النبع السابع عشر: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه}

خالد أبو شادي

يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، يهْدِ قلبه للاسترجاع، وهو أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا ابتُلِي صبر، وإذا أُنعِم عليه شكر، وإذا ظُلِم غفر، يَهْدِ وليَّه بالصبر والرضى، يَْهدِ قلبه لاتباع السنة إِذا صحَّ إيمانه.

  • التصنيفات: الزهد والرقائق - الواقع المعاصر -

وعدٌ رباني لا يتخلف، ومن أوفى بعهده من الله، فمن آمن بالله هداه، وسكَّن روحه لما أصابه به وابتلاه.

  • وفي الآية ستة أقوال: 
  1. أحدها: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قبل الله تعالى، فيُسلِّم، ويرضى.
  2. الثاني: يهْدِ قلبه للاسترجاع، وهو أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قاله مقاتل.
  3. الثالث: أنه إذا ابتُلِي صبر، وإذا أُنعِم عليه شكر، وإذا ظُلِم غفر، قاله ابن السائب وابن قتيبة.
  4. الرابع: يَهْدِ قلبه، أي: يجعله مهتديا، قاله الزجاج.
  5. الخامس: يَهْدِ وليَّه بالصبر والرضى، قاله أبو بكر الورَّاق.
  6. السادس: يَْهدِ قلبه لاتباع السنة إِذا صحَّ إيمانه، قاله أبو عثمان الحيري[1].
     

 

  • أخي المصاب.. كل متع الدنيا ولذائذها تُنسى فور عبورها، وكذلك الأحزان والآلام، لن تذكر منها شيئا معد مُضِيِّها، والرضا والتسليم سهلٌ قريب المنال لمن تأمَّل هذا المعنى، وهو ما نبَّهك له أسامة بن مُنقِذ فقال:

كلُّ مستقبلٍ من الهَمَّ *** يُنسَى إِذا مضى
والذي ساءَ من زمانِكَ *** سهلٌ مع الرَّضا
وأخو الحزمِ من إِذا *** أعضلَ الأمرُ فَوَّضا


فالحازم هو فوَّض الأمر لربه، ورأى أنَّ اختيار الله له أفضل من اختياره لنفسه، فأراح واستراح، ولذا ترادفت الأقوال حول معنى الرضا، فمن قائل: هو ارتفاع الجزع في أي حكم كان، ومن قائل: هو استقبال الأحكام بالفرح، وثالث يقرِّر: هو سكون القلب تحت مجاري الأحكام.

وللراضي علامة فارقة يميِّز بها وصوله لهذا المقام، فقد قيل لعبد الواحد بن زيد: متى يكون العبد راضيا عن ربه؟
قال: "إذا سرَّته المصيبة كما تسُرُّه النِّعمة"[2].

وهو إيمان بالقَدَر الذي مضى، والقضاء الذي جرى كما قال ربنا: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسير . لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ}.

  • قال الزمخشري: "أنكم إذا علمتم أنَّ كل شيء مقدر مكتوب عند الله قلَّ أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي، لأنَّ من علم أن ما عنده معقود لا محالة؛ لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطَّن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أنَّ بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال: لم يعظم فرحه عند نيله"[3].

    نعم .. في الإسلام يموت ابن العبد فيقول: آمنتُ بالله، وترحل زوجته فيسترجع: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويتهدَّم بيته فيردِّد: قدَّر الله وما شاء فعل، وتبور تجارته فيسِّلم ويرضى ويبدأ من جديد، وذلك لأن الله هدى قلبه، وزاده إيمانا، فهي يحمل بين جوانحه عقيدة أقوى من الحديد، وإرادة تصهر الفولاذ، وهي درجة لا يحوزها إلا أيقن بربه، فنظر إلى لطائف الغيب من خلال ستر رقيق، ولذا رأى عليُّ بن الحسين في الرضا درجة إيمانية رفيعة شامخة قائلا: "الرِّضا بمكروه القضاء أرفعُ درجات اليقين"[4].

    وهذا والله رزقٌ خفي، وثروة لا تُقدَّر بمال، وقليلٌ منا من يمتلك من البصيرة ما يكشِف به هذه الكنوز، ويقدِّر قيمة هذه النِّعم الخفية، ولعلَّ من هؤلاء رجلٌ من البُسَطاء الذين لا نعرِف اسماءهم وهو واحدٌ من الأعراب أنشدنا مفتخِرا، فتردَّد الصدى في أرجاء القلوب الراضية:

للناس مال ولي مالان ما لهما *** إذا تحارس أهل المال حُرّاس
مالي الرضا بالذي أصبحت أملكه *** ومالي اليأس ممّا يملك الناس


ولذا لا يفارق قلب الراضي الرِّضا ولو في قعر السجن، فهو يعلم أنه قد التحق بجامعة يوسف وقاطرة المصلحين التي سرعان ما ستنتهي به إلى الحُكم، وقد قال البحتريُّ يسلّي محمد بن يوسف عن سجنه:

وما هذه الأيّام إلا منازل *** فمن منزل رحب ومن منزل ضنك
وقد هذَّبتك الحادثات وإنما *** صفا الذهب الإبريز قبلك بالسَّبْك
أما في رسول الله يوسف أسوة *** لمثلك محبوسا على الظُّلم والإِفك
أقام جميل الصبر في السجن برهة *** فآل به الصَّبْر الجميل إلى الملك

 

 

  • الرضا عملٌ قلبي راجح! في الحديث: «ولو أنفقتَ مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، ولو مِتَّ على غير هذا لدخلتَ النار»[5].

وفي هذا إشارة إلى أن أعمال القلوب أهم وأثقل من أعمال الجوارح، فإنفاق آلاف الأثقال ذهبا في سبيل الله مع مشقته لا يساوي عند الله ما يحويه قلبٌ من كنز اليقين، وما أرقَّها من لمسة حانية تضمِّد جراحك، وما أبردها من نَسْمة لطيفة تبرِّد حرارة مصابك حين يقول لك نبيك صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن ما أصابك لم يكُن لِيُخطِئك» لتكون تسلية لك عند حصول المكروه لتصبر، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «وما أخطأَك لم يَكُن لِيُصيبك» فهي تسليةٌ لك عند فوات المحبوب لترضى.

  • يحمد الله على الْمُصِيبَة! 
    قال شُرَيْح القاضي مفشيا سر حصوله على كنز الرضا، ومُهدِيا لنا ثمرة تأملاته وكنز إيمانياته: "إنِّي لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عز وجل عليها أربع مَرَّات، أحمده إذْ لم تكن أعظم مِمَّا هِيَ، وأحمده إِذْ رَزَقَنِي الصَّبْر عَلَيْهَا، وأحمده إِذْ وفقني للاسترجاع لما أَرْجُو فِيهِ من الثَّوَاب، وأحمده إِذْ لم يَجْعَلهَا فِي ديني"[6].

 

[1] زاد المسير 4/293
[2] المستطرف 1/79
[3] تفسير الزمخشري 4/479
[4] عيون الأخبار 2/403
[5] صحيح: رواه أحمد وأبوداود وابن ماجة وابن حبان عن أبي بن كعب وزيد بن ثابت وحذيفة وابن مسعود كما في شرح الطحاوية رقم: 629
[6] تسلية أهل المصائب  1/17