حديث الأسوة

دعونا اليوم نتحدث حديثاً يرتفع فوق الخلاف الفقهي، ويسمو أعلى من البحث العلمي، تعالوا بنا نستمع إلى أرقِّ خطاب نطق به بشر، وأكثره عاطفة، وأعذبه صوتاً.

كان هذا الخطاب موجّهاً لصحابي من قبل النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلّم: «أمَا لكَ فِيّ أسوة؟!» عن الأشعث بن سليم قال: "سمعت عمَّتي تُحدِّث عن عمِّها أنه كان بالمدينة يمشي فإذا رجل قال: «ارفع إزارك فإنه أبقى وأتقى» فنظرتُ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إنما هي بردة ملحاء؟ قال «أما لك فيّ أسوة؟!» فنظرت فإذا إزاره على نصف الساق، قال ابن حجر: "وقوله مَلْحاء بفتح الميم وبمهملة قبلها سكون ممدودة أي فيها خطوط سود وبيض" أهـ.

في صميم قلبي لا أستسيغ داعية -ولو بلّ بدموعه الثرى- لا يتأسى به صلى الله عليه وسلّم في ظاهره، كما نحسبه كذلك في باطنه.

حين أعرِضُ دموع الداعية وصراخه وعويله على تأسيه يؤسفني أن أقول: إنّه يكذب على نفسه وعلى الناس.

أعلم يقيناً أنّ البعض لا يروقه مثل هذا الكلام، وأنّ سيف الخلاف سيُشهر عليّ، لكني أعود بهم إلى أساس المقال لأقول:

لماذا الخلاف دائماً تكون ضحيّته السنن النبوية؟!

فحلق اللحية وتخفيفها، والإسبال في الثياب، والتخفف من القيود مع المخالفين للسنة، والتساهل في أحكام النظر للنساء والجلوس معهنّ والاختلاط، وغير ذلك من المسائل التي اعتدنا ذبحها بسكين الخلاف وتعليق جثتها على مشجب الاستنارة وسعة الأفق، وصُنْعَ خيمة من جلودها، من استظل بظلها فهو واسع الأفق وسطي معتدل، ومن لا فلا!

وحين أتحدَّث عن التأسي فإنّي لا أضيع وقتي ووقت القارئ بحديث ترفيّ يتناول حوافّ الشريعة وهوامش الديانة، بل إني أتحدَّث عن أساس إيماني وأصل شرعي يرتبط بجذر الدين.

تأمَّل معي: قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

ماذا تفهم من هذا الربط العجيب: ربط الإيمان بالله وباليوم الآخر بالتأسي به صلى الله عليه وسلّم؟

دعني أُقِرّ -تنزلاً- بالخلاف المعتبَر في بعض المسائل.

سأُقِرُّ بالخلاف المعتبّر في حلق اللحية وتخفيفها جداً؛ لكن أين حُسن التأسي بالنّبيّ صلى الله عليه وسلّم في لحيته؟

وسأُقِرُّ بالخلاف في الإسبال؛ لكن أين التأسي بإزرته صلى الله عليه وسلّم التي كانت إلى نصف ساقه؟

وسأُقِرُّ بالخلاف في مصافحة النساء، فأين التأسي به في عدم مصافحتهنّ؟

وسأُقِرُّ بالخلاف في النظر إلى المرأة بغير شهوة؛ فأين حُسن التأسي بغضّ البصر؟

وسأُقِرُّ بالخلاف في الحجاب؛، فأين التأسي بحجاب أمّهات المؤمنين؟

مسائل كثيرة سأُقِرُّ -تنزلاً فقط- بالخلاف فيها، وسأتفهَّم -كذلك- أن ينزل العاميّ بنفسه فيها فيأخذ بالأخف والأسهل.

لكني لم  -ولن- أتفهَّم دعوى الغيرة على دين النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وشرعته وسنته مِمّن يُصِرُّ على ترك التأسي به في أشياء لا تضرّه ولا تضيره.

