الغاية قد تبرر الوسيلة

تقدير المصالح والمفاسد ومعرفة رتبها إنما يكون وفق المنظور الشرعي لا المنظور العقلي المجرد، أو الهوى..

  • التصنيفات: قضايا إسلامية -

قبل حوالي عشرين عامًا، كتبت مقالًا بعنوان (هل الغاية تبرر الوسيلة؟) ونفيت فيه نفياً قاطعاً أن تكون الغاية مبررة للوسيلة، واستشهدت فيه بكلام لسيد قطب يفيد: أن الغاية النظيفة لا يصح أن يتوسل إليها بوسيلة خسيسة، وقررت: أن هذا مبدأ ميكافيللي الذي لا يؤمن بمبادىء ولا أخلاق، ولا يمانع أن يستخدم الإنسان أخبث الوسائل في سبيل تحقيقه لغاياته ونزواته، وكان هذا الكلام ينسحب على كل ما يبدو أنه تنازل، أو مهادنة، أو انحناء أمام العاصفة.

  كان هذا المقال في فورة الشباب وحماسته، ويوم كانت الدنيا بين ناظري ذات لونين: أبيض، أو أسود، ولم يكن فيها مكان للون الرمادي، ثم تبين لي بعد نظرة أعمق لنصوص الشريعة، ومعرفة أكبر بغايات الدين ومقاصده، ودراسة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسياساته، والاطلاع على مختلف جوانب حياته وأحواله، أن مقولة: "الغاية لا تبرر الوسيلة" ليست على إطلاقها، وأنها تمثل النظرة المثالية للأمور بمنأىً عن الواقع المعايش، فضلًا عن أنها تنظر بعين واحدة للنصوص الشرعية، فتأخذ بطائفة منها، وتغفل الطائفة الأخرى، ولا تحاول الجمع بينها، وتغفل كون الشريعة الاسلامية في سبيل تحقيق غايات عظيمة، ومصالح كبرى قد تجيز فعل ما كان ممنوعًا في الأصل، وتمنع ما كان جائزًا في الأصل، وتقضي باتباع سياسات وقت مرحلة الاستضعاف لم تكن مقبولة وقت في مرحلة القوة والاستعلاء، وسبب ذلك أن أكثر أحكام الشريعة إنما هي أحكام معقولة المعنى، ومعللة بعلل تدور معها وجودًا وعدمًا.

 وقد اتفقت كلمة علماء الإسلام قديمًا وحديثًا على أن الشريعة: إنما جاءت من أجل تحقيق المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وأنها تدعو عند تعارض المصالح إلى تقديم أعلاها ولو بتفويت أدناها، وتطالب عند تزاحم المفاسد بدرء أعلاها ولو عن طريق ارتكاب ما هو دونها، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر، يقول العز بن عبد السلام رحمه الله "إن الشريعة كلها مصالح: إما درء مفاسد أو جلب مصالح". ويقول ابن تيمية  رحمه الله: "إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها"، ويقول ابن القيم رحمه الله: "والشريعة مبناها وأساسها يقوم على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل".

وقد صاغ الفقهاء بعد استقرائهم لنصوص الشريعة جملة من القواعد التي ينتظم تحتها العديد من الصور التي يظهر فيها الإذن باستخدام وسائل محظورة في المبدأ لدرء مفاسد أكبر منها، والتضحية بمصالح لتحقيق مصالح أكبر منها من ذلك قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات"  فحين تكون إحدى ضروريات الحياة الخمسة مهددة بالخطر فإن الشارع يبيح من المحظورات ما به حفظ تلك المصلحة الضرورية، وبهذا تكون الغاية قد بررت الوسيلة ومثال ذلك: لو وقع الإنسان في مجاعة ولم يكن أمامه وسيلة إلا أكل الميتة أو الخنزير فيشرع له أكلهما، تقديمًا لمصلحة حفظ الحياة على مصلحة حفظ الحكم الشرعي، والضرورات التي تستباح لأجلها المحظورات ليست محصورة بهذا المثال كما قد يتوهم البعض، بل إذا كان الحفاظ على نفس بشرية واحدة أباحت مخالفة الحكم الشرعي، فإن الحفاظ على حياة شعوب وأمم تتعرض لخطر الإبادة الجماعية والاستئصال أولى أن تبيح لنا بعض المخالفات.

