كيف بني تحريم الاختلاط؟
الاختلاط موضوع كثُر الكلام عنه، بكثرة من أباحه في الآونة الأخيرة، ممن له انتساب إلى العلم، ولن أُكثِر الجدل في هذه القضية، فأسردها على سبيل: فإن قالوا، قلنا. وهذا دليلهم، وهذا ردنا...
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة - قضايا إسلامية معاصرة -
المقدمة:
الاختلاط موضوع كثُر الكلام عنه، بكثرة من أباحه في الآونة الأخيرة، ممن له انتساب إلى العلم، ولن أُكثِر الجدل في هذه القضية، فأسردها على سبيل: فإن قالوا، قلنا. وهذا دليلهم، وهذا ردنا.
لكني سأقول كلمة مختصرة، يفهمها كل إنسان، يَعرِف ماذا أراد الله منه، وما نهاه عنه؟
سأتجاوز ما لم يقل بتحريمه أحد من الناس، وهو ما كان عفويًا غير مقصود لذاته، كالاختلاط في الطواف والأسواق والطرقات، وحضور المرأة للشهادة عند القاضي ونحو ذلك، وما كان له حكم الضرورة كخدمة النساء في الجيش وقت الحرب، حين يقل الرجال.
وسأتجه مباشرة إلى محل التحريم، ولا أقول الخلاف، فتسميته كذلك يعطي لقول المخالف قيمة، وهو لا قيمة له، فمحل التحريم هو: الاختلاط المنظَّم؛ المقصود لذاته.
وصورته جمع الطلاب والطالبات للدراسة في فصل واحد، والرجال والنساء للعمل في مكان واحد. بما يحدث به إزالة الحاجز؛ الذي هو الحجاب بين الجنسين، فيصبح هو زميلها، وهي زميلته. كصحبة الرجل للرجل، والمرأة للمرأة.
هذا النوع من الاختلاط محرم لا يشك في تحريمه عامي، فضلًا عن العالِم الصالح؛ فالأمر الذي لا يمكن التغاضي عنه: أن الغريزة الجنسية مسيطرة مهيمنة على هذه العلاقة.
فمن ذا الذي يدعي أنه لا يخف ويخفق حين يرى الشابة؟
أما الذين يصفون هذا الرأي بالشهواني، ويُشنِّعون على من يُنبِّه إليه؛ أنه لا يرى في المرأة سوى موضع الشهوة والولد. فماذا كانوا يصنعون، وهم يتاجرون بأنوثة المرأة وإغرائها وجسدها في سوق الأفلام، والمسلسلات، والدعايات، والموضة: غير الضرب على وتر الشهوة والغريزة الجنسية؟!
علينا بالحقائق التي لا تخفى على أحد، فموقع المرأة في نفس الرجل، وفتنته بها وإغراؤها، أمر أشهر من أن يستدل له. يكفي في ذلك ما نراه في المجتمع المختلط من افتتان يصل إلى السعار الجنسي، مع أن دعاة الاختلاط كانوا يقولون: الفصل والعزل يسبب السعار، والاختلاط يهذبه.
خُلِقَت المرأة مهوى الرجل، وهو هواها.. هذه حقيقة.. بعد ذلك: لو جئت بهما، فجمعتهما جُمِعا، وخلطتهما خُلِطا، ثم أردت إليهما أن يكونا تقيين، محافظين، عفيفين. فأنت كمن يضع طعامًا بين يدي جائع، ثم تقول له: صُمْ ولا تُفطِر، وإياك إياك أن تبلَّ يدك بالأدم.
نأتي إلى نصوص وردت، تسببت في اضطراب المبيحين؛ الذين كانوا يُحرِّمون الاختلاط قبلًا.
في تلك النصوص إخبار باختلاط الرجال والنساء، وأكثر من ذلك: أن تفلي المرأة شعر الرجل، وأن يردفها خلفه على الدابة، والمصافحة، والمجالسة، والخدمة، والأكل والوضوء معا.. إلى ما شئت.
نصوص أحدثت لبسًا، حتى قيل: أين كانت قبل، لم بقيت حبيسة، لم نهتد بها إلى اليوم؟
هي اليوم فتنة عمياء يعصم الله منها صاحب الدين، وصاحب العقل يعصمه عقله، لكن البلية إذا خلي منهما، فكان كمثل القائل: "فخر عليهم السقف من تحتهم". لا عقل ولا نقل.
إن علة خطأ المبيحين: أنهم لا يعرفون كيف تُبنى الأحكام الشرعية. فالأحكام بناء كبناء البيت، لا يكفي جمع مواده ليصلح للسكنى، إنما بمعرفة وضع كل مادة مكانها، هنالك يكون مأوى وملاذًا، وعند عامة الناس علم عام بمواضع البناء، من دون إحكام، لا يحكمه إلا المهندس الخبير. كذلك بناء الأحكام الشرعية لا يحكمه إلا العالِم الراسخ.
والذين تكلموا في إباحة الاختلاط أبانوا عن جهل بطريق بناء الحكم، بظنهم أن مجرد وقوفهم على نص ظاهره أو حتى باطنه مبيح، يكفي في استخراج حكم بالجواز.
ولو صح ظنهم لكان لازمه الذي لا ينفك، إباحة الخمر، حيث إن فيه نصوصًا ظاهرها وباطنها جواز شربه، كقصة حمزة عمّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا شرب الخمر وصار يقول للجمع، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنتم إلا عبيد أبي".
وإباحة أشياء أخرى فيها مثل ما في الخمر، ولأجله لا يصح -ديانة- لمن لم يَعرِف الطريق أن يتطفل عليه، حتى يتفقه ويَعرِف طرق التأويل والاستنباط والقياس، ويتعلم الأصول والقواعد الفقهية، ويحيط بالناسخ والمنسوخ وما كان أصلًا أو استثناءً، وحال الضرورة والسعة، ومراتب الأوامر النبوية.
والاختلاط فيه نصوص متعارضة، وليس هو بدعة في هذا، بل لو نظرت في سائر الأحكام الشرعية لوجدت فيها من التعارض ما في الاختلاط بل أشد، فلو أعملت نصوص الإباحة، عطلت نصوص التحريم. ولو أعملت التحريم عطلت الإباحة. فكان لا بد من الجمع والدراسة. فكيف ذلك؟
بني تحريم الاختلاط وتأسس وتأصَّل وِفق أنواع منوعة من النصوص، وهي نصوص في غاية الرسوخ والثبوت والقوة، محكمة قطعية: قولية، وفعلية مؤيدة بالقولية، متأخرة ناسخة، أصل وأساس وقاعدة، لا يملك أحد تبديلها ولا تحريفها.
