(3) منهج التكوين - التربية بين المصدرية والمرجعية
محمد المصري
إن الحركة الإسلامية حين تقرر برنامجاً تربوياً تكون مادته هي كتب فلان، أو أذواق فلان، أو أوراده باعتبارها المنبع الأساس والمعتمد الأول في بناء الصف الإسلامي، تكون قد أضفت عليها أنواعاً من القداسة الشعورية لدى المتربين من حيث تدري أو لا تدري، وينتج عن ذلك مرض تربوي خطير..
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - تربية الأبناء في الإسلام -
ج- اعتماد منهج التكوين:
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم، كما تبين يعتمد شيئاً غير القرآن وسنته المطهرة، باعتبارها تفسيراً له، وكان يوجه الصحابة إلى اكتشاف قدراتهم الذاتية، ومواهبهم الفطرية، وتنميتها بالعمل قائلاً: «اعملوا فكلُ ميسرُ لما خُلق له»، محارباً بذلك العقلية الاستهلاكية التواكلية، ويقرُّ المختلفين من أصحابه، على الاجتهاد، المصيب منهم والمخطئ، على السواء كما هو معلوم في حديث بني قريظة المشهور، مربياً إياهم ومشجعاً لهم على التزام العقلية الاجتهادية المبادرة، وكثيرة هي المفاهيم التي أوصلها صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه عن طريق السؤال أولاً، حتى إذا سُئلوا أَعَمْلُوا فِكْرَهُم، محاولين التوصل إلى الإجابة، فإما أجابوا وإما عجزوا، ويكونون حينئذ قد تلقوا درساً في ضرورة التفكير الشخصي، والاستقلال العقلي في الفهم والاستنباط، ثم يقرهم على جوابهم، أو يصحح لهم بإجابته صلى الله عليه وسلم.
ونماذج هذا الأسلوب كثيرة جداً، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما العَضَه؟» (صحيح الجامع:85) نقلُ الحديث من بعض الناس إلى بعض، ليفسدوا بينهم، وقوله: «أتدرون ما الغيبة؟» (صحيح مسلم:2589)، وقوله أيضاً: «أتدرون مَن المُفلس؟» (صحيح مسلم:2581)، وقوله أيضاً: «أتدرون ما هذان الكتابان؟» (مسند أحمد)، مشيراً إلى يمينه وشماله، وقوله كذلك: («هل تدرون ما الكوثر؟» (صحيح مسلم)، وقوله: «يا أبا ذر! أترى أن كثرة المال هو الغِنى؟» (صحيح الجامع)، إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية، المبنية على السؤال والجواب، ومما يبين تكوينية المنهج النبوي في التربية أنه صلى الله عليه وسلم كان يراعي الخصائص الذاتية لكل فرد من الصحابة، ولا يسعى إلى تربيتهم على نمط واحد، وإنما يكونهم بما يناسب مواهبهم وشخصياتهم على اختلافها، ولذلك كان جوابه يختلف كلما سُئل: «أي الأعمال أفضل؟»، مراعياً بذلك حال السائل وطبيعته، فيجيب مرة بقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال، الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد..» إلى آخر الحديث، ويجيب مرة أخرى بقوله: «أفضل الأعمال، الصلاة في أول وقتها»، وكذلك: «أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً..» الحديث إلخ، وينظر إلى عبد الله بن عمر فيري فيه أهلية لصلاة الليل، فيقول فيه: «نِعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل».
ويُسْلِمُ خالد بن الوليد وهو قائد عسكري بطبعه، فيزكي فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الموهبة، ويوجهها إلى خدمة الحق، ولا يميل به إلى الإكثار من صلاة الليل، أو رواية الحديث، ولكن يقول فيه: «نِعمَ عبدُ الله، خالد بن الوليد: سيف من سيوفُ الله»، ويقول في أبي عبيدة بن الجراح: «إن لكل أمة أمينا،ً وأن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح»، ويدعو صلى الله عليه وسلم لابن عباس قائلاً: «اللهم علّمه الحكمة، اللهمّ علمه الكتاب»، وقال صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عُمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجراح»، إلى غير ذلك من الأحاديث، التي تدل على وعي النبي صلى الله عليه وسلم بمواهب أصحابه وخصائصهم الذاتية، وعلى تربيته صلى الله عليه وسلم لهم بناءً على ذلك، مما يؤكد بعده عليه السلام عن التربية النمطية ذات النموذج الجاهز والمتكرر عن نسخة واحدة هي (الوسيط) لا غير، وبذلك يكون الرسول المربي صلى الله عليه وسلم مكوناً لا ملقناً، ومربياً لا وسيطاً (1).
