نقد الاستشراق
ياسر منير
الاستشراق جوهره هو "إبعاد سلطان الدين عن النفوس"؛ لذلك "تحاول الدراسات الاستشراقية الحديثة التركيز على أهمية القوانين الوضعية وتطبيقها على المسلمين بدلًا من شريعة القرآن...".
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
لآثار الاستشراق الخطيرة على المجتمع الإسلامي أرى أنّه من الحقيق بي أن أضعه على السَّفُّود لنُرِيَ للعالمين مثالبه ومحاسنه وهي قليلة بطبيعة الحال.
لا شكّ أنّ من أعظم الموضوعات التي اهتمّ بها المستشرقون في دراساتهم موضوع الشريعة الإسلامية، ويرجع ذلك إلى أن شبهاتهم التي نشروها -عن طريق التعليم- تدور حول فصل الدين عن الحياة، وإضعاف سلطانه على النفوس. وآية ذلك قول المستشرق جب -في كتابه وجهة الإسلام-: "كانت النتيجة الخالصة بهذه الحركة التعليمية أنها حرَّرت -بقدر ما كان لها من تأثير- نزعة الشعوب الإسلامية من سلطان الدين دون أن تُحس الشعوب بذلك غالبًا، وهذا وحده تقريبًا هو جوهر كل نزعة غربية فعالة في العالم الإسلامي" (ص: [217]، ترجمة: د. علي عثمان. القاهرة).
إذن الاستشراق جوهره هو "إبعاد سلطان الدين عن النفوس"؛ لذلك "تحاول الدراسات الاستشراقية الحديثة التركيز على أهمية القوانين الوضعية وتطبيقها على المسلمين بدلًا من شريعة القرآن..." (وجهة الإسلام، ص: [214]).
وقد استند الاستشراق -في تحقيق هدفه هذا- على ما جمعه الرهبان والقساوسة من معلومات حول الإسلام ونبيه وشريعته (أنور الجندي: أهداف الاستشراق في شبهات التغريب، ص: [95]، ط 1398هـ. المكتب الإسلامي - بيروت).
وحاول الباحثون تحديد مراحل الاستشراق -وذلك للتنبيه على خطورته- فمنهم مَنْ ذهب إلى أنّ ظهوره كان في القرن الثالث عشر وهو قريب من ظهور الحروب الصليبية. فالقرن الثالث عشر أو قبله بقليل أي في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي كانت البداية الموجهة والمنظمة لظهور الدراسات الاستشراقية (الاستشراق والمستشرقون، ص: [27-28]).
وهناك من قال: إنّ البداية القرن التاسع الميلادي؛ حبِث اهتمامات الرهبان المبكرة بالإسلام (د. محمود زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ص: [20]).
لكن ثمة تحديد آخر أدق من ذلك أشار إليه المستشرق ت. كو. بل. بيج وهو ينعى على المسلمين عدم الاهتمام بدراسة التفكير المسيحي والفلسفي والكلاسيكي، فيقول: "لن يتم إصلاح ديني إسلامي ذي بال إلا على يد فريق من المؤمنين المثقفين، ولن تتم تنشئة هذا الفريق إلا عندما يهيئ التعليم العالي في البلاد العربية فرصة البحث عن أصول التفكير الإسلامي والمسيحي والفلسفي الكلاسيكي، هذا النوع من البحث الذي ظلت الجامعات الأوروبية تعنى به منذ ألف ومائتين من السنين" (كويلر يونغ: الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته، ص: [249]. ترجمة: د. عبد الرحمن محمد أيوب. د. ت. دار النشر المتحدة، القاهرة).
وعلى هذا التحديد تكون بداية اهتمام الأوروبيين بدراسة الإسلام من قبل القرن العاشر، أي في القرن السابع الميلادي.
وعلى ذلك فيمكن القول بأن مراحل الاستشراق هي:
1- مرحلة صد الفكر الإسلامي عن أوروبا: وهي المرحلة التي كان أبناء أوربا يدرسون في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا، وهنا ظهرت بعض الكتابات التي تثير الشُّبَه التي أثارها الرهبان على الإسلام وشريعته؛ رجاء المحافظة على أبنائهم من التأثر بالإسلام وأتباعه[1].
2- مرحلة التبشير: وهي المرحلة التي صاحبت الحروب الصليبية الأخيرة، وأكبر الظنّ أنّها استفادت مما كتبه الرهبان والقساوسة في تلك المرحلة.