ومن الحالات التي تكون الغاية فيها مبررة للوسيلة حالة الإكراه ومعناه: حمل الغير على ما يكرهه بالوعيد الشديد يقول الله سبحانه وتعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. وإذا كان التلفظ بالكفر جائزًا عند الإكراه فإجازة ماهو دونه في الحظر لعارض الإكراه أولى.

وقد يظن البعض أن إباحة المحظورات محصور في حالتي الضرورة والإكراه فقط، وحين تبلغه فتوى فيها تجويز لمخالفة حكم شرعي لمعنى معتبر يسارع إلى الإنكار والإغلاظ على المفتي ويتهمه بالتسيب وتمييع أحكام الدين ويقول: "أين الإكراه أو الضرورة الملجئة التي يخشى معها الهلاك والتي يستباح معها المحرم؟".

والحقيقة أن حالتيّ الضرورة والإكراه ليستا الوحيدتين اللتين يباح لأجلهما المحظور، بل هناك حالات أخرى أجاز فيها الشارع ارتكاب المحظور، من أهمها وأشملها حالة تعارض المصالح والمفاسد، بحيث لا يمكن تحقيق المصلحة العليا إلا بتفويت المصلحة الصغرى ولا يمكن درء المفسدة الكبرى إلا بارتكاب المفسدة الدنيا. ففي هذه الحالة تفوت المصلحة الصغرى، وترتكب المفسدة الدنيا ويرتفع الحرج الشرعي طلبًا لما هو أهم.

ولا يشترط لجواز ارتكاب المحظور أن تكون الحالة حالة ضرورة أو إكراه، بل بمجرد أن يكون عدم ارتكاب المفسدة الصغرى موقعا في المفسدة الكبرى يصار إلى تجويز ارتكاب المحظور، وقد عبر أهل العلم عن تلك القاعدة بقاعدة (احتمال أخف الضررين) و (أهون الشرين) و (تُدفع المفسدة العظمى باحتمال أدناهما) ونحو ذلك من العبارات، والأدلة على صحة هذه القواعد كثيرة منها:


1- ما فعله الغلام الذي دل الملك على طريقة قتله في قصة أصحاب الأخدود، فقد استجاز مفسدة قتل نفسه من أجل مصلحة هداية الناس إلى الدين الحق.
2- وما فعله الخضر عليه السلام عندما خرق السفينة؛ فقد كان في خرقه لها ضرر، ولكنه فعل ذلك ليدرأ ضرراً أشد.
3- ومنها ما جاء في شأن القتال في الأشهر الحرم قال تعالى: {يسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].


فقد أنكر الكفار على المسلمين استباحة الأشهر الحرم والقتال فيها، فرد الله عليهم قائلاً: نعم، القتال فيها كبير الإثم والجرم، ولكن الاعتداء على المسلمين والإسلام بالصد عن سبيل الله وقتل المسلمين وفتنتهم في دينهم وإخراجهم من ديارهم، كل هذا وغيره أعظم مفسدة وأكبر جرمًا عند الله من انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها، وإذا كان كذلك فإن القتال فيها ضروري وواجب لدرء هذه المفاسد الكبيرة.

