صرخة من ابن أسير
كنت يوماً في زيارة لأسرة أحد الإخوة الأسرى وما أكثرهم، فلفت انتباهي ابنه وهو يطوف في فناء البيت ويتنقل يمنة ويسرة، فلا يكاد يقر له قرار، تأمّلت في محياه، فلمحت الكآبة والأسى مرسومة عليه، ويكاد ينطق سائلاً: أين أبي؟ فتملكني شعورٌ عجيبٌ وهاجت في خاطري مشاعرُ متوالية، فتمثلتُ حاله وهو يحكي مأساته، ويبث شجونه، ويخاطب خواطره، فكانت هذه الكلمات المنظومة، والعبارات المرسومة، يحكيها لنا بلسان حاله، لما عجز عنها مقاله:
- التصنيفات: قصص مؤثرة -
أبي قد مزّقتْ قلبي الكلوم *** وبين جوانحي تحيا الهموم
تراني في الورى أمشي كئيباً *** كأني من تنكرهم يتيمُ
أقول ألا أرى منكم خليلاً *** به تُجلى عن النفس الغيومُ
ولكن من يُجيب؟ ومن أنادي *** لعمري حلَّ بي خطبٌ جسيمُ
تطاردني نواظرهم وإني *** نظرتُ إذا بها حولي تحومُ
أروح وأغتدي في كل يومٍ *** ولكن يا أبي من ذا أروم
كساني الحزنُ ثوباً فوق ثوبٍ *** فظن الناسُ بي أني سقيمُ
وما بي علةٌ إلا افتقادي *** حُنُوَّ أبي فصرتُ كمن يهيم
تفيض الذكرياتُ على فؤادي *** فمنها ترتوي عينٌ سَجومُ
فأذكركم أبي في كل صبحٍ *** وأذكركم إذا بدت النجومُ
لقد طال الغياب أبي فقلبي *** أحاط بنوره ليلٌ بهيمُ
يمرُّ العيدُ تِلوَ العيد فينا *** وعيدي دونكم لا يستقيم
فعيدُ الناس أفراحٌ وعيدي *** وعيدٌ تلتقي فيه الغموم
أرى أُمّي الرؤوفة في اكتئابٍ *** وقد هدَّت جوانبَها السقومُ
طوت في صدرها بثاً وشجواً *** تَفجَّرَ في الحشا منه الحميمُ
أسائلها أيا أُمَّاه قُولي *** ولا تُخفي فصبري لا يدومُ
فَسُحَّتْ من مآقيها دموع *** يذوب لشأنها القلبُ السليمُ
أيا أُمّاه إني لستُ أدري *** ألوم النفسَ أم مَن ذا ألوم
أعدتُ سؤالها والدمعُ مني *** على خدّيَّ همَّارٌ طَحوم
أمات أبي؟ فقالت: لا ولكن *** أسيرٌ عاقه طاغٍ غشوم
بأيّ جريرة أسروه قولي *** أكَون أبي يُصلِّي أو يصوم؟
ألم يكُ داعياً للحق جهراً *** وقد آذاه في ذاك الخصومُ؟
ألم يكُ سالكاً نهجاً سويٍ *** يُنيرُ طريقَه نورٌ عميمُ؟
ألم يكُ داعياً في كل حينٍ *** إلى التوحيد بالحسنى يقوم؟
ألم يكُ يبعث الآمالَ فينا *** ويبنيها وقد عفت الرسومُ؟
أليس أبِي أبَى ذلاً فماذا *** جنى حتى يُكبِّله اللئيمُ؟
ألم يكُ يُطعم المسكينَ دوماً *** ويَطربُ حين يلقاه العديم؟
يكادُ يذوبُ من كمدٍ إذا ما *** غَدَا في بحر أُمّتنا يعومُ
أصار أبي أسيراً دون ذنبٍ؟ *** فماذا يبتغي منه الظلومُ؟
ألا تباً لطغيانٍ تمادى *** يقود جيوشَه ذاك الرجيمُ
فصبراً يا أبي عمّا قريبٍ *** يُبدِّدُ شملَ أحزاني الصَّروم
فقد ولىّ زمان النوم عَنَّا *** ولا يُخزي أعادينا النؤوم
فإن المجدَ لا يبنيه قومٌ *** رضوا عيشاً يحف به النعيم
ولكن يبلغُ الأمجاد قومٌ *** تمنّت بُعْدَ شأوهمُ النجومُ
ويا أُمّاه صبراً إن يوماً *** قريباً يحكم الشرعُ الحكيمُ
حسن القائد