3- مرحلة الاستشراق: وهي المرحلة الأخيرة، وهي أشد خُبْثًا وفجاجة من المرحلتين السابقتين؛ حيث استفاد أكابر المستشرقين من أخطاء المرحلتين السابقتين القائمتين على "الشتم" و"الطعن" المباشر (انظر وصية "جب" لقومه في وجوب تغير أسلوبهم، وجهة الإسلام، ص: [24]).
ومن آفات المنهج الاستشراقي أنّ نظرته لمفهوم الدين الإسلامي كنظرته للشريعة الكنسية، ولا شكّ أنّ هذا تدليس ومُخَاتلة من المستشرقين هدفه زعزعة المعاني الأساسية للدين، عند الناس، بدعوى التغيير والتطوير للقيم والمفاهيم؛ لذا وجدنا المستشرقين يعارضون الدعوات الإصلاحية السلفية، ويتسترون وراء المسلك العقلي، متمثِّلًا في الأفغاني ومحمد عبده، وكذلك طرق الصوفية، تحت اسم العقلانية والإنسانية، وينتصرون للقومية ويُمجِّدونها، وهم في ذلك يقصدون تشكيل الإسلام وتطويره -حسب أمزجتهم العَفِنة- ليقبل القوانين الوضعية.
ومما لاحظته في كتابات المستشرقين أنهم لا يملكون القدرة العلمية على إدراك خصائص الفكر الإسلامي، ويسعون في محاربة الدين الإسلامي وصدّ الناس عنه، بلا فَهم ولا رويّة، ورائدهم في هذا المستشرقون الفرنسيون، ولا غرو في ذلك ففرنسا هي مادة الكراهية للدين الإسلامي، وهي العمود الفقري للصليبية العالمية.
كما انتابني الفزع حين رأيت أنّ الكثرة الكاثرة من هؤلاء المستشرقين يقبلون على دراسة علوم الإسلام بنوايا ماكرة عدائية، ومن أمثال هؤلاء فولتير الذي طعن في الإسلام ورسوله وصوّر نبي الإسلام عليه السلام في صورة المضلل الذي حاول أن يسيطر على الناس بالخرافات والأساطير، وتابعه مستشرقون أمثال: (رينان، وهانوتو، وكرومر، وزويمر، ودنلوب، ولافيجري).
إنّ هذه الموجات الاستشراقية كان هدفها الهجوم على العقل العربي، والقومية العربية، واللغة العربية، والعقيدة الإسلامية، والتراث الإسلامي. وإن كثيرين من أدباءنا جروا وراء المزاعم الباطلة التي ردَّدها المستشرقون، فاتهموا العقلية العربية بالقصور، أمثال: توفيق الحكيم، وحسين فوزي، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وأدونيس الذي قال عن العرب: إنهم مُقلِّدون غير مبدعين، وإنهم لم يُقدِّموا شيئًا يُذكَر للإنسانية، وإن التاريخ لا يحفظ لهم تحوُّلًا إبداعيًا واحدًا أحدثوه في أي مرحلة. وينسى أدونيس أن الإسلام ذاته هو أكبر تحوُّل إبداعي في تاريخ الإنسانية. وبالمثل رأينا د. طه حسين يتأثر بمنهج مارجليوث في حكمه على الشعر الجاهلي، ويثير الشكوك حول أصالة الشعر الجاهلي.
وقد شمل تأثير الاستشراق جوانب متعددة من الحياة الثقافية ففي الأدب نشروا عدة اتجاهات أدبية يدعو معظمها إلى الابتذال والانحلال والفساد باسم الأدب أو الفن مثل الرومانسية والرمزية والسريالية وغيرها وتشجيع الكتابة باللهجات المحلية لكل بلد؛ حتى تختفي لغة القرآن التي ابتعد كثير من أبناء المسلمين عن نقائها وفصاحتها.
كما حاول محمد أركون -ومَنْ سار على دَرْبِهِ- استخدام أساليب متعددة في الطعن على كتاب الله تعالى، زاعمين حمل لواء التجديد في التفسير والفَهْم لكتاب الله تعالى، من خلال مناهج جديدة -زعموا- في التفسير والتأويل لم يصل إليها أحد من قبلهم، ناقمين على مناهج المستشرقين، وفي حقيقة أمرهم لم يَخرجوا عن منهج المستشرقين الطاعنين في كتاب الله تعالى قَيْد أُنْمُلة، وإنما يُردِّدون ما سمعوه وتلقَّوه عنهم.
وقد كان من أثر شيوع الفكر العلماني -المتأثر بالاستشراق- في عالمنا الإسلامي المعاصر إنزال تراثنا الإسلامي من موضع القيادة إلى قفص الاتهام، بدعوى تجديد الخطاب الديني، حتى أصبح البعض ينظر إلى التراث الإسلامي على أنه تصرُّفات بدائية مُخْجِلة!
ولذلك يدعو كثير من أصحاب "تجديد الخطاب الديني" إلى قراءة "نصوص الوحي" ونصوص "التراث الإسلامي" قراءة مدنية، بمعنى قراءة "موجهة" تبحث داخل هذه النصوص عن أية مضامين تدعم "المدنية" ثم تُؤَوِّل ما يتعارض معها. وتصبح نَبَاهة الفقيه داخل هذا الاتجاه تابعة لقدرته على توفير الغطاء الشرعي لمنتجات الحضارة، وبحسب إمكانياته في تأويل ما يتعارض معها وتخريجه بشتى المخارج.
وبمعنى آخر: تحويل الوحي من "حاكم على الحضارة" إلى مجرد "مُحَامٍ عن منتجاتها"، يُبرِّرها ويرافع عنها ولا يُقبل منه دور غير ذلك! وليس يخفى أن الحكم نوع من السيادة، أما المحاماة عن الغير فحالة تبعية يقاس نجاحها بإمكانيات التبرير والتسويغ.
والسؤال المُؤْلِم الذي يفرض نفسه هاهنا: ما المساهمة الحقيقية التي يمكن أن نقدِّمها للعالم إذا كان قُصَارَى ما نقوله للغرب هو أن ممارساتكم وسلوكياتكم يمكن تخريجها على بعض الأقوال الفقهية لدينا، أو يُحتمل أن تدل عليها بعض الأدلة؟
إنهم يمارسون هذه الممارسات قبل أن يعرفونا أصلًا، كما قَفَزَت صورة الغرب من شارع الانحطاط إلى مِنَصَّة الأستاذ القديس الذي لا يَراجَع فيما يقول، وإذا لم نقتنع بما يقوله فذلك لعَيْب في فهمنا نحن لا لعَيْب فيه هو لا سمح الله!
ويمكن القول:
إن الغلو المدني أو التطرُّف العلماني هو ينبوع الانحراف الثقافي؛ إذ أَوْرَث الاستخفاف بالتراث الإسلامي؛ مما نتج عنه التغاير في مفهوم العلاقة مع الآخر، وأصبح أساس العلاقة مع الآخر ليس مبنيًا على أساس ديني، بحيث يُوالي الآخر بقدر ما فيه من موالاة الوحي والقرون المُفَضّلة، ويعاديه بقدر ما فيه من منافاة الوحي والقرون المُفَضّلة، بل أصبح أساس الولاء تجاه الآخر أساسًا مدنيًا مبنيًا على مقدار السعي المشترك لعمارة الدنيا، بغض النظر عن حجم الانتهاكات لحمى الشريعة والفضيلة.
وقد حدث تَطَوُّر في الفكر العلماني تجاه تجديد الخطاب الديني من "الاستهداف المباشر للشريعة" إلى إعادة تفسير التراث، من خلال الأدوات التي تطرحها العلوم الإنسانية الحديثة، وذلك بعد صدور أول حلقة من سلسلة نقد العقل العربي للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، المتمثلة في تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي.
وقد حاولت المدرسة الجابرية ردّ كل مفاهيم التراث الإسلامي التشريعية والسلوكية إلى الثقافات السابقة للإسلام وتصوير التراث كحالة اقتراض ثقافي، واستبعاد الوحي من أن يكون منبعًا لتلك التصورات.
والتصور المطروح عن الفكر الغربي -عند الاتجاه العلماني- ليس تصورًا علميًّا، بل هو تصوّر قائم على التمجيد والهُيَام أقرب منه إلى القراءة المعرفية، فخطاب غلاة المدنية عن الغرب هو خطاب تبشيري، وليس -كما يزعمون- خطابًا تحليليًا.
وبعض غلاة المدنية قد أغلق الباب بينه وبين نقاد الثقافة الغربية، عن طريق مسلمة مسبقة، وهي أن "نقد الثقافة الغربية ناشئ عن الجهل بها" فكلما رأى ناقدًا للثقافة الغربية افترض أنه ينقدها بسبب أنه لا يعرفها. وهذا تصور غير صحيح بتاتًا.
