عباس إذ يبلغ الثمانين!

مصطفى يوسف اللداوي

مات عباس "أوباس" ولم يتنازل للفاتحين عن بلاده، ولم يُسلِّم لهم بما أراد قائدهم، ولم يعطِ كلمةً تُفقِده الحق في وطنٍ كان له، رغم أن الفاتحين كانوا رحمةً لأهله، ومنقذين لشعبه، ومُخلِصين لهم من ذُلِّ لدريق ورجاله، فقد أقاموا في بلاده حضارةً، تغنَّى بها العالم، وازدانت بها طليلطة وغرناطة واشبيليه وكل الأندلس.

فهل يقتدي الرئيس محمود عباس بالراهب عباس "أوباس"؟!

  • التصنيفات: الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة -

عندما قرَّر العرب فتح الأندلس، وسيَّروا جيشهم بقيادة طارق بن زياد على رأس سبعة آلافٍ من سكان المغرب البرابرة، لمواجهة لدريق ملك القوط، الذي ظن أنه قادرٌ على سحل الجيش العربي، وأسر رجاله، وسبي نسائه، وقد عَلِمَ أن القليل منهم كان يملك فرساً، بينما الآلاف كانوا رجالاً، وقد أرهقهم السفر، وأتعبهم خوض البحر، على متن سفنٍ ومراكب لا عهد لهم بها، ولا خبرة لديهم في تسييرها وتوجيهها، فأغراه حالهم البئيس، وأجسادهم المنهكة، بالقضاء عليهم في معركةٍ قصيرةٍ وسهلة.

وكان لدريق قد سجن الراهب عباس "أوباس"، واتهمه بمحاولة الانقلاب على الحكم، والتآمر على الملك، واسقاطه لصالح ابن أخيه الفونس، ليستعيد عرش والده الضائع غيطشة، الذي أزاحه لدريق وقتله، وأشهد عليه رجال الإكليروس، وكبار الأساقفة والرهبان، فأودعوه سجناً محصَّناً، بعيداً عن أعين الناس، لئلا يصل إليه الجنود، ولا ينجح أحدٌ في فِكاكه وإطلاق سراحه.

عَلِمَ أوليان -حاكم سبتة- بحال عباس "أوباس"، وأن لدريق قد استبدَّ به وعذَّبه، وأنه نال منه وسجنه، وأذلَّه وأهانه، وأنه ينوي قتله، وملاحقة أتباعه والفونس، ونفيهم أو قتلهم، فحزن لحاله، وأصابه الاكتئاب لما حلَّ به، وهو الراهب المقدَّر، والعالِم المبجَّل، وصاحب الرأي السديد، والنصيحة الصادقة، والقول الفصل، وقد كانت له في بلاده أيادي خير، وصنائع محبة، وفِعال مودة، فأحبه الناس وتعاطفوا معه.

وكان أوليان قد تحالف مع المسلمين، وتعهَّد بمساعدتهم، انتقاماً من لدريق الذي هتك عِرض ابنته، وسام شعبه وأهله سوء العذاب، واستباح ديارهم، ونهب خيراتهم، وسيَّرهم عبيداً له ولولاته، يعملون في الأرض كالخدم، ويؤدون إليه نهاية كل موسم، جنى الأرض وحصادها كله، وما يتوفر عندهم من المواشي والجياد، فحنق عليه أوليان، وهو صديق غيطشه، ملك القوط الأصيل، الذي تآمر عليه لدريق وقتله.

التقى الجيشان في وادي برباط قرب طليلطة في الأندلس، وقبل أن ينشب القتال بين الفريقين، ويلتحم الجيشان في معركةٍ قصيرة؛ نقل لدريق الراهب عباس، وألقاه مُقيَّد اليدين والرجلين في خيمةٍ قريبةٍ من سرادقه، وقد تعمَّد إذلاله وإهانته، فنزع عنه غطاء رأسه، وكشف عن صدره، وما هي إلا ساعات قليلة، حتى وضعت الحرب أوزارها، وانتهى القتال بين الفريقين، بعد أن هرب لدريق أو غرق، وتشتَّت جنده، وهرب رجاله، فسبى المسلمون كل ما أحضره لدريق معه، من سلاحٍ ودوابٍ وخيولٍ وذهبٍ طعامٍ وغير ذلك...

أسرع أوليان وقد عَلِمَ بحبس عباس "أوباس" ومكانه، فدخل عليه الخيمة، وجثا على ركبيته أمامه، وقبَّل يديه ورجليه، ثم فك وثاقه، وقبَّل جبينه، وأخذه من يده على ظهر فرسٍ كان قد هيأه له، وسارا معاً إلى حيث كان يجلس طارق بن زياد، قائد المسلمين، وصاحب الفتح الأكبر، والانتصار المهيب، وكان قد سمع من أوليان قصته، وعَلِمَ أنه كبيرٌ في قومه، ومتبحِّرٌ في دينه، وجريءٌ في قوله، وغير خائفٍ من رأيه، عالي الصوت دوماً، مرفوع الرأس، ممدود القامة، لا يخاف من أحدٍ مما يراه حقاً ويعتقد به.

قدَّر طارق بن زياد الراهب عباس، وأجلسه إلى جواره، وأحسن إليه إذ قدَّمه، وأصغى إليه، وقد لاحظ عليه أمارات التعب، ومظاهر الأسى التي ارتسمت على وجهه، والإعياء الذي حلَّ بجسده، جرَّاء سوء معاملة لدريق له، وحرصه على الإساءة إليه، وتمريغ أنفه في التراب، انتقاماً منه وتشفياً، إذ لم يكن عباس "أوباس" راضياً على اغتصاب المُلك، ورأى في ما قام به لدريق خيانة وانقلابٌ على صاحب الملك وولي النعمة، ولم يتنازل عباس عن رأيه، وأصر على موقفه، فاستحق السجن والعذاب من ملك القوط.