4- ومن ذلك قصة صلح الحديبية، فالشروط في ظاهرها مجحفة، وفيها إدخال الضيم على المسلمين، وهذه مفسدة جعلت عمر رضي الله عنه يستشكل ذلك، لكنها احتملت لدفع مفسدة أعظم منها، وهي قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا بمكة ولا يعرفهم أكثر الصحابة.
5- ومن ذلك: نهيه سبحانه عن مسبة آلهة المشركين قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَسُبُّوا اللَّـهَ عَدْوًا بِغَيْرِ‌ عِلْمٍ} [الأنعام:108]. ففي سب آلهتهم مصلحة، وهي تحقير دينهم وإهانتهم لشركهم بالله سبحانه، ولكن لما تضمن ذلك مفسدة أكبر وهي مقابلتهم السب بسب الله عز وجل نهى سبحانه عن سب آلهتهم درءًا لهذه المفسدة.
6- ومن ذلك امتناعه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع أن الحكم الشرعي فيهم القتل خشية مفسدة أعظم وهي تحدث الناس بأن محمدًا يقتل أصحابه.
7- ومن ذلك تركه صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي بال في المسجد، حتى يفرغ من بوله؛ لأن في زجره وتعنيفه حال البول احتمال تنجيس المسجد كله، وبوله في مكان واحد تنجيس لجزء منه، فارتكب الضرر الأخف لدفع الأكبر منهما.
8- ومنها تركه صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام خشية من افتتان ضعاف الإيمان وظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعظم الكعبة.
9- ومن الأدلة على أن الغاية قد تبرر الوسيلة إجازة الشارع الكذب لمصلحة في الحالات التي نص عليها، وما يقاس عليها.
10- وإجازته الغيبة إذا كانت المصلحة المترتبة عليها أعظم من مفسدة الوقوع فيها.
11- والمتأمل في منهج الأئمة والفقهاء يرى بوضوح أن قضية الموازنة بين المصالح والمفاسد ما كانت تغيب عن بالهم أبدًا في كل ما يصدر عنهم من فتاوى.
12- فسيدنا علي رضي الله عنه امتنع عن الاقتصاص من قتلة سيدنا عثمان قبل استتباب الخلافة له لما كان سيترتب على ذلك من فتنة عظيمة واقتتال بين القبائل وسفك للدماء.
13- والفقهاء حين قرروا وجوب الصبر على أئمة الجور من المسلمين وعدم الخروج عليهم، ووجوب التسليم والطاعة للحاكم المتغلب إنما قصدوا هذا المعنى.
14- وحين فصلوا في ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنعوا منه في بعض الحالات إنما نظروا إلى ما يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة.
15- وكذا حين فصلوا في أحكام الجهاد ومنعوا منه عند عدم القدرة والاستطاعة إنما نظروا إلى ما يترتب على القتال في تلك الحالة من ضرر وأذى يلحق المسلمين.
16- وكذا حين تكلموا عن الحالات التي يجوز فيها هجر المسلم كانت أعينهم مصوبة على ما يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة.
17- وكذلك الحال عندما تكلموا في باب سد الذرائع والعقوبات التعزيرية التي أنلطها الشارع بإمام المسلمين وأميرهم، وغيرها من أبواب الفقه.
18- وفي كل الأمثلة المتقدمة نلاحظ  أمرين: الأمر الأول: أنه لأجل الغاية الأهم سوغت الوسيلة المحظورة، والأمر الثاني: أن إباحة المحظور فيها ليس محصورًا بحالة الضرورة والإكراه، بل بمجرد أن يكون البقاء على الحظر الأول مفوتًا لمصلحة أكبر، أو جالبًا لمفسدة أشد، فإنه يعدل عن ذلك.

  بعد هذا يكون قد تمهد الطريق لفهم عشرات الفتاوى الصادرة عن كبار العلماء في النوازل المعاصرة في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والطبية والاجتماعية والتربوية والتي تقوم علىى أساس اختيار أهون الشرين، ودرء أعظم الضررين، وأحب أن أثبت نموذجين منها ليفهم ما يماثلها.

جاء في موقع الاسلام سؤال وجواب ما يلي:
نحن طلاب العلم في كلية علوم الطب نسأل عن حكم الشرع في نظركم للعمل في مستشفيات مختلطة يعالج فيه الطبيب النساء والرجال على السواء مع إمكانية تجنب الخلوة المحرمة ، وكل المستشفيات في بلدنا تعمل بهذا النظام ، فما يمكن تجنب المسلم العمل كطبيب في مستشفيات أخرى للرجال فقط لعدم وجودها أصلًا في بلدنا ، وقد رأى بعضنا أن ترك عمل الطبيب المسلم بسبب هذا النظام السالف الذكر الذي ما يمكن رده فيه تعطيل لمصالح العباد ووقوع مفاسد أعظم من العمل في المستشفيات. وإننا في حرج شديد من أمرنا هذا ولم نجد جوابًا مقنعًا لهذا السؤال فعسى أن يهدينا الله للصواب على أيديكم.