كما كان للمجال الاجتماعي نصيب كبير من الاهتمام الاستشراقي لتغيير التركيبة البشرية ولإحلال قيم جديدة محل القيم المستمدة من الإسلام وخاصة في قضايا الأسرة، وبالأخص قضايا المرأة فيها وعلاقتها بالرجل وتفضيل النموذج الغربي للحياة على النموذج الشرقي المسلم وربط تقدُّم الغرب بمدى انفلات أفراده الخلقي ومروقه من رَبْقَة الدين وإهماله وتهميشه لقيمة الزواج كسبيل وحيد لعلاقة الرجل والمرأة.
لقد كان الاستشراق ظاهرة فكرية لعبت دورًا خطيرًا في الفكر والحضارة العربية قديمًا وحديثًا، فقديمًا أخذ الاستشراق العلوم والآداب والفنون عن المسلمين، ونقلها إلى الغرب حيث أقام نهضته العارمة على دعائمها، وبلغ ما بلغه الآن من التقدُّم والرقي والازدهار، وحديثًا أخذ الاستشراق الأفكار والنظريات، والآراء الغربية المؤسسة على الثقافة العربية الإسلامية فردها إليهم مؤثرًا بذلك في نهضتهم المعاصرة أبلغ التأثير.
وأنا زاعم أنّه عندما تحطمت آمال الغرب الخبيثة وأحلامه الدنيئة على أسوار مقاومة العرب العنيفة أقام بالخيانة والغدر والتآمر الدولي قاعدته المشهورة الممثلة بالصهيونية التي تعمل كلّ ما في وسعها لمحاربة كلّ ما هو عربي أو إسلامي في أنحاء العالم فلم يعد "ما بيننا وبين إسرائيل صراعًا على حدود، وإنما هو صراع على وجود" (محمد حسنين هيكل: طريق على خريطة الأزمة "الأهرام"، 10 من مارس 1970م).
لقد خرج الاستشراق من رَحِمِ الصراع الوجودي المستمر بين العرب والغرب، فحاولت أوروبا جاهدةً معرفة حضارة الشرق؛ إذ "لكل فرد يمثل تلك الحضارة موقف وجودي، وفي هذا الموقف ولدت الحقيقة التي نحاول جلاءها تعبيرًا عن ذلك الموقف، أو تسكينًا له وتخفيفًا، وكل ذلك في حاجة إلى أن نتبصره ونتدبره" (جوستاف فون: دراسات في الأدب العربي. ص: [60]، ترجمة إحسان عباس وآخرين، ط 1959م. مكتبة الحياة – بيروت).
ومن هذه اللحظة حاول أصحاب الاستشراق التعرف على الشرق والتغلغل في آفاقه الفكرية بدراسة آدابه وثقافته، ولهم منهاجهم وأهدافهم التي تبدو واضحة من خلال مؤلفاتهم وترجماتهم وتحقيقاتهم فأثروا بطريقة أو بأخرى في النهضة العربية الحديثة.
لذا تأتي أهمية الدراسات والبحوث التي تهتم بالظاهرة الاستشراقية، وتهدف إلى بثّ الوعى الثقافي والفكري بين أبناء الأمة؛ لتنير لهم الدرب، فلا يقعون فريسة الأفكار الاستشراقية الهدّامة التي ما زالت تجد قبولًا لدى بعض أبناء هذه الأمة المكلومة. وذلك لمواجهة هذه الحركة الفكرية الماكرة التي غلبت عليها مناهج تعبر عن بنية الوعي الأوروبي التي تكونت عبر حضارته الحديثة، مثل: المناهج التاريخية، والتحليلية، والإسقاطية، والأثر والتأثر (د. حسن حنفي: مقدِّمة في علم الاستغراب، ص: [31]، ط 1411هـ / 1991م. الدار الفنية – القاهرة).
ومن المآخذ على جلّ المستشرقين ومناهجهم -أيضًا- هو انتقاء الضعيف الشاذ من الروايات، طالما أنّها تحقق أهدافهم، والإعراض عن الروايات الصحيحة المتواترة. إلى جانب البعد عن الموضوعية، والتأسيس على موقف مسبق مثل "الإسلام لا يمثل منافسًا رهيبًا فحسب بالنسبة إلى الغرب، بل إنّه يمثل كذلك تحديًا متأخرًا للمسيحية" (د. إدوارد سعيد: تغطية الإسلام، ص: [36]، ترجمة سميرة خورى، ط 1983م - بيروت).
مما يتنافى وما يزعمه المستشرق بارت -مثلًا- من نوايا علمية خالصة (د. إدوارد سعيد: تغطية الإسلام، ص: [10]، ترجمة سميرة خوري. ط 1983م. بيروت).