وهي نصوص دالة على التحريم، إما بالمطابقة، أو التضمن، أو اللزوم، فقد احتوت على أنواع الدلالات الثلاث كلها.
فأما الإباحة فبُنِيَت على نصوص متشابهة ظنية: فعلية لا قولية، استثناء، وحالة ضرورة، متقدمة منسوخة، وبعضها ليست مصدرًا للتشريع؛ كونها ليست صادرة من صاحب الشريعة، بل ممن يؤخذ من قوله وفعله ويرد.
وسأعرض كيف بني التحريم، ثم الإباحة؛ ليتبين لمن اتسع إدراكه وخلي من التخبط والميل، فرق ما بين البنائين؛ بنيان تأسَّس على المحكمات القطعيات، وبنيان تأسَّس على المتشابهات الظنيات.
نصوص التحريم:
إن التحريم تأسَّس وِفق:
نصوص القرار، والحجاب، وغض البصر، والتحذير من فتنة النساء، والمباعدة بين النساء والرجال.
فأما القرار، فدليله قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب من الآية:33].
وحِكَمُ القرار متعددة، منها: التباعد عن الرجال.
يدل على هذه الحكمة قوله عليه الصلاة والسلام: «
» أي: زيَّنها في أعين الناظرين (صحَّحه الالباني في صحيح الترمذي). وهذا ما يحصل حقًا، فإذا قرّت فلم تخرج إلا لحاجة أو ضرورة قلَّلت فُرَصَهُ لاستشرافها، فإذا ما خالطت لم يعد للقرار معنى؛ فإذا ما نسب للشارع إباحة الاختلاط، تبادر إلى الذهن، كيف يأمر بالقرار ثم يبيح الاختلاط؟!ولذا فمن أباح الاختلاط، ادعى أن الأمر بالقرار خاص بأزواج النبي عليه السلام... هكذا؟!
نعم، قد ورد الخطاب موجَّها إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لكن حكمه عام، بدلالة نصوص السنة؛ ففي أحاديث كثيرة أمر للنساء بالقرار، كحديث أم حميد الساعدي، وفيه: «
» (رواه الإمام أحمد).قال القرطبي: "معنى الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة".
ولم يرد عن أحد من المتقدمين -مفسرين وغيرهم- قصر الحكم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال ذلك بعض المحدِثين، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ولو كان الحكم خاصًا بالأزواج لكون الخطاب جاء لهن، لكانت الشريعة كلها خاصة بالصحابة، حيث كان الخطاب إليهم حينئذ.
وأما نصوص الحجاب. فقوله تعالى:
- {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب من الآية:53].
- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب من الآية:59].
ومن المتفق عليه بلا خلاف: أن النساء مأمورات بالاستتار عن أعين الرجال؛ فالحجاب من الحجب وهو المنع والحجز، وذلك بستر البدن وتقاسيمه وتفاصيله، فيشترط فيه جلباب:
- سابغ لستر البشرة.
- وواسع لستر تقاسيم البدن.
فكيف يمكن الامتثال لهذا الحكم في بيئة مختلطة؟
إن ذلك لمحال؛ لأن الحجاب مجرد خرقة وقماش ينسدل على بدن المرأة، يتحرك بحركتها، فانكشاف شيء من بشرتها، أو بدوّ تفاصيل وتقاسيم بدنها وارد بل حاصل، إنها لا تأمن ذلك وهي تمرُّ في الطريق والسوق مرور الكرام، فإذا صارت في اختلاط منظم، فمن المحال أن تحترز، وهي المضطرة للقيام والقعود، والدخول
والخروج، والانحناء والالتفات على الدوام؛ لطول المكث، وللحاجة إلى ذلك.
وهذه سمة في الاختلاط المنظم: طول المكث لساعات قرب الرجال.
فالتستر في الاختلاط تكليف بما لا يطاق، والله إذا حرَّم شيئًا حرَّم وسائله؛ حرَّم الخمر فحرَّم بيعه وشراءه. وحرَّم الربا فحرَّم كتابته والشهادة عليه، كذلك حرَّم على المرأة إبداء زينتها، وحرَّم كل وسيلة وذريعة محققة إلى ذلك، كالاختلاط الطويل.
فتحقيق الحكمة من الحجاب -ستر البشرة وتقاسيم البدن- في اختلاط منظم متعذر غاية التعذر، وما كان الشارع ليأمرها بالاستتار، ثم يبيح لها الاختلاط، إن هذا عين التناقض، ولا تناقض في الشريعة. قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
وأما نصوص غض البصر:
فقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30-31].
غض البصر من الرجال عن محاسن المرأة؛ سواءً البشرة إذا انكشفت، أو تقاسيم البدن إذا بدت من وراء الحجاب: مأمور به.
وسواء قيل بوجوب تغطية الوجه والكفين أم لا، فإن غض البصر واجب عن سائر البدن.
والشاهد من هذا الدليل: أن الغض متعذر بل ممتنع في الاختلاط المنظم؛ لطول المكث في مجلس واحد، فصرف البصر من كليهما غير ممكن، وتحوط المرأة في حجابها شاق؛ إذ طول المقام يلجئها إلى تغيير أوضاعها، مما سيبدي حتمًا ما يجب ستره.
فما كان الشارع ليأمر بغض البصر من كليهما، ثم يبيح اختلاطهما على هذه الصورة، فإن في الإباحة تحريضًا وتيسيرًا للنظر، وإتباعه بنظرة أخرى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الألباني).
» (رواه الترمذي، وصحَّحهفالمختلط إذا قدر على الغض في الأولى، فهل سيصمد في الثانية، أو الثالثة إلى المائة، وهي كذلك، هما كل يوم في لقاءات مستمرة لساعات طويلة، قد تبلغ الثمان والعشر؟
وعن نصوص التحذير من فتنة النساء؛ قال صلى الله عليه وسلم:
- «البخاري).
» (رواه- «
» (رواه مسلم).وصف المرأة بأنها فتنة؛ بمعنى أنها إغراء للرجل، تقوده إلى مواقعتها، بقصد منها أو حتى بدون قصد؛ إذ هي بذاتها مصدر إغراء له، حتى لو لم ترد إغراءه، وبهذا صار للنسل امتداد وبقاء، فإغراؤها ليس عيبًا ولا نقصًا، بل مطلب في المباح لتحقيق مصالح للرجل والمرأة من التمتع والرحمة والمودة والذرية.
وأمر باتقائها؛ والمعنى: اجتناب فتنتها وإغرائها، ليس المنهي مواقعتها بالفاحشة فحسب، بل باجتناب المقدمات أيضًا، من: نظر، وكلام لين، وسماع بتلذذ، ولمس باليد إلى غير ذلك. فقد نهى عن كل هذه المقدمات، وأبلغ حين قال: «
» (رواه مسلم).فوصف مقدمات الزنا بأنها من الزنا، باعتبار أن مآلها إلى ذلك، أو المعنى كل عضو زناه بحسبه، فالعين لا تقدر على أكثر من النظر، والأذن لا تقدر على أكثر من السمع، وهكذا اللسان واليد والرجل، فكان كل تلذذ بالمرأة ليست حليلة هو كذلك.
وفي الاختلاط من ذا الذي يَسلم من زنا العين، والأذن، لو سَلِمَ من اللسان واليد والرجل. فإن سَلِمَ فكم هو عدد السالمين مقابل المفتونين. ولم كل هذا العناء في فتح الأبواب على الفتنة، ولا مصلحة مرجوة من الاختلاط، وكل هدف وغاية يمكن الوصول إليها من غيره؟
أَمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم باتقاء النساء، ووصفه بأنهن فتنة، حكم ضمني بتحريم الاختلاط بهن؛ إذ الاتقاء فيه غير متحقق، والفتنة حاصلة، والحقائق يتعذر تكذيبها إلا من مغالط أو مطبق في جهالة.
وعن نصوص المباعدة بين الجنسين، وهي كثيرة، تنص وتتضمن منع الاختلاط المنظم وهي على قسمين:
- الأول: نصوص قولية، تتضمن الأمر بالمباعدة بينهما.
- الثاني: نصوص عملية، تتضمن تطبيق الفصل والمباعدة عمليا.
ففي الصلاة باعد بينهما، فجعل صفوفهن في المؤخرة، وقال مؤكدا وقاصدا ومرغبا في المباعدة بينهما فقال صلى الله عليه وسلم: «
» (رواه مسلم).فماذا يفهم من هذا القول، وهذا التطبيق العملي؟ هل يفهم منهما تسويغ الخلط بالقصد والعمد؟!
هذا من الأدلة على تحريم الخلط المنظم، فالصلاة نظام، في كل يوم خمس مرات يجتمع الناس على هيئة واحدة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يباعد بينهما قولًا وعملًا، ويحذِّر حتى مما ليس في قدرة أحد تحاشيه، فالمتأخر ليس له إلا الصفوف الأخيرة، والمبكرة ليس لها إلا الصفوف الأولى، ومع ذلك جعلها عليهن شر الصفوف، وعليهم كذلك.
فمن فهم هذا تساءل:
كيف يمكن أن ينسب إلى الشارع إباحة الاختلاط المنظم في تعليم أو عمل، وهو يرى هذا الحرص البالغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفصل في الصلاة قولًا وعملًا؟
ثم جعل لهن بابًا، فقال: «الصحابة بعدها (رواه أبو داود)، وكان إذا انصرف من صلاته مكث قدر ما ينصرف به النساء من المسجد، ثم ينصرف إلى الناس، وهم لا ينصرفون إلا بانصرافه، حتى لا يختلطوا عند أبواب المسجد.
». فما دخل منهكذلك هذا منع للاختلاط المنظم؛ إذ الدخول والخروج من المسجد يتم في اليوم خمس مرات.
عن أم سلمة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم قام النساء حين يقضي تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيرًا قبل أن يقوم" (رواه البخاري).
قال الزهري: " نرى أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال".
وأكثر من ذلك؛ كان يأمرهن بالمشي في حواف الطريق، وأن يدعن الوسط للرجال، فيفصل بينهما حتى في الطرقات، فهذا الاختلاط عفوي غير المنظم، ثم مع ذلك حبذ لهن التجافي عنه وتحاشيه.
عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: «
». "فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به" (رواه أبو داود وصحَّحه الألباني).بعد ذلك؛ نأتي إلى الاختلاط في العلم، فقد كان مجلسه للعلم للرجال وحدهم، مما حدا بالنساء أن يطلبن يومًا للتعلُّم، فخصهن بيوم، ولم يأت بهن في مجالس الرجال؛ لينهلا سويًا في مجلس مشترك مختلط، أليس هذا دليلًا صريحًا في منع المنظم من الاختلاط؟
ألم يكن في القدرة الجمع بينهما؛ لتنال المرأة القسط ذاته من العلم الذي يناله الرجل، وهي بين أطهر الناس وأعلاهم دينًا وعِلمًا؛ الذين زكاهم الله تعالى ورضي عنهم؟
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم، غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك. فوعدهن يومًا لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: «
هذه هي نصوص التحريم، أنواعًا منوعة، كل نوع منها تحته أفراد كثيرة من الآثار محكمة الدلالة، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن له، من بيان تحريم الاختلاط المنظم المقصود بين الجنسين.
وهي نصوص دالة على التحريم إما بالمطابقة، أو بالتضمن، أو باللزوم. فقد احتوت على أنواع الدلالات الثلاثة كلها.
فنصوص المباعدة والفصل بين الجنسين، دالة على تحريم الاختلاط بالمطابقة؛ أي طريق مباشرة، فهي نص في المسألة، فلم يكن منه صلى الله عليه وسلم سعي ولا حرص على خلط الرجال والنساء في مجلس واحد، فلم يكن في مجلسه إلا الرجال، إلا استثناءً وعرضًا، كأن تأتي سائلة، أو شاكية، أو مستفتية، أو واهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن في مجلسه للشورى والعلم والتخطيط والمدارسة عائشة، ولا حفصة، ولا أم سليم، ولا صفية بنت عبد المطلب عمته، بل ولا ابنته فاطمة رضي الله عنهن. وقد كنّ خيرة النساء مبشرات بالجنة. وهكذا مجالس أصحابه الخلفاء الراشدون من بعده خالية من العنصر النسائي.
ولم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم، دعوته تُجَّار الصحابة توظيف بنات الصحابة الفقراء في تجارتهم لسد عوزهن، ولا إرسالهن إلى الآفاق وحدهن للدعوة أو التعليم أو العلم، بل لما خرجت امرأة إلى الحج وحدها، أمر زوجها -وكان قد اكتتب في غزوة- أن يدع الغزوة ويلحق بها.
ونصوص الحجاب تضمنت تحريم الاختلاط.. فإن الحجاب معناه الحجز والفصل والمنع، وفي الاختلاط ينتفي هذا المعنى، وإنما سمح بالاختلاط العفوي -بالرغم من أنه تقارب ينافي معنى الحجاب- للضرورة والحاجة ورفع الحرج عن الأمة، فهو استثناء وليس بأصل، فإذا لم يكن ثمة ضرورة.. فالتباعد والتجافي.
كذلك نصوص القرار، فقد تضمنت التحريم، فقد أمرت المرأة بالقرار للتباعد عن الرجال..
وأما نصوص غض البصر، فهي دائرة بين التضمن واللزوم:
فيمكن القول: إنها تضمنت منع الاختلاط؛ لاستحالة غض البصر في الاختلاط.
ويمكن القول: إنه يلزم عنها عدم الاختلاط؛ لتعذر ومشقة غض البصر حينئذ.
وكلا الحالين يمثلها فئة من الناس، فمن الناس من يستحيل في حقه غض البصر؛ لولعه بالنساء، وهؤلاء كثيرون موجودون متعطشون. ومن الناس من يشق عليه جدًا، فهذا في معاناة لا يعلم بها إلا الله تعالى. فلذلك للدلالتين في هذا النوع نصيب.
فأما نصوص الفتنة والاتقاء، فقد دلت على التحريم من طريق اللزوم، فيلزم لمن أراد أن يتقي فتنة النساء، التباعد عنهن وعدم التقارب إلا بقدر الضرورة والحاجة، وما كان بغير قصد.
كل هذه الأنواع من الأدلة تجاوزها المبيحون، ولم يقدروها حق قدرها وجلالتها وهيبتها، فإنه من العسير جدًا ردها، أو إبطال دلالتها الظاهرة، وهي كافية في تأسيس الحكم، فلو أتى ما يشكل عليها، فالواجب طرحها أو تأويلها، كما تطرح النصوص التي أشكلت على عدالة الصحابة أو تُأَوّل.
هذه النصوص هي التي بني عليها حكم التحريم، فإنها صحيحة ثابتة، صريحة محكمة، وبمثلها تقوم الأحكام: فهي آيات قرآنية، وأحاديث نبوية ثابتة، والطعن في صحة بعض منها لا يضر؛ فليست حديثًا واحدًا ولا حديثين، ليظن مبيح الاختلاط: أن بتضعيف بعضها يسقط تحريم الاختلاط.
كلا؛ بل أحاديث كثيرة منوعة، مروية في السنن والصحاح وفي البخاري ومسلم؛ أهم مصدرين للسنة تلقتهما الأمة بالقبول، إذا لم يقم بالحكم حديث قام به غيره، وأسندته أحاديث كثيرة ثابتة.
ثم إن تلك النصوص صريحة محكمة؛ لا تحتمل إلا معنى واحدًا.
وإن أول سؤال يرد هنا بعد هذا التأسيس لتحريم الاختلاط، بمثل هذه النصوص الوفيرة المنوعة:
ما جواب المبيحين عنها، وما موقفهم منها، هل قبلوها، أم أعرضوا عنها، أم حرَّفوا معانيها؟
الجواب:
لما كانت من الوضوح بمكان، عمد مبيح الاختلاط إلى تأويلها، وصرف معانيها إلى ما يتوافق والاختلاط، أو الإعراض عنها؛ لأنه عسير الجمع بينهما.
- ادعوا أن حكم القرار خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أتوا في هذا بالعجب، وأفصحوا عن قلة فقه وبصيرة بمعاني الأوامر الإلهية، فإن عمدتهم في هذا: أن الخطاب توجه إلى الأزواج.
ويرد على مذهبهم هذا من وجوه:
الأول: أنه يلزم عن قولهم هذا، أن كل خطاب توجه إلى أحد بعينه، فحكمه خاص به، وحينئذ فالشريعة كلها خاصة بالصحابة؛ لأن الأمر الإلهي نزل يخاطبهم حين نزل، فمن بعدهم لم يأت بعد.
وما هكذا سبيل العلماء... سبيلهم أن الحكم يخص المخاطب بشرط هو: إذا ورد دليل آخر يدل على الخصوصية. وقد قال تعالى مخاطبًا الأزواج: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}. فهل سيدّعون أن النهي عن التبرج أيضًا خاص بالأزواج؛ لأن الخطاب توجه إليهن؟
الثاني: دلَّت أدلة أخرى على: أن الحكم يعم جميع النساء. كحديث أم حميد الساعدي: «
». فتأكد أن مخاطبة الأزواج لم يكن بغرض اختصاصهن بالحكم.الثالث: لم ينقل أحد من المفسرين أن الحكم بالقرار خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال القرطبي: "الشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة".
الرابع: قيل لهم: لم خص الأزواج بالقرار؟ قالوا: لحرمتهن ومنزلتهن.
فيقال لهم: هذه الحرمة والمنزلة تشمل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شك. فيجب عليها القرار أم لا؟
فإن قالوا: يجب عليها القرار. فهاهم أدخلوا من لم يتوجه الخطاب إليه، فبطل قولهم بالتخصيص.
وإن قالوا: لا يجب عليها القرار؛ لأنها لم تخاطب. بطل تعليلهم، وما بني عليه من التخصيص.
فكيفما قدرت، فقولهم باطل.
- لكن ماذا صنعوا بالحجاب، وهو أصرح الأدلة على منع الاختلاط؛ إذ لا معنى له ولا فائدة مع إباحة الاختلاط، فالحجاب هو الفصل والمباعدة، والاختلاط عكس ذلك؟
لما كانوا في هذه الإباحة للاختلاط المنظم متناقضين مع معنى الحجاب والحكمة منه، صاروا إلى القول بالتخفف منه، حتى يتلاءموا مع هذا الوضع الجديد، المناقض للحجاب، فمن كان يقول بوجوب تغطية الوجه، رجع إلى القول بالكشف، ومن كان يقول بكشف الوجه، وأفضلية تغطيته، عاد يقول: الأحسن الكشف، حتى تقدر على أداء مهامها دون عائق بصري، قد ينتج عنه خطأ وكارثة.
حتى وصل بها الحال إلى حجاب يغطي الرأس فحسب، ثم تلبس ما تشاء من قميص وإزار حتى "البنطلون"، ولو بدا تفاصيل الجسد؛ أي جعلوا مجرد ستر البدن هو الفرض دون تقاسيمه وتفاصيله، وهذا بالاتفاق منكر، فانتشر هذا واشتهر، فأنكروه أولًا على خجل، ثم سكتوا، ثم قبلوه وأقروه؛ بأن الواقع الجديد يتطلب هذا النوع من الحجاب، وهكذا دخلوا في فكرة عصرنة الإسلام؛ أي تطويع أحكام الإسلام بما يناسب أحوال العصر.. صار العصر هو الإله؟!
ومن الدليل على هذا: تجويزهم -بل دعوتهم- للمرأة المشاركة في الأولمبياد الرياضية، وبالقطع لن تستطيع المشاركة بالحجاب الشرعي السابغ، إنما بحجابهم العصري المجسم المقسِّم للبدن.
وتجويزهم المشاركة في التمثيل، والغناء بين الرجال، إلى غير ذلك...
صاروا إلى القول بأن للمرأة أن تمارس كافة النشاطات -بلا استثناء- بين الرجال... "بحجابها"؟!
وهكذا هدموا الحجاب نفسه ونقضوه، بعدما هدموا معناه بإباحتهم الاختلاط، فما عاد حجاب هؤلاء النسوة والفتيات كحجاب الصحابيات والمؤمنات، وكما جاء الوصف في القرآن جلبابًا يغطي من الرأس حتى القدم، واستقر عليه تفسير الصحابة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
قال ابن عباس رضي الله عنه: "أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة".
فأين هذا من حجاب ليس إلا الخمار فحسب، لا يغطي إلا شعر الرأس والعنق، وبقية البدن خالٍ من الجلباب، ظاهر المفاتن لكل عين؟
ولا عجب من الوصول إلى هذا الحال؛ فهو يؤكد ما تقدم: أن الحجاب والاختلاط المنظم يتنافيان.
- أما عن موقفهم من نصوص غض البصر. فلما علِموا استحالة غض البصر في الاختلاط، حرَّفوا معنى الأمر الإلهي؛ ليتلاءم مع حياة الاختلاط.
فعندهم: يغض بصره إذا خشي الفتنة.
فانظر إلى هذا التحريف البيّن: أمرت الآية بغض البصر ابتداءً؛ منعًا للفتنة...
وهم يبيحون النظر والاسترسال، حتى إذا خشي الفتنة، أمروه بالكف.
فمن يتبعون: الآية، أم أهواءهم؟
- وعن نصوص الفتنة والاتقاء للنساء، هم يغضون البصر، ويكفون عن التأمُّل.
ونحن نتكلم عن المنتسبين للعلم والدعوة، أما غيرهم فيسخرون منها، وهم يعلمون أنها كلام نبوي شريف قاله ونطق به من لا ينطق عن الهوى، فيقولون: لا يزال فينا إلى اليوم من يعتقد أن المرأة عورة، وأنها فتنة؟!
- وإذ نأتي إلى نصوص المباعدة والفصل، فإنهم كانوا أشد إعراضًا لها.
ألقوها خلفهم ظهريا، ولم يرفعوا رأسًا بفصله صلوات الله وسلامه عليه بين النساء والرجال في المساجد، وعند أبوابها، والطرقات، وفي مجالس العلم، وفي المواعظ والدروس والشورى والسفر والحضر والتجارات والأعمال.
إنما عارضوها بما ظنوه مبيحًا للاختلاط، في الطواف والأسواق والجهاد، ولم يتفكروا:
إذا كانت هذه تبيح وتلك تمنع، فكيف جاز لهم تقديم الإباحة وتعطيل المنع، فأيهما الأولى بالتقديم؟
كان الأولى بهم النظر، لتحديد ما يكون هو الفرض والواجب تقديمه، فإن اعتاص عليهم، قلدوا الراسخين في العلم، وحينئذ لن يملكوا إلا تقديم النصوص القولية المؤيدة بالتطبيقات العلمية -وهذه حال ووصف النصوص المحرمة للاختلاط- على النصوص العملية غير المؤيدة بالقولية، وهذه حال ووصف المبيحة، والتي فوق ذلك هي محتملة متشابهة؛ لها أكثر من معنى.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء:174-175].
نصوص المبيحين:
أتينا إلى ما ظنوا حجةً ورأيًا سديدًا.. وحين يكمل عقل المرء ودينه وفقهه، يكفيه ما مضى من تأصيل لتأسيس الحكم لديه، ومعرفة ماذا شرع الله تعالى في العلاقة بين الجنسين.
فإذا ما عرض له شيء ظاهره يخالف ما تقرَّر وتأصل وتأسس، فإنه يلجأ إلى تخريجه والجواب عنه بما يحفظ الأصل ويُقِرَّه، فهذا حال الراسخين في العلم والمؤمنين، أما حال غيرهم ممن قصر فقهه أو ممن زاغ وابتغى الفتنة، فَيَدَعون الأصل؛ ليعتنوا بالعارض الطارئ، فيجعلوه هو الأصل، على شذوذه وضعفه، فيستنبطوا منه حكمًا أصليًا ثابتًا، ينقضون به الثابت المستقر الصادر بالأمر الإلهي.
فحالهم كحال الذي بلغه: أن الحاكم أصدر مرسومًا بمنع البيع والشراء بعد الثانية عشرة ليلًا، وأعلن ذلك على الجميع، وتأكد بمراسيم أخرى، ثم مرّ يومًا فرأى صيدلية تفتح أبوابها في الواحدة صباحًا، ثم تكرَّر منه رؤية ذلك، ومر فوجد دكانًا كبيرًا يبيع في الثالثة صباحًا، إلى جانبه آخر صغير كذلك.
وفي الأثناء أخذ كتابًا قديمًا، فقرأ فيه: أن الناس في هذه البلدة يتبايعون ليلًا ونهارًا.
فاستنبط من ذلك: أن المرسوم قد أُلغي. والدليل: هذه المحَاَلّ المفتوحة، وما في الكتاب القديم من خبر. بل زاد على ذلك: عجبه من إحجام البقية عن استغلال هذا الإذن، والعودة لمنافع البيع والشراء.
وما درى هذا: أن تلك المحال مستثناة من المرسوم، لحاجة الناس الدائمة، والمرسوم على حاله من المنع. أما الدكان الصغير، فهو مخالف يستحق العقوبة، وما في الكتاب القديم، كان قبل الأمر.
والقصد: أنه ما من أمر سواءً كان إلهيًا، أو بشريًا. وإلا ويعتريه استثناءات للحاجة والضرورة، وهناك من يخرقه ويخالفه قصدًا، ومن يخالفه سهوًا ونسيانًا. فلو كانت هذه الأحوال المخالفة -بعذر أو بدون عذر- سببًا كافيًا لإلغاء الأمر، لألغيت الأوامر كلها، وما ثبت أمر ألبتة.
وهكذا أحكام الشريعة، فيها أمرٌ عام، يتأسس بالنصوص الصحيحة والصريحة في المعنى، كنصوص منع الاختلاط، ثم يطرأ عليها أحوال استثنائية، أو يوجد من يخالفها، لكنها لا ترقى أن تبطلها.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط. ثم إن ابن عمر رضي الله عنهما مرة ارتقى جدارًا، فرأى النبي عليه السلام يقضي حاجته مستقبِلًا أو مستدبِرًا القبلة. فذهب العلماء إلى قولين في المسألة:
الأول: أن هذا الفعل تخصيص لعموم النهي. فإذا كان في فضاء منع، وإذا كان دون القبلة حاجز جاز.
الثاني: أن القول مقدَّم على الفعل؛ لأن القول مقصود لذاته، ونحن مأمورون بطاعة قوله، وأما الفعل فقد يكون سهوًا، وقد يكون عمدًا، فلما احتمل، وتعذر الترجيح، بقي النهي على عمومه.
وهكذا لم نجد بينهم من عارض وضرب قوله بفعله، فعطل الأمر بالفعل، فأجاز بين البنيان مطلقًا، لكن الذين أباحوا الاختلاط خالفوا سبيل العلماء الراسخين، فضربوا قوله بفعله...
وهذا يتبين بما يلي:
إن نصوص المبيحين لاختلاط الرجال بالنساء ضعيفة في دلالتها، وهي كذلك في غير محل النزاع..
فأما كونها ضعيفة الدلالة، فلأمور أربعة هي: أنها عملية، متشابهة، مبيحة، على البراءة الأصلية.
الأول: أنها عملية.
ليست بقولية، والمعلوم عن أهل الأصول والفقهاء والمحِّدثين، من حيث المبدأ والأصل:
أن القول مقدَّم على الفعل، وأن ما كان أمرًا بالقول فهو مقصود لذاته؛ لأنه موضوع للدلالة على الأمر، بلا خلاف، وهو يدل على الوجوب بنفسه من غير واسطة.
والدليل يؤكد هذا، فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور من الآية:63]، فقال: {عَنْ أَمْرِهِ}، والأمر هو القول، قال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة من الآية:13].
فأما الفعل فإنه قد يكون مقصودًا، وقد لا يكون مقصودًا، وقد يكون عمدًا، وقد يكون سهوًا، كما تقدَّم في مثال استقبال القبلة في قضاء الحاجة، فلا يأخذ منه حكم ابتداءً، لكن القول يؤخذ منه. فقول النبي صلى الله عليه وسلم يتعدى إلى غيره بنفسه، بخلاف فعله، فلا يتعدى إلا بدليل. فإذا اجتمعا كان التمسك بقوله، وحمل فعله على التخصيص ونحوه هو الواجب.
قال الزركشي في (البحر المحيط: [6/177]): "أن يكون أحدهما قولا والآخر فعلا، فيقدم القول؛ لأن له صيغة، والفعل لا صيغة له".
والكلام نفسه بحروفه ذكره الشوكاني في (إرشاد الفحول: [2/393]).
وقال (الزركشي أيضًا: [4/198]): "مذهب الجمهور: تقديم القول:
- لقوته بالصيغة.
- وأنه حجة بنفسه.
وظاهر كلام ابن برهان أنه المذهب.
وجزم به إلكيا. قال: لأن فعله لا يتعدى إلى غيره إلا بدليل، وحق قوله أن يتعداه، فإذا اجتمعا تمسكنا بقوله، وحملنا فعله على أنه مخصوص به.
وكذا جزم به الأستاذ أبو منصور، وصحَّحه الشيخ في اللمع، والإمام في المحصول، والآمدي في الأحكام، والقرطبي وابن حزم".
قال في (الكوكب المنير: [2/202]): "وإن جهل هل تقدَّم الفعل على القول، أو تأخَّر عنه؛ وجب العمل بالقول دون الفعل؛ لأن القول أقوى دلالة على الفعل:
- لوضعه لها.
- ولعدم الاختلاف في كونه دالًا.
- ولدلالته على الوجوب وغيره بلا واسطة.
- ولأن القول يدل على المعقول المحسوس، فيكون أعم فائدة".
الثاني: أنها متشابهة.
أي محتملة لأكثر من معنى، كما سنبين في المثال الآتي، والنصوص المتشابهة لا يؤخذ من معانيها إلا المعنى الموافق للمحكم، ويطرح ما عداه، لكن المبيحين أخذوا المعنى المعارض للمحكم، وطرحوا الموافق له، عكس سبيل المؤمنين العلماء الراسخين في العلم.
الثالث: أنها مبيحة.
تقابلها نصوص تقتضي الحظر، والحظر مقدم على الإباحة؛ لأن المحرَّمات يحتاط لإثباتها ما أمكن.
قال الرزكشي في (البحر المحيط: [6/170]): "أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط؛ أن يقتضي الحظر، والآخر الإباحة، فيقدّم مقتضى الحظر؛ لأن المحرمات يحتاط لإثباتها ما أمكن، ولحديث: «
(رواه النسائي، وقال الترمذي: "حديثٌ حسنٌ صحيح)".وفيه: [6/171]: "أن القاضي بكار سأل المزني: يا أبا إبراهيم!، جاء في الأحاديث تحريم النبيذ، وجاء تحليله، فلم قدمتم التحريم على التحليل؟ فقال المزني: لم يذهب أحد من العلماء إلى أن النبيذ كان حرامًا في الجاهلية ثم نسخ، ووقع الاتفاق على أنه كان حلالًا، فهذا يعضد الأحاديث بالتحريم. فاستحسن ذلك منه".
وعلى النسق نفسه نقول: لم يذهب أحد من العلماء إلى أن الاختلاط كان حرامًا في الجاهلية ثم نسخ، ووقع الاتفاق على أنه كان حلالًا أو مباحًا غير محرَّم، فهذا يعضد الأحاديث بالتحريم؛ أي يدل على نسخ الإباحة.
الرابع: أنها على أصل البراءة.
والتحريم والحظر ناقل، والناقل عن الأصل مقدَّم؛ لأن فيه زيادة وهو الحكم بالتحريم، أما الأصل والبراءة فليس فيه حكم، بل مسكوت عنه، جارٍ على العادة.
قال (الزركشي: [6/169]): "أن يكون أحد الخبرين مفيدًا لحكم الأصل والبراءة، والثاني ناقلًا، فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل".
فدلالة نصوص الإباحة ضعيفة لواحد من هذه الأمور منفردًا، فكيف بها مجتمعة؟
أي لو فرض عدم معرفة تاريخ المتقدِّم والمتأخِّر والمنسوخ والناسخ، لكانت هذه الأمور الأربعة -منفردة أو مجتمعة- كافية في إبطال الإباحة وتقديم الحظر والتحريم، كيف وقد علم يقينًا أن هذه النصوص لا تعارض التحريم، كونها في غير محل النزاع.
فكونها في غير محل النزاع، فلثلاثة أمور:
الأول: أنها نصوص كانت قبل الحجاب.
كحديث دخوله صلى الله عليه وسلم على أم حرام وأم سليم، وإضافة الرجل وزوجه للضيف وأكلهما معه، وخدمة أم أسيد الحضور من الرجال يوم عرسها، ودخول عائشة على أبيها وبلال لما قدما المدينة وبهما حمى يثرب، ووضوء الرجال والنساء جميعًا وغير ذلك، فكل هذه عليها قرائن ثابتة تبين أنها كانت قبل نزول الحجاب في نهاية السنة الرابعة، فلا حجة فيها إذن.
فحديث أم سليم وأم حرام سيأتي تفصيله، وحديث الضيف يدل على فقر كان بالصحابة، حيث لم يتعرّض لإضافته سوى هذا الرجل، ولم يكن معه شيء هو أيضًا، إلا قوت أولاده، وكذلك الناس كانوا قبل نهاية السنة الرابعة -سنة الحجاب-، حتى فتح عليهم من الرزق بعد ذلك.
وأم أُسَيْد ولدت أُسَيْدًا، وهو معدود في الصحابة، فمن المقطوع به أنه ولد قبل الحجاب، وإلا كان عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين.
وعائشة إنما دخلت على أبيها وبلالًا في أول مقدَمهم إلى المدينة، حيث كان بها حمى يثرب، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فنقل حماها إلى الجحفة.
ووضوء الرجال والنساء جميعًا قطعًا كان قبل الحجاب، لو كان معنى "جميعًا": في آن واحد، من إناء واحد. لأنه بالاتفاق لا يجوز للمرأة تبدي للأجنبي قدمها، وساعدها حتى المرفق، ورأسها وشعرها وأذنها، وكل ذلك من مواضع الوضوء، فوضوءها عند الرجال يعني كشف كل ذلك. وكلام الشارع لا يتناقض، حيث أمرها بستر كل ذلك أمرًا صريحًا.
الثاني: أنها كانت مع محارم.
كما قد ذهب بعض العلماء في حق أم حرام وأم سليم أنهما كانتا خالتي النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع، حيث رضعن مع أمه آمنة، والتي كان أخوالها من الأنصار، وكذا في قصة المرأة التي كان تفلي شعر أبي موسى الأشعري في حجة الوداع، يحتمل أنها كانت من محارمه.
الثالث: أنها حالات استثنائية:
- فمنها ما كان ضرورة وحاجة، كخروج النساء للجهاد؛ لقلة الرجال، فلما كثروا قلَّ خروجهن، وحضورهن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم للسؤال والشكوى ونحوه، وخروجهن للسوق والصلاة والطواف والحج، كل ذلك يقع فيه اختلاط، لكن لا بد منه، فتسامح فيه الشارع، ولم يؤاخذ به.
- ومنها أن المختلطة كبيرة، بالغة سن اليأس، في مقام الأم والجدة، كما قد يقال كذلك في قصة المرأة فَلَتْ شعر أبي موسى الأشعري، وهو وجه ثان في التخريج؛ فإذا لم يثبت محرميتها له، فيحتمل أنها كبيرة لا تشتهى، وحكمها بالقطع ليس كحكم الشابة، فإن لها أن تضع خمارها، فتكشف عن وجهها غير متبرجة بزينة، كما في الآية، فإن احتيج إليها في تطبيب ونحوه فلا بأس.
وكذلك حديث سهل بن سعد في إطعام المرأة لهم يوم الجمعة، فإنها كانت كبيرة، وهم صبية، وفيه تخريج آخر: أنه لا يلزم من إطعامها جلوسها معهم، بل مجرد تقريب الطعام، وذلك لا مؤاخذة فيه.
- ومنها ما كان خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما في إرداف أسماء، وهكذا كان جواب بعض العلماء الذين لم يثبت عندهم قرابة أم سليم وأم حرام للنبي صلى الله عليه وسلم، فجنحوا إلى الخصوصية، وهو وارد، حيث عصمته من الإثم في هذا يقيني، وليس لغيره مثل هذه العصمة، ثم هو أب للمؤمنين، يزوجهن بغير ولي، كما أن أزواجه أمهاتهم. يدل عليه: أن أحدًا من الصحابة لم يقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدخول على الأجنبيات.
وهكذا نكون قد أجبنا، ووضعنا ميزانًا لحل كل ما يورده المبيحون من أدلة، لا يزالون يختلقونها اختلاقًا بأدنى صلة، وبعضها لا صلة لها بمحل النزاع أصلًا.
ومع كل ذلك، فهاك دليلًا مما استدلوا به، نعرضه ونناقشه تفصيلًا وفق الميزان، كأنموذج يقاس عليه غيره، وبه يتبين اختلال منهج المبيحين -ولا يتصور منهم غير ذلك- وأصالة منهج المحرمين.
روى البخاري في صحيحه في الاستئذان، باب: من زار قومًا فقال عندهم. حديثين عن أنس رضي الله عنه:
- "أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعًا، فيقيل عندها على ذلك النطع. قال: فإذا نام النبي صلى الله عليه وسلم أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة، ثم جمعته في سُكّ وهو نائم. قال: فلما حضر أنس بن مالك الوفاة، أوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك السُكّ، فجعل في حنوطه".
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب قباء، يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل يومًا فأطمعته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: «
-أو قال: - [يشك إسحاق] قلت: ادع الله أن يجعلني منهم. فدعا" الحديث.ظاهر الأثرين معارض، يخالف كافة نصوص تحريم الاختلاط، وأكثر من ذلك؛ فإنه يخالف صريح نهي النبي صلى الله عليه وسلم: «النكاح؛ لا يخلون رجل).
» (رواه البخاري؛ بابفكيف يكون الجواب عنهما، فإنه من المحال الأخذ بهما وإباحة الدخول والاختلاط؛ لأنه هدر لنصوص كالجبال سبقت في المنع والتحريم؟
للجواب سؤال: هل يمكن أن يكون لهذين الأثرين جواب غير أنهما يبيحان الاختلاط؟
نعم... ثمة أجوبة كلها محتملة واردة، فمن ذلك: أنها حادثة قبل الحجاب، أو أنهن محارم، أو خصوصية.
فأما احتمال كونها قبل الحجاب؛ فذلك أن الرجال كانوا يدخلون على النساء بيوتهن، حتى تزوج عليه الصلاة والسلام بزينب رضي الله عنها، فدخل الناس للطعام، فأطالوا المكث وهم جلوس، وزينب جالسة، والرسول يدخل ويخرج، حتى نزلت الآية في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا . إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:53-54]. فخرج الرجال وضُرِبَ الحجاب (رواه البخاري)، ومنعوا من الدخول بعد ذلك على النساء، وقال: « ».
فالحجاب والنهي عن الدخول ثبتا قولًا، وبه تأسَّس الحكم بالمنع من هذا الاختلاط، وبعد ذلك، فكل ما أتى من خبر فيه: أنه دخل على امرأة أجنبية بيتها. فحمله على ما قبل الحجاب هو المتوجب. إذ النبي لا يخالف إلى ما نهى عنه عامدًا قاصِدًا إلا بعذر شرعي، قال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود من الآية:88].
وبهذا الجواب؛ نحفظ للنصوص وقدرها ودلالتها ومعانيها، ونكون قد أجبنا على ما أشكل جوابًا معقولًا ممكنًا غير محال، ومهما أمكن الجواب عن المشكل بما لا يعطل المحكم الثابت، فهو الواجب، لا جواب معطل.
على أن له جوابًا آخر هو: الخصوصية. فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الفواحش بالاتفاق والإجماع، فافتتانه محال شرعًا، فلا ريبة من دخوله على النساء المؤمنات، ثم هو كذلك أب للمؤمنين والمؤمنات.
ومع ذلك، فمهما أمكن حمله على ما قبل الحجاب، فهو الأوجه والأحسن.
وقد ادعى بعضهم أن حادثة أم سليم كانت بعد حجة الوداع، بدليل ذكر الشعر، فزعم هذا أن الشعر كان مما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة في منى، فأخذته أم سليم فخلطته بعرقه في سك (الفتح: [11/72]).
لكن الروايات تفيد أنها كانت تفلي شعره، وهذا حال يمكن معه تساقط بعضه. وهكذا لا يلزم من ذكر الشعر، وقوع القصة بعد حجة الوداع.
بل في حادثة أم حرام ما يدل على أنها كانت قبل الحجاب؛ إذ فيها بشارة بالفتح ناحية البحر، وهذا دليل على امتداد الفتوحات إلى أمكنة بعيدة، ثم وصفهم بالملوك على الأسرة، وصف عزة وقوة. وقد كانت المبشرات في أوائل العهد النبوي، حيث كان النبي ومن معه يحتاجون إليها للتثبيت واليقين. أما بعد السنة الرابعة، فقد تحوَّل الأمر جذريًا من الضعف إلى القوة، حتى فٌتِحَت سائر جزيرة العرب، فحمل الحادثة على ما بعد حجة الوداع لا وجه له؛ فلا حاجة إلى المبشرات، وهم يفتحون البلدان.
وهناك ما يدل على هذا أيضًا، فقد قال ابن حجر في (الفتح: [11/78]):
" ثم قال: وإذا تقرَّر هذا، فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم، فقيل له. فقال: «
». يعني حرام بن ملحان، وكان قد قتل يوم بئر معونة".أما حادثة بئر معونة؛ فكانت شهر صفر سنة أربع، والحجاب كان في ذي القعدة من السنة نفسها، فبين الحدثين تسعة أشهر، فدخوله بعد حادثة البئر، قبل الحجاب، هو المتعين لقرب المصيبة.
وأما احتمال المحرمية، فإن الرميصاء أم سليم، أخت للغميصاء أم حرام بنت ملحان، وقد قال بعض الحفاظ: "كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة" (الفتح: [11/78]).
وقد رد الدمياطي هذا فقال: "ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أو من النسب، وكل من أثبت لها خؤولة محرمية؛ لأن أمهاته من النسب واللاتي أرضعنه معلومات، ليس فيهن أحد من الأنصار ألبتة" (الفتح: [11/78]).
لكنه هو الذاهل، فإن الزاعمين -بحسب تعبيره- قالوا: إحدى خالاته. ولم يقولوا: أمهاته.
والمقصود: أن أمه آمنة رضعت مع أم سليم، وليس هو الذي رضع، فتكون بذلك خالته من الرضاع.
ورضاعتهما معا متصور، فأخوالها من بني النجار في المدينة، وهي كذلك.
هكذا تدرس هذه النصوص والآثار المعارضة في ظاهرها لحكم أصيل محكم، وما من أثر إلا وله جواب كجواب ما سبق، ثم يبقى الاختلاط غير المقصود العفوي غير المنظم، فذلك مما وسع الله به على عباده، غير مكلف لهم ما لا يطيقون، من دون أن يكون ذريعة للتهاون.
فإن الشارع معه إباحته للاختلاط العفوي، إلا أنه استحب التجافي عنه قدر الإمكان من غير إيجاب، وذلك تبين في مواطن عديدة، منها:
- أمره النساء لزوم حواف الطريق في مشيهن، وترك الوسط للرجال.
- ترغيبهن في الصلاة في بيوتهن، مع نهيه عن منعهن المساجد.
- في إشارته أن يطفن من وراء الرجال.
فحاجات المرأة كحاجات الرجل، وانفصالها التام عن الرجال، بحيث لا تراه ولا يراها ألبتة، يفوت عليه وعليها منافع شتى، ويجلب الحرج والعسر، ويمنع من التيسير، وقواعد الشريعة وأصولها تقوم على اتساع الأمر إذا ضاق، والتيسير إذا حلت المشقة.
وعليه: فقد أجاز لها الخروج والمخالطة بما يحقق حاجاتها، من غير أن يكون ذريعة إلى المنظم أو اختلاط لا حاجة له شرعية.
لطف الله خوجه