فكان جواب الموقع:
إذا ابتلي المسلمون في بلد ما، بكون جميع المستشفيات مختلطة، فهذا واقع استثنائي مؤلم، يتعذر معه تطبيق الضوابط السابقة؛ إذ لابد للنساء أو لجماعة كبيرة منهن من الذهاب إلى هذه المستشفيات، وعرض أنفسهن على الأطباء الرجال، ولا شك أن القول بمنع الأطباء الصالحين من العمل في هذه المستشفيات، يعني أن يخلو المكان لغير الصالحين، ممن لا يراقب الله تعالى في عمله ولا في نظره ولا في خلوته، كما يعني حرمان هؤلاء الأطباء من فرص العمل، أو تفريغ كليات الطب من أهل الدين والاستقامة، ولاشك أن هذه مفاسد عظيمة، تزيد على مفسدة اطلاع الرجل على عورة المرأة، التي يباح كشفها للحاجة والضرورة. فالذي يظهر لنا ـوالله أعلم ـ أنه لا حرج عليكم في العمل في هذه المستشفيات، مع السعي الجاد في تغيير هذا الواقع، بإنشاء العيادات والمستشفيات الخاصة، غير المختلطة، وبذل الجهود لإقناع المسئولين والتأثير عليهم لتخصيص بعض المستشفيات للنساء، والالتزام بالضوابط الشرعية الممكنة من عدم الخلوة، وقصر النظر على موضع الحاجة.

وجوابنا هذا مبني على أمرين :
الأول: ما هو مقرر عند أهل العلم من أن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنه ترتكب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.


والثاني: -وهو متفرع عن الأول- ما أفتى به بعض أهل العلم من جواز تولي الوظائف الممنوعة؛ لتخفيف الشر ما أمكن، ومن ذلك ما أفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن يتولى الولايات، ويُلزم بأخذ المكوس المحرمة من الناس، لكنه يجتهد في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، ويخفف من المكوس ما استطاع، ولو ترك الولاية لحل محله من يزيد معه الظلم، فأفتى رحمه الله بأنه يجوز له البقاء في ولايته، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه، إذا لم يشتغل بما هو أفضل منه، وقال: "وقد يكون ذلك واجبًا عليه إذا لم يقم به غيره قادرًا عليه.

فنشر العدل بحسب الإمكان، ورفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية، يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه... " (انتهى من "مجموع الفتاوى" [30/356-360]).


ومعلوم أن أخذ المكوس محرم تحريمًا شديدًا، وهو من كبائر الذنوب، لكن لما كان في تولي هذا المسلم الصالح تخفيف للشر، والتقليل منه بحسب الإمكان، جاز ذلك.

وقد علق الشيخ ابن عثيمين رحمه على كلام لشيخ الإسلام قريب من هذا بقوله: "والمصالح العامة يجب مراعاتها، لو مثلًا تركنا مسألة الطب، وصار أهل الخير لا يتعلمون الطب، قال: كيف أتعلم الطب وإلى جانبنا نساء ممرضات ومتعلمات ومطبقات لمعلومات؟ نقول: هل أنت إذا امتنعت عن هذا هل سيبقى الجو فارغا؟ سيأتي أناس خبثاء يفسدون في الأرض بعد إصلاحها، وأنت ربما إذا اجتمعت أنت والثاني والثالث والرابع، ربما في يوم من الأيام يهدي الله ولاة الأمور ويجعلون النساء على حدة والرجال على حدة " (انتهى من شرح كتاب السياسة الشرعية [ص 149]).

وجاء في موقع الشبكة الإسلامية السؤال التالي: أنا طالب مصري، عشت حياتي كلها في السعودية، وأخذت الثانوية من هناك، وأتيت إلى مصر لأكمل دراستي الجامعية، والسؤال هو أنني يمكنني التقدم لكلية عسكرية، لكن لا بد من حلق اللحية طوال عمري، فهل يجوز التقدم لها؟ مع العلم أن التعليم في الكليات –الطب، والهندسة، وكل الجامعات– مختلط، وقد كنت أعيش في السعودية حياتي الدراسية كلها في عزل بين الأولاد والبنات، أي أن العسكرية فيها حلق لحية، والجامعات العادية فيها اختلاط، وكلاهما يحمل محظورًا شرعيًا.

فاجاب الموقع: ما سألت عنه من أمر الالتحاق بالكلية العسكرية: فمرده الى الموازنة بين مفاسده ومصالحه، ففي الالتحاق بهذا الكليات العسكرية مفاسد ومحاذير أخرى غير حلق اللحية، وفي الوقت ذاته يترتب عليه مصالح، منها أن في التحاق أهل الخير والاستقامة بهذه الكليات تقليل للشر والفساد فيها ومنها، وزيادة الخير والصلاح .. وهذا الأمر يحتاج إلى موازنة شرعية دقيقة، وأولى من يرجع إليه في ذلك هم أهل العلم الثقات المطلعون على حقائق الأمور في  بلدك، فهم أعرف بحال بلدهم، وما يحتاجه، وما يصلحه.

