(2) من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم (2)

عبد الله بن حمود الفريح

تفصيل في المسألة الرابعة: من جعل بينه وبين الله وسائط لا يعبدها وإنما جعلها أسبابًا تقربه إلى الله. والمسألة الخامسة: شبهة والرد عليها.

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية - الشرك وأنواعه -

المسألة الرابعة: من جعل بينه وبين الله وسائط لا يعبدها وإنما جعلها أسبابًا تقربه إلى الله:

كالذي يتخذ الوسائط لا يدعوها ولا يعبدها ولا يذبح لها ولا ينذر لها ولا يصرف لها أي نوع من أنواع العبادة فهو ليس كالذين قال الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ} [الزمر من الآية:3]، بل يعتقد أن العبادة لله ولا يعبد إلا الله لكنه يتخذ الوسائط على أنها سبب تقربه إلى الله بزعمه فيطلب من الميت عند قبره أن يدعو له، فهل هذا يُعدُّ شركًا أكبر؟

القول الأول: أنه يُعدُّ من الشرك الأكبر.

والقول الثاني: أنه لا يُعدُّ من الشرك الأكبر بل هو وسيلة إليه وهي وساطة بدعيَّة، وأصحاب هذا القول لم يجعلوها من الشرك الأكبر لأن طلب الدعاء من الآخرين ليس خاصًا بالله وسبق أن في تعريف الشرك الأكبر أنه مساواة غير الله بالله في شيء من خصائص الله، فقالوا: إن طلب الدعاء من الآخرين ليس خاصًا بالله، لأنه يجوز طلبه من الحي ولو كان خاصًا بالله لما جاز طلبه من الحي لكونه خاصًا بالله، فطلبه الدعاء من الميت ليس شركًا أكبر على هذا القول واختاره ابن باز رحمه الله.

 

قال الشيخ عبدالعزيز بن باز في تعليقه على الفتح [2/ 575] عند قول مالك الدار -وكان خازن عمر-: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا. فأتى الرجل في المنام فقيل له: «ائت عمر...» الحديث، قال ابن باز رحمه الله: "وأن ما فعله هذا الرجل منكر ووسيلة إلى الشرك، بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك".

وقال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه (تصحيح الدعاء)، ص[250]: "سؤال حي لميت بحضرة قبره بأن يدعو الله له، مثل قول عباد القبور مخاطبين لها: يا فلان ادع الله لي بكذا وكذا. أو: أسألك أن تدعو الله لي بكذا وكذا، فهذا لا يختلف المسلمون بأنها وساطة بدعية، ووسيلة مُفضية إلى الشرك، ودعاء الأموات من دون الله، وصرف القلوب عن الله تعالى، لكن هذا النوع يكون شركًا أكبر في حال ما إذا أراد الداعي من صاحب القبر الشفاعة والوساطة الشركية على حد عمل المشركين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ} [الزمر من الآية:3]" أ. ه.

 

إلا أن كثيرًا ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم ممن يجعلون وسائط بينهم وبين الله لا يجعلونها مجرد وسائط بل يعبدونها وينذرون ويذبحون لها ويتبركون بترابها وأعتابها ويحجون إليها في أوقات معينة ويعكفون عندها، ويأتون بقطعان الأنعام فيذبحونها في ساحات الأضرحة يتقربون بها إلى أصحاب الأضرحة بزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله، وكل هذا شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة، وقد وقع هؤلاء فيما حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم من حديث جندب: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» فوقع هؤلاء بما وقع فيه اليهود والنصارى من قبل من البناء على القبور وكان هذا ممنوعًا في الصدر الأول من هذه الأمة في عصر القرون المفضلة، حتى جاءت دولة الفاطميين الشيعة واستولوا على مصر وغيرها من البلاد فبنوا المشاهد على القبور في مصر وغيرها، ثم تكاثرت الأضرحة في بلاد المسلمين بسبب هؤلاء الشيعة قبحهم الله فهم أول من بنى على القبور كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.

 

المسألة الخامسة: شبهة وردُّها:


وهؤلاء الذين يتخذون وسائط بينهم وبين الله عز وجل يدعونهم ويتوكلون عليهم ويطلبون منهم الشفاعة لهم شبهة يرددونها ويتمسكون بها مستدلين بها على اعتقادهم الخاطئ، ومن أبرز شبههم العريضة التي يتشبثون بها ما جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك: "إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا قال: فيُسْقَون" ففهموا من هذا الحديث أن عمر بن الخطاب توسل بالعباس بن عبد المطلب وجعله واسطة بينه وبين الله عز وجل وهذا يدل على أن اتخاذ الوسائط جائز بدليل توسل عمر بجاه ومكانة العباس عند الله سبحانه وتعالى.