وحين يتحدَّث المرء عن التأسي فإنّ كل خلاف يرِدُ في حكمٍ مّا يصبح في طيّ النسيان.. بل يغيب عن الأذهان أصلاً. ولهذا لما كان صحابته صلى الله عليه وسلّم قد فَهِمُوا عنه هذه اللغة -لغة التأسي- اختفى في كلامهم -أو كاد- الحديث عن الواجب، والمستحب، والفرق بينهما، والمحرَّم والمكروه، والفرق بينهما.

«أمَا لكَ فِيّ أسوة؟!»: هذا الاستفهام الاستنكاري من النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان في شأنٍ يستخفّ به كثيرون، وهو التزام تشمير الثياب أسوة به صلى الله عليه وسلّم.

إنّه خطاب يدلُّك على مدى البُعد بين كثير مِنَّا وبين هدْيه صلى الله عليه وسلّم.

وتأمَّل جوابه صلى الله عليه وسلّم للرجل الذي استفهم عن تحفُّظ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: كأنّه يقول: أَعَلى مجرد قطعة قماش يا رسول الله؟!

لكنّه صلى الله عليه وسلّم لفت نظره إلى أنّ الأمر لا يتعلق بقطعة قماش، بقدر ما يتعلق بأمر إيماني، وهو حُسن التأسّي به في كل شيء.

أقول:

وكذلك الأمر لا يتعلق بشعرات في وجه مسلم تطول أو تقصُر؛ وإنّما تتعلق بمستوى إيمانه وحسن تأسّيه. وعلى ذلك قِس سائر تصرُّفاتنا وأفعالنا؛ أعني من كان مِنَّا يُصنِّف نفسه داعية أو طالب عِلم فضلاً عن المشايخ والعلماء.

وإذا كان هذا في شأن السنن الظاهرة فكيف في الأعمال الواجبة.

عن إبراهيم النخعي: "كانوا إذا أرادوا أن يأخذوا عن رجل، نظروا إلى صلاته وإلى سَمْته وإلى هيئته".

وقال أبو العالية: "كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيّام لأسمع منه، فاتفقّد صلاته فإن وجدته يُحسِنها أقمت عليه، وإن أجده يُضيّعها رحلت ولم أسمع منه وقلت: هو لما سواها أضيع".

وعوداً إلى حديث التأسي أقول: كان هذا منه صلى الله عليه وسلّم في شأن رفع الإزار حتى نصف الساق، لكننا الآن بُلينا بمن يتقحم المحرَّمات بدعوى الخلاف؛ فأصبح جرّ الإزار ووصوله إلى الكعبين أمراً لا تهتز له في جبين الكثيرين منّا شعرة.

وحلق اللحية وتخفيفها جداً مظهر دعوي، بل يكاد يصل الأمر بالبعض إلى الاستخفاف بالمتأسين بالنّبيّ صلى الله عليه وسلّم في كثافة اللحية أو تركها مطلقاً..

إنّ هذا المظهر نذير شؤم على الدعوة وأهل الدعوة، ودليل على بعدها عن الأخذ بأكبر وأعظم أسباب النصر الرباني، ألا وهو الأسوة واتباع السنة،  فإنّ النصر الإيماني الذي وعد الله به عباده المؤمنين لا يكون إلاّ للمتأسّين.

قد تتحقق للدعاة وأتباعهم انتصارات نوعية ووقتية، لكنه ليس النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين، وإنما هو تابع لسنة المدافعة الربانية {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة من الآية:25].

فإذا حقَّقت الجماعة نصراً معيناً، وهي بعيدة عن حبل التأسي؛ فليس هو انتصار الحق على الباطل... ذلك الانتصار الذي يفرح به المؤمنون ويقولون: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب من الآية:22]، فإنّ هذا لا يكون لمن أصرّ على تنكّب السنّة، ومخالفتها والتهاون بها والتساهل فيها، فضلاً عن التنفيرعنها؛ بدعوى تحسين صورة الإسلام، أو ترغيب الناس فيه، كما نرى من فِعال كثير من المنتسبين للعلم والدعوة، دعاة إلى السنة بأقوالهم، وهم بأفعالهم ومناهجهم أكبر ما يصدّ عنها.

أما آن لنا أن تخشع قلوبنا لذكر الله وما نزل من الحق، ومن الحق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون} [الأنفال:24].

وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرَاً} [الأحزاب:21].

والله الهادي إلى سواء السبيل.