درس عملي في المُحْكَم والمتشابه (الاختلاط أنموذجًا)

في هذه السنوات الأخيرة نعيش ظاهرةَ الاستدلالِ بالمتشابه والإعراض عن المُحْكَم،مع محاولة تخريج النصوص المُحْكَمة تخريجًا يبعدها عن ساحة الحكم بين الناس، ممّا يُمهِّد لإشاعة أي فكر منحرف في أوساطهم. فكيف نفرق عمليًّا بين المحكم والمتشابه؟

  • التصنيفات: الفقه وأصوله - قضايا إسلامية معاصرة -

يُشكِّل الحديث عن المُحْكَم والمتشابه في هذه السنوات الأخيرة أهمية فائقة؛ لأننا نعيش وبامتياز ظاهرةَ الاستدلالِ بالمتشابه والإعراض عن المُحْكَم، أو على الأقل محاولة تخريج النصوص المُحْكَمة بأي نوعٍ من أنواع التخريج بُغيةَ إبعادها عن ساحة الحكم بين الناس، وبالتالي إقصاء دلالتها عن التأثير في عموم المسلمين.

ممّا يُمهِّد لإشاعة أي فكر منحرف في أوساطهم، لكون ما يحميهم من النصوص المُحْكَمة في الكتاب والسُّنَّة قد أصبح وراء الظهور.

لا يَخْفَى على المشتغلين بالعلم الشرعي أنَّ مِن أنواع المتشابه: النصوص التي تحتمل معنًى لا يكون مرادًا للشارع الحكيم.
ولمّا كان الخصوم في المسائل كلُّ يدّعي أنَّ ما معه من النصوص مُحكم، وما عند خصمه متشابه؛ اقتضى الحالُ أن يُبيَّن بالمثال كيف يُعرف هذا النوع من المتشابه الذي هو أكثر الأنواع شيوعًا في هذا العصر.

وليكن أمر الاختلاط الذي أَوْجَد فيه بعضُ الناس اليومَ خلافًا في حكمه. فسأذكر دليلًا واحدًا لمانعيه، وآخر لمبيحيه؛ بغرض تجلية الأمر.

روى أبو دَاوُدَ [5272] وغيره عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: «استأخرن؛ فإنه ليس لكُنَّ أنْ تحققنَ الطريق -أي: ليس لكُنَّ أنْ تَسِرْنَ وسطها-، عليكنَّ بحافات الطريق»، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إنَّ ثوبها ليتعلق بالجدار مِنْ لُصُوقها به.

هذا النص الذي أمامك دلالتُه وموضوعه الأصليُّ هو: الأدب الذي ينبغي أنْ تتحلَّى به المرأةُ وهي في الطريق، ألا وهو: البُعْد عن الرجال، ولهذا ترى أبا داود يُبَوِّب عليه (بابٌ: مشيُ النساء مع الرجال في الطريق).

والتوجيه النبوي لا لُبْسَ فيه، صريحٌ في دلالته على الأمر بلزوم النساء حافة الطريق إذا كان ثَمَّة رجال، ولوضوح هذا التوجيه النبوي كان امتثال الصحابيات رضي الله عنهنَّ مباشرًا دون استفصال.

والتعليل لهذا الأمر النبوي منصوصٌ عليه، وهو: حصول الاختلاط: "فاختلط الرجال مع النساء". ولوضوح هذه المعطيات لن يتردد طُوَيلب العلم -فضلًا عن المجتهد- باستخلاص نتيجة هي: وجوب ابتعاد النساء عن الرجال في الطرقات، وإنما تنحاز المرأة إلى حافة الطريق، فيكون بينها وبين الرجال مسافة يصح معها حينئذٍ أن يُقال: إنها غير مختلطة بهم. وهذا الحكم مُفاد من النص بطريق المطابقة.