وقد وُجِّه إلى الشيخ ابن عثيمين في دروس (شرح العقيدة السفارينية) هذا السؤال: في بعض البلاد التي يتسلط فيها أعداء الإسلام الملحدين ونحوهم، يحاولون إزالة من كان موجودًا في الجيش من المسلمين، فيفرضون عليهم أشياء محرمة، كحلق اللحية، فيكون الواحد منهم يريد أن يبقى في مكانه يحافظ على الإسلام، ويفعل هذا وقلبه مطمئن، فهل يجوز ذلك؟

فأجاب رحمه الله: هذه المسألة مشكلة، يعني مثلًا يقول هذا الفاسق: لازم تحلق لحيتك، وإلا تخرج من الجيش، فهذا الرجل يقول: إن خرجت من الجيش حلَّ محلي فاسق، أو مبتدعٌ خطر على الإسلام مع حلق اللحية، وإن حلقت اللحية وبقيت، فبذلك مصالح كثيرة، لو لم يكن منها إلا دفع هذا المبتدع الفاسق الشرير أن يكون في هذا المقام الخطير؛ لأنه أخطر ما يكون في الجيش، أنا أتردد فيها في الحقيقة، أحيانًا أقول: اخرج من الجيش، لا خير في جيشٍ ينبني على معصية الله، وأحيانًا أقول: هذا أمرٌ واقع، فيجب أن نقدِّر الأمور بواقعها، وأن نخفف بقدر الإمكان، فهذا الرجل إذا حلق لحيته معصية لا شك، وليست معصية بالإجماع أيضًا، لاحظوا هذه؛ لأن من العلماء من يقول: إن حلق اللحية مكروه، وليس بحرام! فيقول هذا الرجل: أنا إذا حلقت اللحية بقيت في مكاني؛ أمرت بمعروف، نهيت عن المنكر، وربما تكون الدولة فيما بعد لأهل الخير، لكن إذا تخلى أهل الخير جاءنا من يحلق اللحية، ومن يفسد الجيش بعقيدته أو أخلاقه، فما رأيكم في هذه المسألة؟ أنا متأرجح، أحيانًا أقول: لا تكن في الجيش، وأحيانًا أقول في فكري: كيف تمنعهم من الجيش، وهؤلاء رجالٌ طيبون، إذا منعتهم حلَّ محلهم من الفساق والفجار والمبتدعة، والذين هم خطر على الإسلام...

 ثم ذكر الشيخ بعض المحاذير الشرعية الموجودة في التجنيد كالموسيقى، وتحية العَلَم، واحتمال الأمر بقتال المسلمين، ثم قال: فالحاصل أني أقول: يجب أن ننظر المصالح والمفاسد، أنا عندي لو بقي الجيش على استعمال الموسيقى، وحلق اللحية، وتحية العلم، وقتال المسلمين، لا شك أن هذه منكرات، لكن إذا تخلى أهل الخير عن هذا، من يأتي؟ يأتي أهل الشر الذين يفعلون هذا وزيادة، وقد سئل شيخ الإسلام عن شخص يريد أن يعمل في المكوس، وفي المكوس ظلم، فقال: "إن كان فيها من أجل تخفيف الظلم فلا بأس"، انظر كيف نظر للمصلحة العامة، وهو سيمارس بعض الظلم، لكن يريد أن يخفف... فهل نقول: إن هذا ذنبٌ مغتفر في جانب المصالح؛ لأن الشريعة الإسلامية شريعة عدل، ومقارنة بين المصالح والمفاسد، أو نقول: هم أمروا بمعصية الله، فلا طاعة لهم، ولا خير في جيشٍ ينبني على معصية الله.. اهـ. بتصرف يسير.

بقي أن نوضح أن تقدير المصالح والمفاسد ومعرفة رتبها إنما  يكون وفق المنظور الشرعي لا المنظور العقلي المجرد، أو الهوى أو نحو ذلك، وأن هذا ليس متروكًا لكل من هب ودب بل هو من اختصاص أهل العلم أصحاب الرسوخ في علم الشريعة.


عدنان أمامة 

20/5/1435 هـ