عرض طارق بن زياد، قائد جيش المسلمين، وعامِل موسى بن نصير أمير شمال أفريقيا كلها؛ على عباس وقد رأى فيه وجاهَة، أن يقطعه ثلاثة آلاف ضيعة، وأن يمنحه ما شاء من الأموال، وأن يُحكِّمه بمن شاء من الأسرى، وأعطاه الحق في أن يتصرَّف في أموال السبي كيفما يشاء، على أن يكون معهم، وأن يتعاون مع جيش المسلمين في تطويع بلاده، والقضاء على جيوب المقاومة القوطية فيها، وأعطاه عهد الفاتحين المسلمين، ألا يعتدي المسلمون على عابدٍ في صومعته، ولا على طفلٍ أو امرأةٍ أو شيخ، وألا يُقاتِلوا إلا من رفع السلاح وقاتَلهم، أو حاول الاعتداء عليهم، وألا يقطعوا شجرة، وألا يطردوا مزارعاً من أرضه، وسيتولى المسلمون حماية بلادهم، وإقامة العدل بينهم، ورفع الضلم والحيف عن المظلومين منهم.

رفع عباس "أوباس" رأسه بعزَّةٍ قديمة، وكبرياءٍ باقٍ؛ وقال لقائد جيش المسلمين: لا والله يا طارق، ما أنا بالرجل الذي يُسلِّم لك بلاده، ولا بالذي يعطيك مفاتيح ملكه، وإن أعطيتي من الضياع ما أعطيت، وملَّكتني في سبي أهلي وأبناء ديني، فهذا البلاد كلها بلادي، وهذه الكروم لي ولأجدادي، فما أنا بالذي يُفرِّط فيها، ولا أُسلِّمك والله مفاتيحها، ولا أعطيك عهداً يسترق شعبي، ويستعبِد أهلي، إلا أن تدق عنقي، أو تُعيدني إلى خيمتي حيث كنت فيها مقيدَّاً، مغلولاً فلا يفكني منها عطاؤك، ولا تسعدني الحرية بما عرَضت عليَّ من قرى وضياع، قد كانت لي ولشعبي، ولكن ظلم لدريق أضاعها، وجهله حرمه منها، إذ لم يجد من يدافع عنها.

وقف طارق أمام الراهب عباس "أوباس"، فرآه أطول قامةً من قامته التي رأه عليها، ورأى رأسه عالياً يتشامخ، وصوته عالياً لا يخفت، وعيونه تدمع ولا تجف؛ فعلم أنه رجل عزيز، وصاحب رأي سديد، وحكمة لا تخيب، إذ لا يحب أن تُستباح بلاده، وأن يضيع ملك أجداده، ولو كان ذلك ثمناً لحريته، وعطاءً ممدوداً له ما كان يحلم به أو يتوقعه، وهو الذي كان سجيناً يعذب، ومغلولاً يؤنب، وفي قيوده يرسف.

فسكت عنه طارق، وأومأ إلى رجاله أن يأخذوه إلى أحسن الخيام ليستريح وينام، فقال له عباس "أوباس" بجراةٍ لا تردد فيها: أتأذن لي بالمسير، أم ما زلتُ عندك أسيراً، فأعود إلى الأغلال؟! فقال له طارق: بل أنت حرٌ، ولك الخيار أن تسير.

فسار عباس "أوباس" خارج الخيمة، وامتطى ظهر جواده وانطلق، وقد عَلِمَ طارق، أنه حرٌ يريد أن يموت دون أن يُفرِّط، ولا يحب أن تكون خاتمته خيانة، ومصيره أجيراً عند عدو بلاده متعاوِناً معهم، ومتآمِراً على شعبه، فأكبره طارق، ووقف أمام خيمته ينظر إليه وهو ينطلق أمام ناظريه، ليُودِّع رجلاً أبى وهو في ضعفه أن يخون بلاده، ورفض أن يبارك للفاتحين أمرهم، وإن كان الفتح قد تم لهم، والبلاد قد دانت لجندهم.

مات عباس "أوباس" ولم يتنازل للفاتحين عن بلاده، ولم يُسلِّم لهم بما أراد قائدهم، ولم يعطِ كلمةً تُفقِده الحق في وطنٍ كان له، رغم أن الفاتحين كانوا رحمةً لأهله، ومنقذين لشعبه، ومُخلِصين لهم من ذُلِّ لدريق ورجاله، فقد أقاموا في بلاده حضارةً، تغنَّى بها العالم، وازدانت بها طليلطة وغرناطة واشبيليه وكل الأندلس.

فهل يقتدي الرئيس محمود عباس بالراهب عباس "أوباس"؟!

ويكون مثله فلا يُفرِّط، ويُودِّع الدنيا ولا يُوقِّع، ويترك الحكم ولا يتنازل، ويصمد على الجرح ولا يُعطي العدو ما يريد، ولا يخضع لأمريكا، ولا يجيبها إلى ما تريد، وقد ناهز عمره الثمانين، وإن بقيَ له في العمر من حياة؛ فهي أيام قليلة، فهل يحفظ خاتمته، ويُنهي مسيرة حياته بصمودٍ يُحفظ له، فيغادر واشنطن برأسٍ مرفوعٍ، وصوتٍ عالٍ، وعِزَّةٍ أبية، بأن الشعب الفلسطيني لا يُفرِّط في أرضه، ولا يتنازل عن وطنه، ولا يُساوِم على حقه، فيحفظه شعبه، وتدعو له الأمة بعد رحيله؟!

 


 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام