القراءة سر الحياة والتواصل
تعتبر المعلوماتية والاتصالات عنوان مرحلة عالمية جديدة في التقنية والموارد، والقوة والتحولات الاقتصادية والاجتماعية، تماثل في تأثيرها وعمق تحولاتها مرحلتي الزراعة والصناعة في تاريخ البشرية ومسارها.
- التصنيفات: وسائل التكنولوجيا الحديثة -
تعتبر المعلوماتية والاتصالات عنوان مرحلة عالمية جديدة في التقنية والموارد، والقوة والتحولات الاقتصادية والاجتماعية، تماثل في تأثيرها وعمق تحولاتها مرحلتي الزراعة والصناعة في تاريخ البشرية ومسارها، أو هي كما وصفها (ألفن توفلر): "الموجة الثالثة بعد موجتي الزراعة والصناعة"، ويعد تقرير للأمم المتحدة (جيران في عالم واحد)، الذي أعدته لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي الكمبيوتر أهم حدث في تاريخ البشرية بعد الإسلام.
وتعتمد المعلوماتية على اللغة أساساً، أو هي محاولة تطبيق القدرات الإنسانية، التي تعبر عنها اللغة في التقنية والآلة، فكما كانت الثورة الصناعية هي محاولة تقليد عضلة الإنسان وقدرته الجسمية في آلات تؤدي الغرض نفسه ولكن بإمكانيات مضاعفة؛ فإن الكمبيوتر يحاول مضاهاة القدرات اللغوية للإنسان، وهذا يجعل اللغة أساس التقدم والبحث العلمي في المرحلة الجديدة، كما كانت الرياضيات والفيزياء أساس الثورة الصناعية، وربما يجعل هذا إعادة التفكير في الصوت واللغة والقراءة والكتابة مطلباً ضرورياً، فالتقدم الإنساني والتواصل بدأ باللغة، وعبر عن اللغة بالصوت، ثم بالقراءة والكتابة، والمعلوماتية تعيد الناس اليوم إلى أساس الحياة وأسرار التواصل والتفاعل والتقدم التي أغفلتها الصناعة.
والكتابة أساس القراءة، وقد بدأت الكتابة في سورية والعراق، كما تدل أقدم آثار معروفة للكتابة، وكان السومريون في العراق أول من أعد ألواحاً من الصلصال ينقشون عليها رموزاً ومقاطع وصوراً تعبر عن الحقائق والأفكار التي تحتاج إلى تسجيل، وربما وجد الإنسان الذي يعاني من الفناء ويتطلع إلى الخلود حيلة في القراءة تجعله خالداً، فهو يقرأ الماضي ويطلع عليه، ويقدم فكره وتجربته لمن بعده ليبقى حياً، ولكن هذا الرأي لا ينفي أيضاً رؤية للقراءة بأنها فعل إنساني عميق مستمد من الحب والعلم والشغف بالحقيقة، وكانت القراءة الصامتة الشائعة اليوم تحولاً في تاريخ القراءة، ولم تكن البداية، ويحب الغرب نسبتها إلى القديس أمبروسيوس في القرن الرابع الميلادي، ولكن في التاريخ أيضاً أن الأسكندر الأكبر قرأ في القرن الرابع قبل الميلاد رسالة وردت إليه بصمت، مما جعل جنوده يتعجبون، ومن المؤكد على أية حال أن القراءة بصوت مسموع كانت شائعة، أو هي القاعدة المعتمدة.
ويتذكر الإنسان ما يقرأه ويحفظه، وهو في ذلك ربما تدفعه أشواق الخلود والبقاء، وكان بعض الناس قادرين على حفظ ما يقرؤونه لمرة واحدة، وكان الحفظ من الحيل التي يلتف بها (فدائيو العلم) على ندرة الكتب أو منعها فتتحول الكتب إلى جزء من كيان الإنسان يستحيل نزعه، والذاكرة أيضا تجمع ما كتبه الناس وتختزنه لتقديمه إلى الأجيال اللاحقة، وكان الطبيب الروماني (آنتيلوس) من القرن الثاني الميلادي يعتقد أن من لا يحفظ الأشعار عن ظهر قلب، وإنما يرجع إلى الكتب لا يستطيع التخلص من العصارات السامة الموجودة في جسمه إلا بمجهود كبير، وبواسطة تعرق فوق العادة! في حين أن الناس المتمرنين على التخزين في الذاكرة يطردون هذه العصارات السامة عبر الزفير.
القراءة بصوت مرتفع، والقراءة بصمت، والقدرة على تخزين المفردات كل هذه قدرات مدهشة تعلمناها بطريقة لا يمكن تفسيرها، ويعتبر تعلم القراءة في كل المجتمعات نوعاً من المبادرة في مباشرة العمل ومرحلة انتقال حافلة بالطقوس من الاتكالية والمواصلة البدائية إلى ما هو أرفع وأسمى، فتعلم القراءة يفسح المجال أمام الطفل للدخول إلى قلب الجماعة، ويصبح مطلعاً على تراث الماضي المشترك.
ويستمتع الأطفال والكبار أيضاً بقراءة القصص وروايتها، وتعتبر هذه العادة جزءًا تقليدياً من تنشئة الأطفال وحفظ التراث، والاستماع هو المدخل الأول للتعليم، ولذلك فإن الذين لا يسمعون لا يتعلمون، ويمكن للمكفوفين أن يكونوا علماء وعباقرة، واستخدمت القراءة على العمال في كوبا في القرن التاسع عشر لتلافي معضلة الأمية المتفشية، وكان يعين أحد العمال قارئاً يتلقى أجراً من العمال الآخرين مقابل قراءة الصحف والكتب لهم، وكان الاستماع يعين العمال على مواجهة الروتين والبلادة، ويعلمهم أشياء إضافية، وظهر أيضًا القراء المتجولون للنصوص والأغاني الذين كانوا يطوفون في أنحاء البلاد، وكان الفلاحون والعمال في مختلف الثقافات يتجمعون في البيوت والمقاهي والحانات في المساء بعد العمل، ويستمعون إلى قارئ يتلو قصصاً عن البطولات الخارقة للفرسان الشجعان والملوك من الأسلاف، ولدينا من ذلك قصص الزير سالم وسيرة بني هلال، وأبو زيد الهلالي، وعنترة، وروايات ومنقولات تراثية أخرى يتفرد بها كل مجتمع من قصص الصحراء والبطولة والتراث والأساطير.
وتعد الكتب والمكتبات في الحضارة العربية الإسلامية من أهم الإنجازات الثقافية التي عُني بها المسلمون، وكان لها دور كبير في الحياة الثقافية والعلمية بين المسلمين وفي العالم، ويذكر (ول ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة): "لم يبلغ حب الكتب في بلد آخر من العالم إلا في بلاد الصين في عهد منج هوانج ما بلغه في بلاد الإسلام في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر".
وتطورت المكتبات ونضجت وازدهرت في القرن الثاني الهجري -الثامن الميلادي-، وبلغت ذروتها في القرن الرابع، وشهد القرن الثاني الهجري تطوير أو اختراع الورق الذي نقل الحركة العلمية نقلة مهمة وبعيدة؛ فازدهرت صناعة النشر -الوراقة- وعرفت مكتبات خاصة كثيرة مثل مكتبة خالد بن يزيد بن معاوية، والكندي الفيلسوف العربي المشهور، وأبناء موسى بن شاكر الذين كانوا علماء في الفلك والفيزياء، وابن العميد وزير البويهيين، وكانت هذه المكتبات شبه عامة.
وذكر ياقوت قولاً لابن عباد: "أن في مكتبته مائتان وستة آلاف مجلد، ثم وقف هذه المكتبة بعد وفاته لمدينة الري"، وزارها بعد ذلك البيهقي، وقال: "إن فهرسها يقع في عشر مجلدات"، وقال ول ديورانت في قصة الحضارة: "إن كتب ابن عباد كانت تفوق جميع ما في دور الكتب الأوروبية مجتمعة"، وقال ياقوت: "إن الواقدي عندما تحول من الجانب الغربي من بغداد نقل كتبه على مائة وعشرين جملاً"، والواقدي مؤلِّف كتاب المغازي (ت سنة 207هـ) قال: "ما من أحد إلا وكتبه أكثر من حفظه، وأنا حفظي أكثر من كتبي".
ومن طُرف جمع الكتب في الأندلس ما يذكره التلمساني في (نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب): "أن الناس كانوا يجتهدون في شراء الكتب وجمعها وهم لا يعرفون عنها شيئاً سوى أنها من وسائل التباهي والتفاخر، فيذكر الحضرمي أنه لازم سوق الكتب يترقب كتاباً فوجده بخط فصيح وتفسير مليح، ففرح به وجعل يزيد في ثمنه ويزيد غيره، فطلب من يزيد عليه فرآه شخصاً عليه لباس رئاسة، فقال له: أعز الله سيدنا الفقيه إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك؛ فقد بلغت الزيادة بيننا فوق حده، فقال له: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكن أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم من الرزق فهو كثير".
وكان مالكو الرقيق في أميركا يرفضون حتى مجرد التفكير في شعب أسود متعلم، ويرون في ذلك مصدراً للخطر على مصالحهم وباعثاً على التمرد، وحتى قراءة الإنجيل كانت ممنوعة عن السود، وكان هذا الحظر يشمل الأحرار السود أيضاً وليس فقط العبيد، وكانت القراءة وتعليمها تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون، وإذا تكررت فقد يعدم المعلم الأسود..!
وكان تعلم القراءة وتعليمها عمليات سرية ومعقدة وخطرة يقوم بها السود في أماكن سرية، أو بطرق ملتوية مثل سرقة الكتب وحفظ النصوص، ثم البحث عن رموزها في الكتب المسروقة، أو إبداء الإعجاب بالسادة الأطفال لتشجيعهم على إلقاء النصوص التي تعلموها، والتظاهر بمرافقتهم للتعلم منهم وسرقة كتبهم، كانت قصصاً تنم عن مغامرة وشجاعة وذكاء واستنتاج وتخمين واستفزاز غرائز التعلم، التي أودعها الله في الإنسان.
إن الكلمة قوة يدركها الطغاة أكثر من المستضعفين، ويدركون أيضاً أن الجماهير الأمية تكون سهلة الانقياد؛ فكانت عمليات حرق الكتب وحظرها والرقابة عليها، وكانت الرقابة على الكتب وما زالت رديفاً للحكم، وفي القرن الخامس قبل الميلاد أحرقت كتب بروتاغودراس في أثينا، وفي القرن الثالث قبل الميلاد أمر الإمبراطور الصيني (شيهوانع تي) بإحراق جميع الكتب في البلاد، وكان يشرف على عمليات الإعدام هذه ويتابعها بنفسه، وفي منتصف القرن التاسع عشر أسست في الغرب جمعية لملاحقة الكتب التي تشجع على الرذيلة وناشريها، وقد نجحت الجمعية في دفع الحكومات الأمريكية إلى اعتقال العشرات من المؤلفين والمثقفين، وقد انتحر خمسة عشر منهم على الأقل في السجون، وأتلفت مئات الأطنان من الكتب، وكان من أقوال (كومستوك) مؤسس هذه الجمعية: "إن العالم سيكون أفضل لو لم تكن ثمة قراءة".
ولدينا في الحضارة العربية الإسلامية المغول الذين حرقوا ملايين الكتب، والأوروبيون الذين سرقوا الكتب والآثار، وهكذا فإن القراءة لا تقدم دائماً ثراءً داخلياً، فالعملية نفسها التي تملأ نصاً بالحياة، وتستخلص منه ما يوحي به وتضاعف تنوع معانيه، وتعكس فيه الماضي والحاضر وطاقة المستقبل؛ يمكن أيضاً أن تستخدم من أجل تشويش النص والقضاء عليه، فكل قارئ من القراء يحقق لنفسه طريقة قراءته الخاصة به التي تنحرف أحياناً عن النية الأصلية للنص، لكنها لا تمثل بالضرورة تزويراً، غير أن القارئ يستطيع تزوير النص عن قصد إن أراد عند وضعه في خدمة عقيدة معينة وإساءة استعماله في تبرير الاعتباطية والغبن والعنف، وإن كان ذلك للمحافظة على منافع شخصية أو لإضفاء الشرعية على الظلم والنظم الخاطئة.
إبراهيم غرايبة