حديث: «رَأَيْتُ رَبِّي فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ، لَهُ وَفْرَةٌ جَعْدٌ قَطَطٌ، فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ»

كون شيخ الإسلام أو غيره يُصحِّح حديث: «رأيت ربي في صورة شاب أمرد...»؛ لا يعني أنه يعتقد بأن الله حقيقة على صورة شاب أمرد بل كما قال: "فلا نعتقد أن ما تخيَّله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك؛ بل نفس الجن والملائكة لا يتصوّرها الإنسان ويتخيّلها على حقيقتها بل هي على خلاف ما يتخيّله ويتصوّره في منامه ويقظته"...

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية - قضايا إسلامية معاصرة -

يَتهِم بعض المبتدعة شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه مجسِّم ويستشهدون بتصحيحه لحديث: «رَأَيْتُ رَبِّي فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ، لَهُ وَفْرَةٌ جَعْدٌ قَطَطٌ، فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ» فهل حقًا صحَّح شيخ الإسلام هذا الحديث؟

وهل هو حديث صحيح؟

وللجواب على هذا السؤال أقول:

هذا الحديث ورد من طريقين وبألفاظ مختلفة.

الطريق الأول: من حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.

ومن ألفاظه:

"أن محمدًا رأى ربه في صورة شاب أمرد من دونه ستر من لؤلؤ، قدميه، أو قال: رجليه في خضرة".

- «رأيت ربي جعدًا أمرد عليه حلة خضراء».

- «رأيت ربي في صورة شاب أمرد جعد عليه حلة خضراء».

وهذا الحديث من هذا الطريق صحَّحه جمعٌ من أهل العلم، منهم:

- الإمام أحمد قي (المنتخب من العِلل للخلال، ص: [282]، وإبطال التأويلات لأبي يعلى: [1/139]).
- وأبو زرعة الرازي في (إبطال التأويلات لأبي يعلى: [1/144]).
- والطبراني في (إبطال التأويلات لأبي يعلى: [1/143]).
- وأبو الحسن بن بشار في (إبطال التأويلات: [1/ 142-143]، [222]).
- وأبو يعلى في (إبطال التأويلات: [1/ 141-143]).
- وابن صدقة في (إبطال التأويلات: [1/144]) (تلبيس الجهمية: [7/225]).
- وابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية: [7/ 290-356]، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - 1426هـ)

وضعَّفه ابن الجوزي في (العِلل المتناهية: [1/36]) واستنكره الذهبي كما في (سير أعلام النبلاء: [10/113]) وقال السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى: 2/312]): "موضوع مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

والطريق الآخر: من حديث مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل امرأة أُبيِّ بن كعب رضي الله عنهما مرفوعًا.

ومن ألفاظه:

1- «رَأَيْتُ رَبِّي فِي المنام في صورة شاب مُوَقّرٍ فِي خَضِرٍ، عليه نَعْلانِ من ذهب، وَعَلَى وجهه فراش مِنْ ذهب».

2- "يذكر أنه رأى ربه عز وجل في المنام في صورة شاب موفر في خضر على فراش من ذهب في رجليه نعلان من ذهب".

3- "أنه رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة، قدماه في الخضرة، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب" (وهذا الحديث صحَّحه الحسن بن بشار، وأبو يعلى كما في طبقات الحنابلة لأبي يعلى: [2/59]).

وضعَّفه واستنكره جمعٌ من أهل العلم، منهم:

- الإمام أحمد في (المنتخب من العِلل للخِلال لابن قدامة، ص: [284]).
- ويحيى بن معين في (تاريخ بغداد للخطيب: [13/311]).
- والنسائي في (العِلل المتناهية لابن الجوزي: [1/30]).
- وابن حبان في (الثقات: [5/245]).
- والسبكي في (طبقات الشافعية الكبرى: [2/312]).
- وابن حجر في (تهذيب التهذيب: [10/86]).
- والسيوطي في (اللآلئ المصنوعة: [1/30]).
- والشوكاني في (الفوائد المجموعة، ص: [447]).

وكلُّ من صحَّح الحديث أثبت أنه رؤيا منام لا رؤيا عين، لذلك فلا إشكال ولا مطعن لأهل الأهواء فيه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية: [7/229]): "وكلها -يعني روايات الحديث- فيها ما يُبيِّن أن ذلك كان في المنام وأنه كان بالمدينة إلا حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم وقد جعل أحمد أصلهما -أي حديث ابن عباس وأم الطفيل- واحدًا وكذلك قال العلماء".

وقال في (بيان تلبيس الجهمية: [7/194]): "وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرَّح فيه بأنه رأى ذلك في المنام".

وله رحمه الله كلامٌ صريحٌ في أنَّ الله لا يُرى في الدنيا بالأبصار فقال في (منهاج السنة: [2/313]) في معرض ردِّه على المجسِّمة: "أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله، حتى قالوا: إنه يُرى في الدنيا بالأبصار".

وقال في (الوصية الكبرى، ص: [77]): "وكل من قال من العُبَّاد المتقدمين أو المتأخِّرين أنه رأى ربه بعين رأسه فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان".

وشيخ الإسلام ابن تيمية ليس وحده الذي نفى أن يكون في الحديث إشكال لأنه رؤيا منام، بل ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم.

