عندما تغيب العدالة
إن الظلم الحادث بين الأفراد بعضهم البعض غالبا ما يكون أثره محدودًا، ولكن الظلم الذي تتبناه دولة ما أو نظام ما ضد شعبه، أو ضد فئة معينة من شعبه لأسباب سياسية أو اجتماعية، أو دينية يكون أثره واسعًا وجامحًا، ويصيب الأمة في مقتل ويهدد كيانها..
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
هناك مقولة شهيرة كان يرددها دائما شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه وهي: "أن الله يبقي الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويزيل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة"، وهي مقولة تعبر عن سنة كونية من سنن الله تعالى، كما تعبر عن أهمية العدل بصفة عامة في حياة البشر وفي مستقبل الأمم ونهضتها، وهو ما يبين لنا أحد أسباب الرفاهية التي تعيش فيها كثير من الدول الغربية، والضنك الذي تعيش فيه الكثير من الدول الإسلامية والعربية..
إن غياب العدل وانتشار الظلم في حياتنا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الدول أصبح من الأمور المفزعة في حياة الأمة الإسلامية في الفترة الأخيرة، وقل من ينبه عليه ويلفت إلى أهميته..
إن الظلم الحادث بين الأفراد بعضهم البعض غالبا ما يكون أثره محدودًا، ولكن الظلم الذي تتبناه دولة ما أو نظام ما ضد شعبه، أو ضد فئة معينة من شعبه لأسباب سياسية أو اجتماعية، أو دينية يكون أثره واسعًا وجامحًا، ويصيب الأمة في مقتل ويهدد كيانها، ومن هنا كانت الأمانة العظيمة التي يتولاها الحاكم أو القاضي، الذي تكون بيده القوة والسلطة على شعب أعزل لا يملك من أمره شيئا، إلا أن يرفع أكف الضراعة إلى الله لكي يزيل ما يعانيه من ظلم وتعسف، أو أن يصرخ مستنكرًا..
إن الله تعالى وصف الظلم بأنه ظلمات يوم القيامة، وأكد أنه حرمه على نفسه وجعله حراما بين عباده، كما بين أن من بين السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله (إمام عادل)، وفي السنة النبوية الكثير من ذلك فقد اوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، وأعطى عليه الصلاة والسلام نصائح كثيرة للقاضي قبل أن يفصل في قضية ما، حتى لا يظلم أحدًا.
وكتب علماء الأمة الإسلامية أبوابا طويلة في أحكام القضاء وصفات القاضي، والشروط التي ينبغي أن تتوفر فيه، وما ينبغي عليه أن يراعيه قبل جلوسه للحكم بين الأفراد، وتكلموا عن أدق التفاصيل في هذا الموضوع من أجل تحقيق العدالة، كما أشاروا كذلك إلى الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الحاكم المسلم الذي يتولى أمر المسلمين، ومن أهمها العدالة والبعد عن الظلم.
إن التاريح الإسلامي خصوصًا في عصر الخلفاء الراشدين مليء بالقصص والأحداث، التي تعبر عن أهمية العدالة وتحري الخلفاء تولية من يصلح ويعدل سواء فيمن يولونهم على القضاء أو على أي أمر من أمور المسلمين، ولكن! وبعد مرور مئات السنين على العصور المزدهرة في تاريخنا الإسلامي، وصلنا إلى عهود قاسية لم يعد التحري عن الولاة أو القضاة في تقواهم وعدالتهم ونزاهتهم هو المقياس في توليهم في كثير من بلدان المسلمين..
بل انتشرت المحسوبية والواسطة وأصبح إسناد المناصب لا يعتمد على الكفاءة بقدر من اعتماده على عائلة الشخص ونفوذها ومالها وجاهها، مما صنع هوة واسعة بين أبناء البلد الواحد، وجعلها تنقسم لطبقات بعضها محدود العدد يحلق مرتفعا بمزايا مادية ومهنية كبرى، لا لشيء سوى لأنها مقربة من النظام وتتشابك مصالحها مع مصالحه، والبعض الآخر يضم معظم الشعب، لا يجد قوت يومه ويتعرض للظلم والقمع والفقر، الأمر الذي فجر الكثير من الأحقاد والضغائن بين أبناء الشعب الواحد.
إن الأفكار العنيفة والمتطرفة نشأت في معظم الدول العربية والإسلامية نتيجة لظروف سياسية واجتماعية واقتصادية غير عادلة، وتم معالجتها بمزيد من الظلم والقمع دون معالجة أسباب الانحراف الأساسية، مما جعلها تتوسع ولا تختفي..
لو نظرنا لممارسات ضباط الشرطة في البلاد الغربية المتقدمة، أو كيفية اختيارهم، أو كيفية اختيار المحافظين والقضاة والرؤساء، والشروط التي ينبغي أن تتوفر فيهم لتجدها تنسجم تماما مع ثقافتهم، وستجدها أكثر عدالة من الشروط المطبقة بالفعل في عدد كبير من بلادنا..!
نحن المسلمون الذين يدعونا ديننا للعدالة حتى مع الكافر أصبحنا أبعد عن العدالة بيننا وبين أنفسنا من الكافر معنا، فالمسلمون في بريطانيا وفرنسا وأمريكا -رغم كل ما يعانونه في السنوات الأخيرة- يحصلون على ضمانات عند محاكمتهم، لم يعد يحصل عليها الكثيرون في معظم بلادنا، وهو أمر يدعو للحسرة والقلق على مستقبل بلادنا ومستقبل أبنائنا.
فهل سنظل نتساءل في بلاهة: لماذا يتقدم الغرب وتستقر أوضاعه، بينما نعيش نحن منذ عشرات السنين في حالة من التيه والضياع؟!
خالد مصطفى