غرباء القرن الواحد والعشرين

الغرباء هم الذين يكونون صالحين إذا فسد الناس والأفضل منهم هم الذين يصلحون إذا فسد الناس

  • التصنيفات: الطريق إلى الله -

حينما تتأمل في حال العالم اليوم وترى الانغماس الذي تعيشه البشرية في الرذائل والقبائح، وترى أهل الفساد يمكرون ويُخرجون الناس عن فطرتهم، وتجد نفسك محاطة بأهل البدع والأهواء وأهل الفسوق والمجون فلا يكاد يمر يومك دونما تقرأ أو تسمع لهم، حينما تجد أن دينك مهدد من كل جهة فإن جئت للشهوات فهي تجاذبك يمنة ويسرة وإن جئت للشبهات فهي السائدة والرائجة تستقطب كلّ يومٍ العديد من المنخدعين، وتجد قلبك فزعًا قلقًا من أن يحول الله بينك وبينه في ظل هذه المغريات والتحديات حينها لا بد أن تبحث عن الزاد في الطريق ولابد للسلوان والبشرى أن تأتيك، وهذا لن يكون إلا بتدبر كلامه سبحانه وتعالى الذي جاء ليثبت به فؤاد من هو خيرٌ منا فكيف بنا ونحن الضعفاء، غرباء القرن الواحد والعشرين هم امتداد لغرباء سابقين يجمعهم رابط واحد وصفة لازمة ألا وهي (إصلاح الفساد)، لقد جاء القرآن بذكرهم ووصفهم ليحتذي السائر نحو الله به ويتسلى بمضمونه، يقول الله عز وجل فيهم: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116] فهؤلاء هم غرباء كلّ قرن، وهم الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، لقد كانت أوضح صفة لهؤلاء الغرباء هي (نهيهم عن الفساد) نهيهم عن المعاصي والمنكرات، وقد جاءت السنة الكريمة بتفسير هذا المعنى تفسيرًا واضحَا فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء؟ قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال الذين يصلحون إذا فسد الناس» قال ابن رجب: "وهؤلاء الغرباء قسمان:

أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني:  من يُصلح ما أفسد الناس، وهو أعلى القسمين وأفضلهما".

ولذا جعل الله هؤلاء الغرباء هم خير هذه الأمة إلى قيام الساعة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] ولا شك ولا ريب بأن مجمل صفاتهم كما ذكرها الله في كتابه أو بينها لنا رسولنا في سنته تدل على أنهم أهل غيرة وإصلاح ليسوا يائسين قانطين من حال مجتمعاتهم، صالحون مصلحون يحيون سنة نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، لا يجزعون من ذلهم في الدنيا، ولا يتنافسون في عزها، الناس من حولهم في حال وهم على حال، الناس في راحة وغفلة، وهم في نصبٍ يسارعون للتغيير وينادون للمعروف ويحاربون المنكر، ولو كان معروفًا بين الناس، يغارون على محارم الله أن تنتهك غيرة محمودة، يناصحون ولا يفضحون، لا يرجون دينارًا ولا قطميرًا، هم الغرباء المنتسبون لله ولرسوله وليسوا إلى طائفة أو حزب أو مذهب، تراهم أفرادًا في كل مجتمع، غرباء في ديارهم وأوطانهم، مستوحشين بين قبائلهم وعشائرهم، قام سوقهم وصاروا صفوة الناس الذين اختارهم الله لما جاؤوا به من مخالفة أهوائهم ولذاتهم ولما صدعوا به من الحق لأجله سبحانه وتعالى، فكانت المزية العظمى أن ينالهم أجر خمسين من صحابة رسول الله أجرًا غير منقوص وفضل الله يؤتيه من يشاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «إِن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم" قيل يا رسول اللَّه أجر خمسين منا أو منهم قال: بل أجر خمسين منكم». (سنن الترمذي؛برقم:3085)

فيا معاشر الغرباء:
إنّها أيامٌ قليلة ويدنو الأجل ويؤذن بالرحيل، فلا يأتي هذا الموعد وقد تخلف أحدكم عن القوم، الحذر الحذر من فتنة الشبهات التي تتزين في صورة التسامح والتعايش، إياكم ثم إياكم أن تنخدعوا بانفتاح الدنيا بزخرفها على الناس التي جعلت الفواحش والشهوات في متناول اليد فهي لا تساوي منكم تنازلاً عن شرف ما اختاركم الله له، واحذروا أن تصابوا باليأس والقنوط من غلبة أهل الباطل، وتصفيق الجماهير لأهل المجون والفسوق، فطول المدة يصنع الرجال ويمحِّص المخابر ونصر الله بعد ذلك لقريب، ولكم نصيحة من الإمام الآجري رحمه الله حَرِيٌ بنا أن نرعي لها الأسماع والقلوب.

يقول رحمه الله في كتابه صفة الغرباء: "من أحب أن يبلغ مراتب الغرباء فليصبر على جفاء أبويه وزوجته وإخوانه وقرابته، فإن قال قائل: فلم يجفوني وأنا لهم حبيب وغمهم لفقدي إياهم إياي شديد؟ قيل: لأنك خالفتهم على ما هم عليه من حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها، ولتمكن الشهوات من قلوبهم ما يبالون ما نقص من دينك ودينهم إذا سلمت لهم بك دنياهم، فإن تابعتهم على ذلك كنت الحبيب القريب، وإن خالفتهم وسلكت طريق أهل الآخرة باستعمالك الحق جفا عليهم أمرك، فالأبوان متبرمان بفعالك، والزوجة بك متضجرة فهي تحب فراقك، والإخوان والقرابة قد زهدوا في لقائك. فأنت بينهم مكروب محزون، فحينئذ نظرت إلى نفسك بعين الغربة فأنست بمن شاكلك من الغرباء، واستوحشت من الإخوان والأقرباء، فسلكت الطريق إلى الله الكريم وحدك، فإن صبرت على خشونة الطريق أيامًا يسيرة واحتملت الذل والمداراة مدة قصيرة، وزهدت في هذه الدار الحقيرة أعقبك الصبر أن ورد بك إلى دار العافية، أرضها طيبة ورياضها خضرة، وأشجارها مثمرة، وأنهارها عذبة".


اللهم اجعلنا من غربائك في دنياك، وارزقنا أجر خمسين من صحابة حبيبك ومولاك، ولا تفتنا في ديننا، وثبتنا عليه حتى نلقاك. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 بندر بن عبدالله الثبيتي