وكذا الاضطراب في تطبيق المناهج، كمحاولاتهم إخضاع ما هو غيب مناهج مادية صرفة، علمًا بأنّه إذا أخضع الغيب للحس والعقل لا يكون غيبًا ولا يكون دينًا (د. حسن حنفي: مباحث في المعرفة في الفكر الإسلامي. ص: [90]. ط 1971م. دار المعارف - القاهرة).
وأنت واجدٌ مِنَ المستشرقين مَنْ وَصمَ مناهج الإسلام الفكرية بالتشدد وأنّها بالية، ونظر إليها نظرة الازدراء، بل إنّ المستشرق المعاصر فرنسيسكو غابريلي قد أبعد النجعة حين أنكر أن تكون لدى المسلمين مناهج معاصرة أصلًا.
ومن الآثار السلبية للاستشراق سعي المستشرقين الحثيث لتشويه صورة الإسلام لدى الغربيين والمسلمين على حدٍ سواء للقيام بدور دفاعي ودور هجومي في آن واحد. ولا شكّ أنّ هذا تصرُّف في منتهى الخُبثِ، وقع في شِرَاكِهِ كثير من الدَّهْماء.
كما حاول المستشرقون تطبيق مذهب الانشطارية على الفكر الإسلامي، من خلال الدعوة إلى الانفصال بين الحاضر والماضي. فإنكار الماضي كلية مع الدعوة إلى الانفصال عنه تُعتبَر من خصائص الفكر الغربي، وهو ما يحاول بعض المستشرقين نقله إلى الفكر الإسلامي.
لكن آثار الاستشراق لم تكن كلها سلبية فقد كان هؤلاء الأجانب أصحاب فضل في الكشف عن التراث وفي الصون والتقويم والفهرسة والتصنيف والترجمة والتأليف والتحقيق العلمي، وفي إنشاء دوائر المعارف، وفي جمع المخطوطات من كل مكان. كما أسدوا لعلم الجغرافيا عند العرب خدمات جليلة في هذا الميدان.
ومن العسير الالتقاء في مصنفاتهم بما يمكن أن يشتم منه ذلك البغض والتحامل الذي انعكس في آثار مستشرقين آخرين في مجالات أخرى من مجالات العلوم الإسلامية والعربية.
وقامت حركة الاستشراق بنشر الكثير من نفائس التراث الإسلامي نشرًا علميًّا موسعًّا من اليسير الانتفاع به، وهذا فضل للاستشراق لا يمكن غض الطرف عنه مهما تكن بواعث المستشرقين في ذلك؛ لذا فالاستشراق ينطبق عليه عبارة سيّارة: لكل حادثة حديث؛ فنحن نرحب بكل فكر ما دام ليس فيه عدوان على الإسلام.
كما أنّ أصواتًا استشراقية قليلة كانت علمية وموضوعية ومحايدة، وحاولت أن تقدم الحقيقة في إنصاف، كما اعترفت باليد البيضاء للإسلام على أوروبا وذكرت فضل علماء المسلمين في الطب والفلك والرياضيات والفلسفة، وفي حفظ تراث أرسطو وترجمته وشرحه ونقده، ولاحظت أثر شعراء الأندلس العرب في شعر التوربادور في إسبانيا، وأثر العناصر الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي.
وفي ختام القول يمكننا أن نؤكد أنه لا بد للمسلمين من دراسات أكاديمية جريئة تناهض المستشرقين وتهدم بنيان أفكارهم؛ فأزمة الاستشراق هي أزمة المناهج، وليست أزمة التطبيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1]- ("إنّ الدافع لهذه البدايات المبكرة للاستشراق كان يتمثَّل في ذلك الصراع الذي دار بين العالمين الإسلامي والنصراني في الأندلس وصقلية؛ ولهذا يمكن القول بأنّ تاريخ الاستشراق في مراحله الأولى هو تاريخ للصراع بين العالم النصراني الغربي في القرون الوسطى والشرق الإسلامي على الصعيدين الديني والأيديولوجي، فقد كان الإسلام -كما يقول ساذرن- يٌمثِّل مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم النصراني في أوروبا على المستويات كافة" الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري. ص: [21]).
ـــــــــــــــــــــ
من الكتب التي استفاد منها الكاتب -أيضًا-:
1- (د. يحيى مراد: من قضايا الاستشراق. د. ت).
2- (د. محمد خليفة حسن أحمد: آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية. ط1. 1997م، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية - القاهرة).
3- (د. عابد السفياني: المستشرقون. ط2، 1412هـ/ 1992م. دار المنارة – جدة).