د- التربية بين المصدرية والمرجعية:
من أهم ما يلاحظ ابتداءً، في الفرق بين التربية التوحيدية والتربية الوساطية، أن التوحيد يقوم في مادته التربوية، على النصوص الشرعية، فنصوص القرآن والسنة النبوية هي المصادر الوحيدة للعمل التربوي، وهو ما أكده سيد قطب رحمه الله في وصفه للجيل القرآني الفريد (جيل الصحابة) حينما قال: "كان النبع الأول، الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن، القرآن وحده، فما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه إلا أثراً من آثار ذلك النبع"، فالمصدرية الوحيدة حينما تكون للقرآن والسنة في المجال التربوي تضمن السلامة من كثير من الأمراض التربوية، مما سوف نذكره بحول الله..
فكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، هما صمام الأمان الواقي من الضلال، إذا أحسن توظيفهما بضوابطهما الشرعية، وقواعد تفسيرهما وفهمهما، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا، حتى يردا عليَّ الحوض»، نعم لا بد من اعتماد منابع أخرى للتربية، تساعد على فهم النصوص الشرعية، وفهم النفس الإنسانية والمجتمع الإنساني، والواقع المتطور المتجدد، ولكن ليس باعتبارها مصادر، ولكن فقط باعتبارها مراجع، تساعد على تنزيل الحقائق الإسلامية، المستفادة من النصوص الشرعية، في النفس والمجتمع، أما التربية الوساطية، فهي على عكس ذلك تماماً، تعتمد الفكر البشري في تربية الأفراد باعتباره المنبع الأول للمفاهيم التربوية، سواء كان هذا الفكر ذوقاً صوفياً أو فهماً عقلياً، وإن كان ثمة من نصوص شرعية في هذه الوساطات فلا تبلغ المتلقي في نسقها القرآني أو الحديثي، ولكن في نسقها الصوفي أو العقلاني، فالمصدرية ها هنا إذن لا تكون للنصوص الشرعية، وإنما لأفهام المصلحين والمربين لهذه النصوص، وهذا هو عين الوساطة.
إن الحركة الإسلامية حين تقرر برنامجاً تربوياً تكون مادته هي كتب فلان، أو أذواق فلان، أو أوراده باعتبارها المنبع الأساس والمعتمد الأول في بناء الصف الإسلامي، تكون قد أضفت عليها أنواعاً من القداسة الشعورية لدى المتربين من حيث تدري أو لا تدري، وينتج عن ذلك مرض تربوي خطير، يتمثل في نشأة جيل من الملتزمين بالإسلام، ليس كما هو في مصادره بالضرورة، ولكن كما فهمه المفكر الفلاني، أو كما تذوقه الشيخ العلاني! ومن هنا لا يكون الإنتاج التربوي مضموناً من حيث الاستمرارية وعمق التأثير والتأثر من ناحية، ومن حيث سلامة السير في طريق الالتزام بالإسلام فهماً وتنزيلاً، من ناحية أخرى.
فأما الأول: فذلك الفرد المرتبط بالمفاهيم الإسلامية كما هي في نسقها الشرعي هو فرد مرتبط بالله مباشرة، ولذلك فإن نزول هذه المفاهيم على قلبه باعتبارها لَبِنَات في تكوين شخصيته الإسلامية يكون عميقاً، بحيث يصعب انمحاؤه واندثاره مع الزمن، ذلك أن للقرآن من حيث هو معان، ومن حيث هو عبارات معاً قوة تأثيرية لا يمكن أن توجد في كتب الناس وأفكارهم، وتذوقاتهم ومواعظهم، فهو وحده المتعبد بتلاوته حرفاً حرفاً: (لا أقول (آلم) حرف، ولكن ألفُ حرف، ولامُ حرف، وميم حرف)، وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا عصمة لأي حديث سواء مبنى ومعنى، فالرسول صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى كونه أفصح العرب فهو وحده الذي لا ينطق عن الهوى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4].
فلنفرض أن الرسالة التربوية التي نريد تبليغها في جلسة تربوية معينة هي مفهوم (الخشوع)، فاعتمادنا لغرسه في قلب المؤمن على مادة مرجعية كأن يكون ذلك من خلال كتاب الرعاية لحقوق الله للحارث المحاسبي، أو إحياء علوم الدين للغزالي، أو مدارج السالكين لابن القيم، أو حتى من خلال موعظة الشيخ الشفهية، أو ورده الذي وضعه للمريدين، فإن كل ذلك سيؤثر لا محالة، لكن التأثير يكون سطحياً، بحيث يغير من الحال لا من المقام كما يعبر القوم، أي أنه تأثير ظرفي وشكلي، فهو لا يلامس البنية الداخلية في شخصية الفرد، ولا يساهم في تشكيلها البنيوي، ولكن يغير أحوالها الخارجية فتحدث حالة (الخشوع)، التي لن تستمر طويلاً ولن يكتسب بها صاحبها مقام الخشوع، ولكن حاله فقط.