ويستطيع الفقيه بعد ذلك باستخدام عموم المعنى أو قياس الأَوْلَى أنْ يستنبط منع الاختلاط في غير الطرقات؛ فإنه إذا مُنِعَ منه أشرفُ الناس بعد الأنبياء، في الطريق العابر، في الوقت القصير، في وَضَحِ النهار، مع وجود الحجاب، حالةَ الخروج من أطهر البقاع، بعد أشرف العبادات العملية؛ فمن باب أَوْلَى أنْ يُمْنَع في أماكن المُكْث الطويل في أزمان الرِّيَب، والبُعد عن الحجاب، وضعف الإيمان.

كلُّ هذا لأنه -أي: الفقيه- أمام نص لا يحتمل اللُّبس إلا على جهة المكابرة والسفسطة، وبالتالي لا يمكن بحالٍ وصفُ هذا النص بالمتشابه، بل هو من الإحكام بمكانٍ.

أما المجيزون فإنهم يستدلون على إباحته بما رواه البخاري [101] وغيره عن أبي سعيد الخدري: قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبَنَا عليك الرجالُ؛ فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدهنَّ يومًا لقيهن فيه، فوعظهن، وأمرهن، فكان فيما قال لهنَّ: «ما منكنَّ امرأةٌ تُقَدِّم ثلاثةً مِن وَلَدها؛ إلا كان لها حجابًا من النار». فقالت امرأةٌ: واثنين؟ فقال: «واثنين».

فهذا النص عند المجيزين مُحْكَم في إباحة الاختلاط.

وأقول: بل هو في أمر الاختلاط في أحسن أحواله من المتشابه، إنْ لم يقل قائل:إنه لا تعلُّق له به البتة.

وبيان ذلك: أنَّ دلالة الحديث الأصلية في شِقِّه الأول هي: طلب النساء للعلم الشرعي، وتخصيصهن بذلك دون الرجال، ولهذا ترى البخاري يُبَوِّب عليه فيقول: (بابٌ: هل يُجْعَل للنساء يومٌ على حدةٍ في العلم).

فإذنْ ليس هو في حكم الاختلاط ابتداءً –وهذا ليس بشرطٍ للإحكام ولا لعدمه، ولكنه قرينة–، بخلاف النص الأول؛ فإنه في أمر الاختلاط ابتداءً، وهذا على كل حالٍ وجهُ ترجيحٍ لا ينبغي إغفاله.

كما أنه من المحتمل أن تكون هذه الحادثة قبل فَرْض الحجاب أصلًا. وليس في النص دَلالة على عدم وجود الحجاب بين النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبين النساء رضي الله عنهنَّ.

والفارق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بقية الرجال من جهة التقوى والعصمة وغض البصر وغير ذلك لا يُنْكَر، الأمر الذي يَصْعُب معه الاقتداء، والحكم بالجواز، هذا لو سُلِّم كل ما تقدم.

وقد يَقْلب المانعون ظهرَ المِجَن للمجيزين؛ فيقولون لهم: هذا النص دليلٌ على منع الاختلاط، لا إباحته.

وبيان ذلك: أنه لو كان الاختلاط جائزًا، وكان هو الأصل؛ لكان حال النساء في الأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله؛ كحال الرجال، فلم يكن هناك غالب ومغلوب -وهو ما يحدث في مقاعد الدراسة المختلطة-، ولقيل لهنَّ: تعالَيْنَ وساوينَ الرجال في مكانكنَّ من النبي صلى الله عليه وسلم، أو اجلسنَ بين ظهراني الرجال، أو تقدَّمنَ عليهم. ولا شك أنَّ هذا يتضمن توفيرًا للوقت وللجهد، فقائد الأُمَّة بأَمَسِ الحاجة إليه صلى الله عليه وسلم.

كما أنَّ ما ذُكِرَ في الحديث في شأن مَنْ فقدت أولادًا؛ يشمل الرجال والنساء، فهو ليس شأنًا نسائيًّا محضًا فيقال: تخصيص النساء لهذا السبب.

وبالجملة؛ فهذا النص هو إلى منع الاختلاط أقرب منه إلى إباحته، نعم؛ لكنه ليس في صراحة النص الأول للمانعين، وهو -فيما يتعلق بأمر الاختلاط- من المتشابه الذي يجب أن يُردّ إلى المُحْكَم.

