(1) مفهوم التربية

محمد المصري

أهم الأسباب من وراء عدم إيجاد العقول الإسلامية المبدعة القادرة على صناعة الحدث والاضطلاع به، والقيام بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم حين يغيب الصف الأول لأي سبب من الأسباب الخارجة عن الإرادة الذاتية للدعاة، هو الخلل في تصور وعرض قضية التربية، وخاصة لدى القيادات الذين يقومون بعملية التربية.

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - تربية الأبناء في الإسلام -

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
فهذا المبحث هو لعرض قضية (التربية عند أهل السنة والجماعة)، ولعله لن يخالفني الكثير إن قلتُ: إن مجموعة كبيرة، من أمراض العمل الإسلامي ترجع إلى اختلال المسالة التربوية فيه من حيث التصور أو الممارسة، ذلك أن التربية هي الإطار الأساس الذي يتم داخله تشكيل القيادات والجنود على حد سواء، فهي صمام الأمان الذي يضبط المسيرة الدعوية داخل الصف اصطفاءً واستيعاباً، ثم ترقيةً وتزكيةً، ثم تخريجاً وتأهيلاً..

وقد لاحظنا أن كثيراً من الخلافات وكثيراً من الآفات، وكثيراً من التعثرات الواقعة في العمل الإسلامي إنما هي انعكاس طبيعي لخلافات وآفات، وتعثرات تربوية خاصة، ومن هنا كان قدر كبير من نجاح مسيرة العمل في مختلف جوانبه، مرتبطاً بشكل مباشر أو غير مباشر بما يحققه من نجاح، في المسألة التربوية، تصوراً وممارسة (*).

وربطنا لـ(قضية التربية بأهل السنة والجماعة) لنخرج بمفهوم التربية عن التباسات أصحاب البدع والضلالات، والذين زاغوا في مجال التربية باعتمادهم مناهج للتربية بعيدة كل البعد عن مناهج أهل السنة والجماعة، ويأتي عرضنا لهذا الموضوع ضمن موضوع (أزمة العقل المبدع).

وهنا نأتي لعرض حقيقة هامة جداً وهي أن أهم الأسباب من وراء عدم إيجاد العقول الإسلامية المبدعة القادرة على صناعة الحدث والاضطلاع به، والقيام بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم حين يغيب الصف الأول لأي سبب من الأسباب الخارجة عن الإرادة الذاتية للدعاة، هو الخلل في تصور وعرض قضية التربية، وخاصة لدى القيادات الذين يقومون بعملية التربية، لذلك وجب علينا أن نعرف معنى التربية، وما هي المعالم الرئيسية في قضية التربية كما وضحها المنهج النبوي؟

التعريف:
التربية (لغة): ترجع مادة (ربب) في اللغة إلى معاني (النمو، والإنماء، والعلو، والكثرة، والجمع، والسيادة)، وهذه كلها أصل واحد يدل على الإنماء..
يقول الراغب الأصفهاني: "الرب في الأصل: التربية: وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً، إلى حدّ التمام يقال: ربَّه وربَّاه وربَّبَه"، وقال ابن منظور: "السحاب يُربُّ المطرَ: يجمعه وينميه، والمطر يَرُبُّ النبات والثرى ينميه، وربَّ المعروفَ والصنيعةَ يَرُبُّها رَبًّا، وربَّبها: نمَّاها، وزادها، وأتمها، وأصلحها".

وأما (التربية) في التداول الاصطلاحي الدعوي فهي: تعهد الفرد المسلم بالتكوين المنتظم، بما يرقيه في مراتب التدين تصوراً وممارسة، فالتربية بهذا المعنى عملية شمولية نظراً لشمولية أهدافها المرتبطة بالتدين الإسلامي الشامل، ذلك أن التعبد في الإسلام غير مختزل فيما يسمى عند الفقهاء بالعبادات المحضة، بل هو متعدد إلى جانب العادات والمعاملات أيضاً.

ومن هنا كانت التربية الإسلامية متعلقة بتصحيح التصورات، ثم تصحيح التعبدات، ثم تصحيح السلوك الاجتماعي، وكل هذا يتطلب توظيف معلومات شتى لها علاقة بمختلف جوانب الحياة بصورة أو بأخرى، باعتبارها أدوات إجرائية، تساعد على فهم النصوص الشرعية، وحسن تنزيلها تربوياً في حياة الفرد والجماعة، ولبيان المعالجة الشمولية التي تتم في إطار التربية الإسلامية للإنسان ننقل كلاماً نفيساً للأستاذ محمد قطب، يبين ما نهدف إليه وما نرومه بمصطلح التربية، من حيث هو عملية تنزيلية..

يقول حفظه الله: "طريقة الإسلام في التربية هي معالجة الكائن البشري كله، معالجة شاملة لا تترك منه شيئاً، ولا تغفل عن شيء (جسمه، وعقله، وروحه، حياته المادية والمعنوية..) وكل نشاطه على الأرض، إنه يأخذ الكائن البشري كله، ويأخذه على ما هو عليه بفطرته التي خلقه الله عليها، لا يغفل شيئاً من هذه الفطرة، ولا يفرض عليها شيئاً ليس في تركيبها الأصيل! ويتناول هذه الفطرة في دقة بالغة، فيعالج كل وتر منها، وكل نغمة تصدر عن هذا الوتر، فيضبطها بضابطها الصحيح، وفي الوقت ذاته يعالج الأوتار مجتمعة، لا يعالج كلاً منها على حدة، فتصبح النغمات نشازاً لا تناسق فيها، ولا يعالج بعضها ويهمل بعضها الآخر، فتصبح النغمة ناقصة غير معبرة عن اللحن الجميل المتكامل، الذي يصل في جماله الأخاذ إلى درجة الإبداع..".

فالتربية إذًا عملية معقدة يجب أن يراعى فيها كل ما يساعد على تمثل الإسلام في الحياة البشرية (روحياً، وعلمياً، ونفسياً، واجتماعياً، ورياضياً.. إلخ)، ومن الخطأ قصر التربية على جانب التزكية الروحية دون سواها، أو العكس (1)، وهذا المعنى كان واضح عند السلف.

يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]: "والربانيون واحدهم رباني منسوب إلى الرب، والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور، روي معناه عن ابن عباس" (2).

يُتبع بمقال آخر بإذن الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) التوحيد والوساطة في التربية الدعوية كتاب الأمة عدد47.
(1) التوحيد والوساطة في التربية الدعوية كتاب الأمة عدد47.
(2) انظر رسالة (ربانية التعليم) من سلسلة رسائل العين، وانظر تفسير القرطبي.