أما إخضاع المتربي لتكوين تربوي ينتظم النصوص الواردة في هذا المفهوم من القرآن والسنة، وحثه على مساهمته الشخصية في مدارستها، وتنبيهه إلى معانيها العميقة، وربطه مباشرة بذات الآيات المتضمنة لهذا المعنى، من مثل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
قلتُ: أما هذا المنهج، فهو كفيل بتشكيل معنى الخشوع، كجزء من شخصية الفرد الإيمانية، وذلك لما ذكرتُ من خصوصيات النص الشرعي عامة، والنص القرآني بصفة خاصة ذي الطابع التعبدي المحض، وهذا أضمن لاستمرارية المفهوم التربوي في شعور الفرد وممارسته، فهو هنا مرتبط بنص قرآني وهو نص ثابت لا يتغير، بمعنى أن الفرد كلما تذكر النص بمناسبة أو غير مناسبة إلا وفاض عليه من بركاته الجديدة، ما لم يجده فيه أول مرة ولا ثاني مرة وهكذا.
وأما كل ما عداه من مراجع فهي مساعدة، تفيد في التأسي والاتعاظ الدافع إلى التزام النصوص الشرعية، المصادر الحقيقية للتربية، أما الاقتصار على المراجع فقط للوصول إلى الهدف المذكور -ولو تضمنت بعض النصوص الشرعية- فإنه سيربط الفرد بالمرجعية لا بالمصدرية في نسقها الخالص، والمرجعية ها هنا بشرية، نسبية غير ثابتة، فهي -فضلاً عن احتمالها للخطأ والصواب- تحتمل التغير السلبي بتغير أصحابها إلى وراء، نحو التحلل من الالتزام الإسلامي جزئياً أوكلياً، وهذا ما يكون له بالغ الأثر السيء على نفسية الفرد المرتبط بهذه الوساطات.
وأما الثاني -أي عدم ضمان سلامة السير في طريق الالتزام فهماً وتنزيلاً- فيتجلى في كون التربية المصدرية تربية شمولية، لأن الارتباط بالنصوص الشرعية لا يكون إلا كلياً، إذ بعضها يحيل على بعض، وبعضها يفسر بعضها الآخر، فهي نسق كلي يكون -باعتباره مادة تربية- منتجاً لتدين شمولي، لا يقصر معنى العبادة على هذا الجانب أو ذاك، ولا على هذا المجال دون ذاك، فالتزام الإسلام تديناً يكون كلياً، إذ يستشعر الفرد قصد التعبد في كل فعل حركي، سواء كان في المجال النقابي أو السياسي، أو الرياضي أو الإداري، فضلاً عن المجال التعبدي المحض -بتعبير الفقهاء- وإنما يكون هذا ناتجاً عن فهم سابق للإسلام، من خلال مصادره ذات الطبيعة الشمولية.
بيد أن التربية المرجعية قلما تسلم من الفهم والتنزيل التجزيئييْن للدين، لأنها لا تخلو من أحد أمرين: إما أن الوسيط -مفكراً كان، أو شيخاً- هو نفسه يعاني من قصور في الفهم، وإما أنه لا يعاني من هذا القصور، ولكن يكون في كتاباته وتوجيهاته، متأثراً فيما يتعلق بالتنزيل العملي للدين بالزمان والمكان، من حيث الأولويات الظرفية لا المبدئية، ثم من حيث نقل المفاهيم من مصادرها، باعتبارها وسيطاً يقوم بتلقينها للأفراد، فإلى أي حد يكون دقيقاً وجامعاً مانعاً في نقله وأدائه؟ ثم إلى أي حد تبقى تلك المادة -وقد حَلَّتْ محل المصدر- صالحة للأجيال بتمامها وكمالها، رغم تغير الزمان والمكان؟ فالنتيجة إذن هي أن التربية التوحيدية، باعتبارها ذات طبيعة مصدرية أساساً أضمن لعمق التأثير التربوي ودوامه، ثم لسلامة ما ينتج عنها من تدين تصوراً وممارسة.
وقبل ختام هذه القضية لا بد من التذكر بأن المصدرية لا تعني إلغاء المراجع التي هي فهوم الناس للتدين تصوراً وممارسة، ولكنها تعني الإبقاء عليها في سياقها المرجعي، حتى لا تكون لها أبداً السلطة المصدرية ذات الطبيعة المطلقة، والتعبدية بمعناها المحض، بل تبقى باعتبارها مراجع تتضمن تجارب دعوية تفيد كأدوات إجرائية لحسن الاستفادة من القرآن والسنة باعتبارهما مصدرين تربويين خاصة، وذلك هو السياق الحقيقي الذي يمكن للمرجع أن يفيد فيه، وأما رفعه إلى مقام المصدرية فهو عين الخطأ، الذي يؤدي إلى الانصراف عن مصادر الإسلام إلى أقوال الرجال وأحوالهم.
يتبع بمقال آخر بإذن الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوحيد والوساطة الدعوية للأستاذ فريد الأنصاري حفظه الله، وانظر مجلة حصاد الفكر عدد46 ص116، ففيها تلخيص للكتاب المذكور.