وصدق شيخ الإسلام حين ذكر أن ما يَسْتدل به أهلُ البدع من المتشابه يكون فيه ما يُردُّ به عليهم. لكنهم في غمرة البحث عن دليلٍ يُسْعفهم يَضلون عن التنبُّه لما يَرِدُ عليهم.

وأحسب أنَّ القارئ الكريم قد ظهر له بالمثال شيئًا من كيفية تمييز النصوص المتشابهة؛ فليكن هذا منه على بالٍ، فإنَّ كثيرًا من الاستدلالات المعاصرة هي من هذا القبيل.

وإنه لمن المخجل محاولةُ التشغيب في أمر الاختلاط في الوقت الذي يحكي فيه العلماء الإجماع على حرمته، فهذا أبو بكر العامري يؤلف رسالةً في الرد على بعض مُدَّعِي الزهد ممّن أباح لنفسه النظر للنساء وجَمْعَ الرجال والنساء في مجلس واحد؛ بزعم أنه لا بأس في ذلك في مجلس الذكر!

فيقول: "ثم قد اتفق علماء الأمة أنَّ مَن اعتقد حِلَّ هذه المحظورات وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان الأجانب؛ فقد كفر واستحق القتل بِرِدَّته، وإنْ اعتقد تحريمه وفَعَلَه وأقر عليه ورضي به؛ فقد فَسَقَ، لا يُسمع له قولٌ، ولا تُقبل له شهادةٌ، فضلًا عن أنْ يُظَن به زهادةً أو عبادةً...".

ثم يُبيّن المفاسد في هذا الأمر فيقول: "فيه معاصٍ لا تُحصى؛ منها: أنه إذا اختلط الرجال بالنساء، وجَمَعَهم موضعٌ واحدٌ، ونظر بعضٌ إلى بعضٍ؛ وقع في قلب الرجل شيءٌ من المرأة، وفي نفس المرأة شيءٌ من الرجل..." إلخ.

ويبيّن العامري: أنه يحرم على السلطان إقرارُ مدّعي الزهد إغواءه (الشباب...وبعض النسوان بالاجتماع في مجلسٍ واختلاط بينهم في عِشْرةٍ أو سماع بنفوس جاهلة وقلوب غافلة...وليس هناك وازعٌ مِن دينٍ أو علمٍ أو تقوى، ويوهمهم ذلك الشيخ الملبّس ما أوهمه إبليسُ أنَّ القلب سليمٌ، وليس فيه غش، ولا معصية، فلا يضر هذا الحضور والاجتماع). (ما بين الأقواس من كلامه. أحكام النظر إلى المحرمات [ص81- 84]).

ومَن قرأ هذا الكلام قال: ما أشبه الليلة بالبارحة. فَمُبِيحي الاختلاط الآن كأضرابهم في السابق؛ يخدعون أنفسهم بالقلوب السليمة والمجالس المحفوفة بالوقار، المشغولة عن الفتنة بالعلم.

وما الأمر إلا تلبيس إبليس، وإلا فإنَّ أئمة الإسلام يؤكدون على ضرورة البُعْد بين الجنسين حتَّى في البلد الحرام وبجوار الكعبة المشرفة، وفي هذه يقول ابنُ جماعة عن المرأة: "ولا تدنو من البيت مخالِطةً للرجال". كما اشترط لفعل المرأة سنن الطواف: "إذا لم تُفْضِ إلى مخالطة الرجال"، و"هذا ممّا لا يكاد يُختلف فيه". (هداية السالك [2/ 864]).

هذا رأي أئمة الإسلام في شأن الاختلاط في أطهر البقاع مع الحجاب.

فماذا يكون رأيهم عن الاختلاط مع اختلاف الدِّين، ونزع الحجاب، في وقتِ اعتبار ممارسة الفاحشة حرية شخصية؟

وعند ذلك هل يكون هناك محلٌ للإباحة؟

وهل الأمر إلا مجرد استدلالٍ بالمتشابه؟

عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ‌ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ ۗ وَالرَّ‌اسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَ‌بِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ‌ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7]. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتِ الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم». (رواه البخاري[4547]، ومسلم [2665]).

 

منصور بن حمد العيدي

المصدر: موقع الدرر السنية