 

والرد على هذه الشبهة من وجوه عدة:

الأول: إن من القواعد المهمة في تفسير الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضًا، وإذا نظرنا إلى توسل عمر بالعباس نجد أننا أمام أحد معنيين إما أن يكون عمر توسل بجاه العباس ومكانته عند الله سبحانه كما فهمه أصحاب هذه الشبهة، وإما أن يكون أن المعنى أن عمر توسل بدعاء العباس بن عبد المطلب وهو الاعتقاد الصحيح كما سيأتي، وبالنظر إلى ما جاءت به السنة من بيان طريقة توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم فأي المعنيين أقرب حينما أجدبوا وقحطوا هل كانوا يدعون ويقولون: "اللهم بنبيك محمد وحرمته عندك ومكانته لديك أسقنا الغيث"، أم أنهم كانوا يطلبون منه الدعاء بنزول الغيث وزوال القحط؟ مما لا شك فيه أن المعنى الأول ليس له وجود إطلاقًا في السنة النبوية ولا في عمل الصحابة رضوان الله عليهم.

وأما المعنى الثاني فكتب السنة مستفيضة به والأحاديث الواردة الثابتة كثيرة أيضًا فإنهم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه أن يدعو لهم ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أنس في قصة الأعرابي الذي قام وعرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة وقال: "يا رسول الله هلك المال وجاع العيال وانقطعت السبل فادع الله لنا" فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم فسُقوا، فلما كانت الجمعة الأخرى جاءه أعرابي وقال: "رسول الله، تهدم البناء وهلكت المواشي وغرق المال، فادع الله لنا" فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بإمساك السماء، ومن ذلك أيضًا ما جاء في السنن عن عائشة رضي الله عنها حيث قالت: شكا الناس إلى رسول الله قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يومًا يخرجون فيه" ثم دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن هدي الصحابة في توسلهم إنما هو طلب الدعاء لهم ويشهد لذلك أيضًا قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّـهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء من الآية:64].

 

الثاني: لقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه المذكور وقصده إذ نقلت دعاء العباس رضي الله عنه استجابة لأمر عمر رضي الله عنه، فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني رحمه الله في (الفتح) حيث قال: "قد بين الزبير بن بكار في (الأنساب) صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث" قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس".

 

قال الألباني: في هذا الحديث:

أولًا: التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه لا بذاته كما بينه الزبير بن بكار وغيره، وفي هذا ردّ واضح على الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس لا بدعائه، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس فيدعو بعد عمر دعاء جديدًا.

ثانيًا: أن عمر صرَّح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا صلى الله عليه وسلم في حياته وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس، ومما لاشك فيه أن التوسلين من نوع واحد: توسلهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وتوسلهم بالعباس وإذا تبين للقارئ -مما يأتي - أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان توسلًا بدعائه صلى الله عليه وسلم، فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما كان توسلًا بدعائه أيضًا بضرورة أن التوسلين من نوع واحد.
أما أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان توسلًا بدعائه فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث بلفظ: "كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به فيستسقي لهم فيسقون فلما كان في إمارة عمر..." فذكر الحديث نقلته من (الفتح) [2/ 399] فقوله: "فيستسقي لهم" صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى، ففي (النهاية) لابن الأثير: "الاستسقاء استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم السقيا بالضم، واستسقيت فلانًا إذا طلبت منه أن يسقيك" إذا تبين هذا فقوله في هذه الرواية: "استسقوا به" أي بدعائه، وكذلك قوله في الرواية الأولى "كنا نتوسل إليك بنبينا" أي بدعائه فلا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث إلا هذا. ويؤيده:

ثالثًا: لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى لما ترك عمر التوسل به صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى لأن هذا ممكن لو كان مشروعًا، فعدول عمر عن هذا إلى التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه أكبر دليل على أن عمر رضي الله عنه والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم" أ. ه. (مسألة التوسل للشيخ الألباني بتصرف يسير).

 

وملخص الكلام أن الرد على هذه الشبهة من وجوه:

1- أن الثابت عن الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم حين يصيبهم القحط وتمسك السماء أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم و يطلبوا منه الدعاء، كما في الصحيحين من حديث أنس في قصة الأعرابي الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فطلب منه الدعاء، وكذلك حديث عائشة عند أبي داود، فهم يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا بجاهه، وكذلك هو المقصود بالتوسل بالعباس فإنه توسل بدعائه لا بجاهه لأن عمر ذكر في الحديث توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتوسلهم بالعباس، ومما لاشك فيه أن التوسلين من نوع واحد وإذا ثبت أن توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان بدعائه فلا بد أن يكون المقصود بتوسلهم بالعباس توسل بدعائه لا بجاهه ومكانته.

2- بينت الروايات الأخرى المقصود بتوسل عمر بالعباس حيث فسرت ذلك ونقلت دعاء العباس استجابة لعمر حين طلبه، مما يدل أنه طلب الدعاء منه كما ذكر ذلك الحافظ بن حجر في (فتح الباري).

3- أن لفظ الحديث كما في قول أنس رضي الله عنه هو: "أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب..." ولفظ الاستسقاء يدل على طلب السقيا من الله فهذا يدل على أن المقصود به الدعاء.

4- لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس وجاهه لما ترك عمر التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، وعدول عمر عن التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بدعاء العباس دليل على أن عمر والصحابة لا يرون التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم.