهب لتحبس نفسها في غرفتها, مأوى أحزانها وكبرياءها, فرض عليها أبوها أن تبقى حبيسة الجدران الأربع, بلا زوج, بلا أبناء,, تُساير ظلام الليل المُوحش ويُسايرها..

تحُدثّني نجلاء, وشعرتُ مِنْ خلال حديثي الطويل معها, إنني أعرفها منذ زمن طويل,, كانت تتحّدث وعينيها تُخفي الألم الدفين, وقلبها أكادُ أن أسمع دقاته بكَت كثيراً لَمْ تُستطع أن تُـكمل حديثها إلا بصعوبة, حاولتُ أن أصبّرها وأذكرّها بالله,, قالت ونحيبها يُقـطّع أنفاسه

" عُذراً .. والدي العزيز .. لَنْ أسامحك "

نجلاء,, ذات الثلاثون عاماً انهارت أحلامها.. وتلاشت ذكرياتها.. تبددّت آمالها.. أصبحت هزيلة.. شاحبة الوجه.. بدأ الشيب يخط أولى خطواته.. مُعلناً عَنْ انتهاء الحياة في قلب نجلاء.. آآه كًمْ أكرهك أيها الشيب.. هكذا قالت نجلاء.. بلا شعور.. ضممتها وهدأت مِنْ روعها.. بكت كثيراً.. تركتها ترتاح.. واستأذنتها بكتابة قصتها ونشرها.. أطرقت رأسها.. وأرسلت إلي نظرات ملئها الحسرة.. وقالت بصوت مُنكسر: انشريها.. لا بأس.. أرجو أن يتعظ الآباء الذين يعضلون بناتهم.. ويخافون الله ويتقونه..

خرجتُ مِنْ عندها.. وكادُ أن يتفطر قلبي مِنْ الألـم عليها وعلى حالها.. دَعَوّتُ الله أن يُلهمها الصبر, وأن يعينها على ما أصابها.. فتذكرّتُ ماقاله عليه الصلاة والسلام: « مَنْ يُرد الله بهِ خيراً يُصِب مِنهُ », أي يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها..

ارحموا بناتكم يا آباء.. ولا تعضلوهنًّ, فكم جرّ العضل مِنْ ويــلات وفضـائح, وكَمْ مِنْ فتاة قتلت نفسها ألماً وحسرة, وكَمْ مِنْ فتاة زلت بها القدم بسبب رفض والدها تزويجها.. فأصبحت على جرفٍ هارٍ والله تعالى المُستعان.

خِتاماً,, نسأل الله أن يستر على بنات المُسلمين, وأن يرزقهنًّ الستر والعَفَاف, والحِشمَة والزوج الصالح,, الذي يعينها على هذهِ الحياة الدُنيا ويُقاسمها الأفراح والأتراح,, إنهُ وليُ ذلك والقادرُ عليه.


كَتَبَتهُ وأملتهُ أختكُم :
نزوف
( غَفَرَ اللهُ لهَا ولوالديّها )
المصدر: صيد الفوائد