تَلَطَّــفْ ولا تُـدْهِـنْ

ناصر بن سليمان العمر

على الداعية أنْ يحمل الدين، وينشره في قالب لطيف حسن، ولا يصح الخلط بين اللُّطف في الدعوة وبين التنازُل عن ثوابت الدِّين أو التنازُل عن دعوة الناس تلطيفًا لأجواء الحياة.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

 

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على نبينا وآله وصَحْبه الكرام النُّجَبَا، وبعدُ فبعض الدعاة وطُلَّاب العلم وغيرهم قد يُخْرِجهم التلطفُ مِن حَيِّز المداراة إلى حيز المداهنة، فَبَدَل أنْ يكون ناصحًا أمينًا يسعى لمداراة الناس ليصلحهم؛ يَسلك مَسلكَ المداهنة؛ ليكسب وُدَّهم على حساب دين الله، وفرقٌ بين الملاطفة والمداراة والمداهنة.

قال ابن القيم رحمه الله: "المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذمٍّ، والفرقُ بينهما: أنَّ المُداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحقَّ أو يردَّه عن الباطل، والمداهن يتلطف به لِيُقِرَّه على باطله ويتركه على هواه. فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق، وقد ضُرب لذلك مثلٌ مطابِقٌ، وهو حال رَجُلٍ به قُرحة قد آلمته، فجاءه الطبيبُ المداوي الرفيقُ، فتعرَّف حالها، ثم أخذ في تليينها حتَّى إذا نَضجت أخذ في بَطِّها برِفْقٍ وسهولة، حتى أخرج ما فيها، ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساده ويقطع مادته، ثم تابَعَ عليها بالمراهم التي تُنْبت اللحم، ثم يَذُرُّ عليها بعد نبات اللحم ما يُنَشِّف رطوبتها، ثم يَشُدّ عليها الرباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت. والمداهن قال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسترها عن العيون بخِرْقة، ثم الْهُ عنها، فلا تزال مادتها تَقْوَى وتستحكم حتى عظُمَ فسادها". (الروح [1/ 231]).

وقد أصاب رحمه الله كَبِدَ الحقيقة، وأنت واجدٌ عند بعض المداهنين العُزُوفَ عن دعوة الحق مداهنةً، وذلك باسم التلطُّف، فكم من المهمات يُتغافل عنها رغبةً في عدم تعكير الأجواء؟!

وقد دَأَبَ أربابُ الضلال على السعي للظفر بمداهنة أهل الحق، ولم ينقطع طمعُهم في ذلك، حتى مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]، وقال سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس من اﻵية:15]، والله سبحانه يوجِّه خطابه الحاسم لنبيه صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف من اﻵية:29].

فعلى الداعية ألا يتنازل عن الدين، ثم يُخادع نفسه بأنَّه يسلك مَسلكَ التلطُّف والحكمة، بل تلك هي المداهنة المذمومة والركون المذموم للباطل، وإنْ كان لديه مشروعُ إصلاحٍ واضح، لا مجرد تعايُش في وُدٍّ ووئام مع الباطل وأهله.

إنَّ على الداعية أنْ يحمل الدين، وينشره في قالب لطيف حسن، ولا يصح الخلط بين اللُّطف في الدعوة وبين التنازُل عن ثوابت الدِّين أو التنازُل عن دعوة الناس تلطيفًا لأجواء الحياة.

ولابد أنْ نَعِيَ في مثل هذا المقام أنه كما يوجد مَن يداهن السلطان؛ فهناك مَن يداهن الجمهور، ويسعى لإرضائهم، ولا يتكلم إلا بما يطلبه المستمعون؛ حفاظًا على الْتِفافِهم حوله، وسعيًا في زيادة حبِّهم له، لا طمعًا في نَقْلِهم عمّا هم فيه، وهذا شأنه كشأن الأول، فالمداهنة محرمة أيًّا كان المداهَن، وليس التلطُّف حينها من التلطُّف الممدوح، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَن التمس رضاء الله بسخط الناس؛ كفاه اللهُ مؤنةَ الناس. ومَن التمس رضاء الناس بسخط الله؛ وَكَلَه اللهُ إلى الناس». (رواه الترمذي [4/ 609]، [2414]، وصححه الألباني).

وهناك بعض العاملين في حقل الدعوة قد دخل عليهم الشيطانُ، وبلغ منهم مبلغًا أعظم، وذلك مِن باب التلطُّف بالناس، وتحسين صورة الإسلام في نظر غير المسلمين، فبدؤوا يُؤَوّلون أخباره، ويُبدِّلون أحكامه تلطُّفًا بالآخرين، وتحبيبًا لهم في الدِّين -زعموا-، وهذا الذي ضلَّ به السابقون.

يقول ابن القيم رحمه الله: "ثم أخذ دينُ المسيح في التبديل والتغيير، حتى تناسخ واضمحل، ولم يبقَ بأيدي النصارى منه شيءٌ، بل رَكَّبوا دينًا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عُبَّاد الأصنام، وراموا بذلك أنْ يتلطفوا للأمم؛ حتى يُدْخِلوهم في النصرانية، فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسَّدة إلى عبادة الصور التي لا ظل لها". (إغاثة اللهفان [2/ 270]).

وأما الذين يُداهنون مِن أَجْل المكاسب الدنيوية؛ فما أكثرهم في سائر الأزمان، فكيف الشأن الآن؟!

يذكر بعضُ أهل الأخبار أنه لما نَصَّب معاويةُ رضي الله تعالى عنه ابنَه يزيدَ لبعض الولايات؛ أقعده في قُبَّةٍ حمراء، وجعل الناسُ يُسَلِّمون على معاوية رضي الله عنه، ثم يُسَلِّمون على يزيد، حتى جاء رجلٌ ففعل ذلك، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين؛ اعْلَمْ أنك لو لم تُوَلِّ هذا أمورَ المسلمين لأضعتَها! والأحنف بن قيس رضي الله عنه في المجلس ساكت. فقال معاوية رضي الله عنه: ما لك لا تقول يا أبا بحر؟ فقال: أخاف اللهَ تعالى إنْ كذبتُ، وأخافكم إنْ صدقتُ! فقال: جزاك الله خيرًا عما تقول، ثم أمر له بعطاءٍ، فلما خرج الأحنفُ لقيه ذلك الرجلُ بالباب، فقال له: يا أبا بحر؛ إني لأعلم أنَّ هذا فيه وفيه، ولكنهم استوثقوا من الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع في إخراجها إلا بما سمعتَ. فقال له الأحنفُ: يا هذا؛ أمسِكْ، فإنَّ ذا الوجهينِ خَليقٌ أنْ لا يكون عند الله وجيهًا.

والمقصود: لاطِفِ الناس ودَارِهِم، ولكن لإيصالهم إلى ما يحبه الله ويرضاه، وإلَّا فلا تُدْهِنْ فتَغشّ ولم تُكْرَه! وَأَرْضِ الله ولو بسَخَط الناس؛ يكتب لك رضاه، واحذَرْ سخطه؛ فَيَحلُّ عليك غضبُهُ، ومَن يَحْلُلْ عليه غضبُه؛ فقد هَوَى. أعاذني الله وإياك من ذلك ومن اتباع الهوى.

 

29 /9/ 1431 هـ