النبع الرابع عشر: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}

خالد أبو شادي

جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه، لكنه جعل جزاء التوكل عليه كفايته لعبده، فقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، ولم يقل نؤتِه كذا وكذا من الأجر، بل جعل نفسه سبحانه كافي من توكل عليه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل له ربُّه من بين ذلك فرجا ومخرجا.

  • التصنيفات: الزهد والرقائق - الواقع المعاصر -


جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه، لكنه جعل جزاء التوكل عليه كفايته لعبده، فقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، ولم يقل نؤتِه كذا وكذا من الأجر، بل جعل نفسه سبحانه كافي من توكل عليه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل له ربُّه من بين ذلك فرجا ومخرجا.

وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ} جاء في موضع تعليل جُملة: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله به حين ترون أسباب النصر مفقودة، فإنَّ الله إذا وعد فقد أراد، وإذا أراد أمرا يسَّر له أسبابه، وذلك من حيث لا يحتسب الناس، فتصاريف الله خفية عجيبة، ولذلك كان قوله: {إِنَّ الله بالِغُ أَمْرِهِ}، ومعناه واصلٌ إلى مُرادِه، والبلوغ مجازٌ مشهور في إدراك الغاية.
 

  • لكن ما هو التوكل؟!
    معنى التوكل من حيث اللغة قاله الغزالى: "التوكُّل مشتقٌّ من الوكالة، يُقال: وكَّل أمره إلى فلان أى فوَّضه إليه واعتمد عليه فيه، ويسمَّى الموكول إليه وكيلا، ويسمَّى المفوِّض اليه متَّكِلا عليه ومتوكِّلا عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتَّهمه فيه بتقصير، ولم يعتقد فيه عجزا ولا قصورا، فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده"[1].

    أما من حيث المصطلح الإيماني فقاله القرطبي: "التوكل هو: الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماضٍ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي في ما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو وإعداد"[2].

    فالتوكل الحق يتمثَّل في الاعتماد على الحقِّ والتخلي عن الخلق، وقد كان لفضيلة الشيخ الشعراوي تشبيه جميل يقرِّب به معنى التوكل: "وهب أنك سائر في الطريق، وفي جيبك جنيه واحد، وليس عندك غيره وضاع منك؛ هل تحزن؟ نعم سوف تحزن، ولكن إن كان في بيتك عشرة جنيهات فحزنك يكون خفيفا لضياع الجنيه، أما لو كان رصيدك في البنك ألف جنيه، فلن تحزن على الجنيه الذي ضاع منك، ومن له ربٌّ، وهو يبذل الجَهْد في الأخذ بالأسباب؛ سيجد الحل والفرج من أيِّ كرب مما هو فوق الأسباب".

    وأما محله وموقعه في العبد فيشير إليه الإمام القشيري: "اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب، بعدما يحقق العبد أن الرزق من قبل الله تعالى، فإن تعسَّر شيءٌ فبتقديره، وإن تيسَّر شيء فبتيسيره"[3].

    والتوكل درجة عالية من درجات الإيمان، وثمرة من ثمراته الزكية الشهية، فقد جعله سعيد بن جبير في مرتبة عليا: "التوكل على الله جماع الإيمان"[4].

    ومن العجب أن الدواب تعرِف إلى من تلجأ عند الحاجة، وبعض الناس لا يهتدي لمن يلتجئ، وقد قالها حاتم الأصم في موعظة موجعة وسوط من سياط حِكَمِه يضرب به قلوب الغافلين: "الحمار يعرف طريق المعلف، والمنافق لا يعرف طريق السماء!"[5].

    وله ثمرات كثيرة وبركات غزيرة، ومنها أنه يورث القلب الشجاعة والقوة، لكن التوكل ليس كلمات تلوكها الألسنة ثم يكذِّبها العمل، بل الفارق شاسع بين الحقيقة والادعاء كما قال ابن القيم: "فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء آخر، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء آخر، فقول العبد: توكلت على الله، مع اعتماد قلبه على غيره، مثل قوله: تبت إلى الله، وهو مصر على معصيته مرتكب لها"[6].