ومن هؤلاء:
1- الذهبي في (ميزان الاعتدال: [1/594]) قال: "وهذه الرؤية رؤيا منام إن صحَّت".
2- السيوطي في (اللآلئ المصنوعة: [1/34]) قال: "وهذا الحديث إن حُمِل على رؤية المنام فلا إشكال".
3- العجلوني في (كشف الخفاء: [1/437]) نقل كلام السيوطي ولم يتعقبه.
4- المعلِّمي كما في (التنكيل: [1/253]) قال: "إن لهذا الحديث طرقًا معروفة في بعضها ما يُشعِر بأنها رؤيا منام، وفي بعضها ما يُصرّح بذلك، فإن كان كذلك اندفع الاستنكار رأسًا" وغيرهم...

قال الإمام الدارمي في (النقض على المريسي: [2/738]) عند كلامه على حديث: «أتاني ربي في أحسن صورة»: "وإنما هذه الرؤية كانت في المنام، وفي المنام يمكن رؤية الله تعالى على كل حال وفي كل صورة".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية: [1/ 325-328]): "لفظ الرؤية وإن كان في الأصل مطابقًا فقد لا يكون مطابقًا كما في قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر من الآية:8]، وقال: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آلِ عمران من الآية:13]، وقد يكون التوهُّم والتخيُّل مطابقًا من وجه دون وجه فهو حق في مرتبته وإن لم يكن مماثلًا للحقيقة الخارجة مثل ما يراه الناس في منامهم، وقد يرى في اليقظة من جنس ما يراه في منامه فإنه يرى صورًا وأفعالًا ويسمع أقوالًا.

وتلك أمثال مضروبة لحقائق خارجية كما رأى يوسف سجود الكواكب والشمس والقمر له فلا ريب أن هذا تمثله وتصوره في نفسه وكانت حقيقته سجود أبويه وأخوته كما قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف من الآية:100].

وكذلك رؤيا الملك التي عبَّرها يوسف، حيث رأى السنبل بل والبقر فتلك؛ رآها متخيلة متمثلة في نفسه وكانت حقيقتها وتأويلها من الخصب والجدب، فهذا التمثل والتخيُّل حقٌ وصدقٌ في مرتبته بمعنى أن له تأويلًا صحيحًا يكون مناسبًا له ومشابهًا له من بعض الوجوه، فإن تأويل الرؤيا مبناها على القياس والاعتبار والمشابهة والمناسبة. ولكن من اعتقد أن ما تمثَّل في نفسه وتخيَّل من الرؤيا هو مماثل لنفس الموجود في الخارج وأن تلك الأمور هي بعينها رآها فهو مبطل، مثل من يعتقد أن نفس الشمس التي في السماء والقمر والكواكب انفصلت عن أماكنها وسجدت ليوسف وأن بقرًا موجودة في الخارج سبعًا سمانًا أكلت سبعًا عِجافًا فهذا باطل.

وإذا كان كذلك؛ فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه، فهذا حق في الرؤيا ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام، فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا. ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقًا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس.

قال بعض المشايخ: إذا رأى العبد ربه في صورة كانت تلك الصورة حجابًا بينه وبين الله، وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم، وما أظن عاقلًا يُنكِر ذلك... فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره وهذه مسألة معروفة، وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين، وحكوا عن طائفة من المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله والنقل بذلك متواتر عمَّن رأى ربه في المنام.

ولكن لعلهم قالوا لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام، فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم - نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة كسائر ما يرى في المنام، فهذا مما يقوله المتجهمة وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى؛ وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه.

وقول من يقول ما خطر بالبال أو دار في الخيال فالله بخلافه ونحو ذلك إذا حمل على مثل هذا كان مَحملًا صحيحًا؛ فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك، فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك بل نفس الجن والملائكة لا يتصوَّرها الإنسان ويتخيّلها على حقيقتها بل هي على خلاف ما يتخيّله ويتصوَّره في منامه ويقظته وإن كان ما رآه مناسبا مشابهًا لها فالله تعالى أجل وأعظم" انتهى كلامه.

فكون شيخ الإسلام أو غيره يُصحِّح حديث: «رأيت ربي في صورة شاب أمرد...»؛ لا يعني أنه يعتقد بأن الله حقيقة على صورة شاب أمرد بل كما قال: "فلا نعتقد أن ما تخيَّله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك؛ بل نفس الجن والملائكة لا يتصوّرها الإنسان ويتخيّلها على حقيقتها بل هي على خلاف ما يتخيّله ويتصوّره في منامه ويقظته".

فكيف يقال بعد ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية يشبِّه الله بالشاب الأمرد؟! تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وحاشا لشيخ الإسلام -المُنزِّه لله تعالى، والذي لا يصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول صلى الله عليه وسلم- أن يقول أو يعتقِد ذلك.

وكلامه في تنزيه الله عز وجل والرد على المجسِّمة كثيرٌ جدًا، من ذلك قوله كما في (منهاج السنة: [2/313]):

"والمثبتة -أي من المجسِّمة- أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله، حتى قالوا: إنه يُرى في الدنيا بالأبصار، ويصافَح، ويُعانق، ويَنزل إلى الأرض، وينزل عشية عرفة راكبًا على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان، وقال بعضهم: إنه يندم ويبكي ويحزن وعن بعضهم: أنه لحم ودم ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين والله سبحانه منزَّهٌ عن أن يوصف بشيءٍ من الصفات المختصة بالمخلوقين، وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص، والله تعالى منزَّهٌ عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال، وليس له مِثل في شيء من صفات الكمال، فهو منزَّهٌ عن النقص مطلقًا، ومنزَّهٌ في الكمال أن يكون له مِثلٌ" انتهى كلامه يرحمه الله.

فهل من يردُّ على المجسِّمة بمثل هذا الرد يُنعت بالتجسيم، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}؟!

والله تعالى أعلم.

 

القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية ومراجعة المشرف العام

 

المصدر: الدرر السنية