    ووافقه الفضيل بن عياض حتى اتهم نفسه وعاتبها في قوله: "إني لأستحي من الله أن أقول: توكَّلتُ على الله، ولو توكلت عليه حقَّ التوكل ما خفت ولا رجوت غيره"[7].
     
  • أركان التوكل الثلاثة! 
    ما أركان التوكل؟!
  1. الأول: أن تعرف ربك حق المعرفة: أن توقن بعلم الله وقدرته ورحمته ومحبته، فالمتوكل واثقٌ أن مقادير كل شيء بيد الله، وأن الله على كل شيء قدير، وأنه سبحانه يحب من أحبه، وأن رحمته سبقت غضبه، وهذه رحمته بالمسيء، فكيف بالمحسن؟!
    وكلما زادت معرفتك بربك زِدْتَ به ثقة وعليه توكلا، فمن أهمِّ لوازم التوكل معرفة الله، ومَن جهِل ربه لم يصحَّ له التوكل عليه.
     
  2. الثاني: أن تأخذ بالأسباب: مرَّ الإمام الشَّعْبي بإبل قد فشا فيها الجرب، فقال لصاحبها: أما تداوي إبلك؟! فقال: إن لنا عجوز نتكل على دعائها، فقال: "اجعل مع دعائها شيئا من القطران"[8].
    فالأخذ بالأسباب فريضة، ودونه لا يبلغ العبد مراده، ولا يوفِّق الله عباده، فاحذر كل الحذر أن يخدعك الشيطان، فيزيِّن لك التواني في الأخذ بالأسباب، ويورثك الكسل بإحالتك على القَدَر، فإن الله أمرك بالتوكل عليه مع انقطاع الحِيَل، والتسليمِ للقضاء بعد كل الأعذار، والشاعر يقول:

    والمرء تلقاه مِضْياعا لفُرْصِته ... حتّى إذا فات أمرٌ عاتَب القَدَرا

    وقد فهمها الفاروق فلما سأله أبو عبيدة t حين كره عمر طاعون الشام، ورجع إلى المدينة:
    أتفرُّ من قدر الله؟!
    فقال عمر بن الخطاب: نَعَم إلى قدر الله.

  3. الثالث: أن تستسلم لإرادته: إذا توكلت عليه، وأخذت بالأسباب، فالآن سلِّم الأمر لربك؛ إن شاء يَسَّر أمرك أو لا، يسمح أو لا يسمح، يجيبك أو لا يجيب، وأنت في كل الأحوال راضٍ عن الله، موقن أنه لا يقدر لك إلا الخير، فترك الأسباب قادح في العقل، والاعتماد عليها قادح في فهمك للشرع، والسلامة والوسط أن تجمع بين الأخذ بالأسباب بجوارحك مع كفر قلبك بها.

قيل لأبي محمد سهل التستري: متى يصح للعبد التوكل؟
"إذا علم أن تدبير مولاه له خير من تدبيره لنفسه، فإن نظر مولاه له أحسن من نظره لنفسه، فيترك التفكر فيما كان والتمني لما يكون، فيترك التدبير ولله عاقبة الأمور وهو على كل حال محمود شكور"[9].
وحين تعلم أن إرادة الله غالبة، تدرك أن القلة تنتصر إذا أراد الله لها أن تنتصر كما قال سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وأن الكثرة تفشل وتنهزم حين ينزع الله توفيقه وتأييده لها كما قال ربنا عن خير أجناد الأرض بقيادة خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25].

أبشر!
ما تعجز عنه الأسباب مع حسن التوكل على الله تقوم بإتمامه الأقدار!

 

[1] إحياء علوم الدين 4/259.
[2] تفسير القرطبي 4/184.
[3] الرسالة القشيرية 1/299.
[4] تفسير ابن كثير 2/287.
[5] الإمتاع والمؤانسة 1/247.
[6] الفوائد 1/87.
[7] العقد الفريد 3/127.
[8] محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء 1/37- الراغب الأصفهاني-شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم.
[9] قوت القلوب في معاملة المحبوب 2/62.